وحدة العراق
د. عبد العزيز الدوري
كلمة ألقيت بالنيابة عنه في المهرجان الذي أقيم في مجمع النقابات في عمان بالأردن بتاريخ8/10/2007، تأكيدا لوحدة العراق، وقد قدم للكلمة بالقول : "هذه كلمة التاريخ، وحين يتحدث التاريخ لا يبقى مجال لقول انتهازي أو تلفيق أو تزوير".
ظهرت في الآونة الأخيرة فكرة جديدة هي فكرة تقسيم العراق، ولم نسمع أحداً من العراقيين يدعو إليها، إنما جاءت الدعوة بناء على قرار، قالوا إنه غير ملزم، من الكونغرس الأمريكي أصدره ليحل به مشاكل العراق . يدعو هذا القرار إلى تقسيم العراق إلى كيانات ثلاثة استناداً إلى التعدد الطائفي والعنصري، مما قوبل برفض شديد عند كافة فئات العراقيين في الداخل والخارج .
إن العراق من ناحية جغرافية يشكل وحدة طبيعية متكاملة بين البحر والسهول والجبال، وبحكم هذا الموقع الجغرافي، وطبيعة أراضيه، تميز العراق عبر التاريخ بميزات اجتماعية أسبغت عليه صفة التعددية في المذاهب والديانات والاتجاهات الفكرية، والمجموعات البشرية .
وكان أهل العراق يقيمون دولة واحدة على أراضيه في آن واحد، ولم يفكر أهله ولا الغزاة بتقسيمه أو بإنكار وحدته .
ففي العصور القديمة قامت دول كبرى كالأكدية والبابلية والآشورية، ولم يجد المؤرخ اليوناني تسمية لها غير بلاد ما بين النهرين .
وتعرض العراق للغزاة من الشرق والشمال الغربي ، ولم تتأثر وحدته. وجاءت الفتوح الإسلامية العربية فأكدت هويته ، فكان موحداً في صدر الإسلام ، حتى أن إدارته وشؤون الجبهة الشرقية (إيران وأواسط آسيا) التابعة له ، كانت تعهد إلى أمير واحد .
وصار العراق بعد ذلك مركزاً للخلافة لدولة موحدة لعدة قرون ، ومركزاً للثقافة و الحضارة .
ولما ضعفت الدولة بقيام الحركات الانفصالية ، بقي العراق دارااً للخلافة ومحورها.
ولما غزا المغول البلاد الإسلامية ، واجتاحوا العراق ، لم يسعوا إلى تقسيمه، بل بقي موحداً بكيانه الاجتماعي والثقافي لأنه كيان غير قابل للتجزئة.
وتوالت الأحداث ، واستولى العثمانيون على العراق، وبقي ساحة صراع بين جارتيه الدولتين من الشرق والغرب، ولكنه بقي موحداً ، ونظم إدارياً ولكنه يعتبر كياناً خاصاً واحداً . وتتحدث الدراسات الرئيسية الحديثة (أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث) و (العراق بين احتلالين) أي العثماني والبريطاني لتقول إن العراق وحدة رغم كونه أصبح جزءاً من ممتلكات الدولة العثمانية.
ومما يؤكد وحدة العراق وكيانه، دوره التاريخي والحضاري . فقد قامت على أراضيه حضارة من أقدم الحضارات البشرية. ووضع أهله أقدم الشرائع والقوانين، بخاصة شريعة حمورابي، وهي أشهر من أن تعرف.
وفي الدولة الإسلامية، كان دور العراق رائداً في بناء الثقافة والحضارة العربية الإسلامية، ليصبح في العصر العباسي مركزاً رئيسياً لهذه الثقافة والحضارة، وملتقى العلماء والباحثين والفقهاء والأدباء. وهذا يؤكد أهمية الموقع، والبيئة الاجتماعية المفتوحة، والنشاط الفكري المتكامل، إضافة إلى المجالات الوافرة للكسب والتقدم ، والجو الآمن الذي كان يشجع ذلك، مما بقي سمة بارزة من سمات العراق، وكون نسيجاً اجتماعياً متكاملاً ، متماسكاً يتعذر تفكيكه، بل كان سبباً في إغناء الثقافة وفي ازدهار الحضارة.
أريد أن أقول إن هذه التعددية كانت مصدر قوة واستقرار، لا مصدر ضعف وانقسام ، وكانت مصدر غنى في الثقافة والبناء، ولم نسمع عن صراعات مذهبية أو عرقية ، أو حروب دينية، أو تهجير فئات وابقاء أخرى ، بل كان التعاون والتآلف والوحدة رائد الجميع .
بعد الحرب العالمية الأولى، وضعت اتفاقية سايكس- بيكو التي اقتطعت قسماً من العراق ولكن ذلك لم يطبق لأنه يناقض الواقع والإرث التاريخي .
ولكننا نواجه الآن بقرار من الكونغرس بتقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات تحت راية الطائفية والعنصرية، وبحجة تحقيق الاستقرار وحل المشاكل، متجاهلين بذلك التاريخ الطويل، وهو يناقض الإرث التاريخي لهذا البلد، وينقض أبسط الحقوق العامة لأبنائه .
ومن الطبيعي أن تعلن جل الفئات في العراق رفض هذا القرار لأكثر من اعتبار، منها :
أولاً : لأنه يقضي على دور دولة مهمة في المنطقة لها إمكاناتها.
ثانياً : يؤدي إلى تمزيق هذا النسيج المتماثل، ويخلق كيانات هزيلة، لا تستطيع تدبير أمورها، بل قد تكون هدفاً لأطماع آخرين وسبباً للمشاكل في المنطقة .
ثالثاً : لا يحل المشاكل الداخلية، بل سيكون سبباً في مقاومة داخلية شديدة وفي صراعات لا نهاية لها، بل لا يمكن في العراق أن يكون معزولاً عن المنطقة، بل قد يكون بداية لمشروع تجزيئي أوسع .