وقفات مع مطلع عام دراسيٍّ جديد
رامي بن أحمد ذو الغنى
الإنسانُ مذ خلق الله آدمَ وإلى أن يرثَ الأرضَ ومن عليها في سعي دائب، وكدح متواصل، يتعَب ويجدُّ، وينصَب ويكُدُّ، يسير برجليه إلى ما يقدِّمه بيديه؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
والموفَّق من البشَر من ينشغل عن حاله بمآله؛ فلا تُنسيه الفانيةُ الباقية، يعيش على الأرض بجسده، وروحُه تسبَحُ في ملكوت السماء، وتقبِسُ من نور السماء، وتغتَذي من وَحي السماء، فتصفو وتزكو وتسمو. تَحِنُّ أبدًا إلى الموطن الأوَّل، وترنو إلى دار الخلود، وليست تطلبُ الدار بل بانيَها؛ لتكونَ في جوار خالقها وباريها.
وكلُّ سعي إلى غير هذه الغاية مردود، والدربُ إليه مسدود، وصاحبُه بالحَجْب والعذاب موعود.
فإلى من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًّا، أزفُّ بشارةَ الصادق المصدوق: ((مَن سلكَ طريقًا يلتمسُ فيه علمًا سهَّلَ الله له به طريقًا إلى الجنَّة)).
وما أعظمَها من بشارة أن يكونَ طريقُ العلم في الإسلام من أسهل الطرق إلى دار السلام.
فالقَصْدَ القَصْدَ إخواني تبلغون، وها أنتم اليومَ في بداية سنةٍ دراسيَّة جديدة؛ هي مرحلةٌ من مراحل الدَّرب الطويل، فغُذُّوا السيرَ محسنين، فما جزاءُ الإحسان إلا الإحسان.
وإليكم زادًا من النُّصح الخالص، تجدون فيه قوةً وبلاغًا إن شاء القويُّ المتين، وقد خَصَصنا أخواتنا الطالبات ببعض رحيق النُّصح الطيِّب.
أولاً: تعهُّد النيَّة:
البركة قرينةُ الإخلاص، والتوفيق حليفُه، والفَلاح والنَّجاح من أطيب ثماره، ورُبَّ عمل دنيويٍّ يغدو من أجَلِّ القُرُباتِ بالنية الصالحة. وكم من طالب علم يُمضي السنوات تِلْوَ السنوات في بحثٍ ودرس، وليس له هَمٌّ إلا نيلُ الشهادة، أو تحصيلُ الشهرة والمال والسِّيادة.
والعاقلُ من يجعل الهموم همًّا واحدًا، يبتغي بعلمه وعمله وجهَ الله؛ فيكفيه ربُّه سائرَ همومه، وتأتيه الدنيا راغمة، وينال عزَّ الدنيا والآخرة بكرم الله ورحمته.
فاحرص على معالجة النيَّة، والإخلاص لربِّ البريَّة، وتذكَّر دومًا قول نبيك صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله لا يقبَلُ منَ العمل إلاَّ ما كان خالصًا وابتُغِيَ به وجهُه)).
ثانيًا: رَومُ الإتقان:
كل من عَلَتْ همَّتُه وسَمَتْ نفسُه يأبى إلا أن يكونَ الإتقانُ ديدَنه في كلِّ صغيرة وكبيرة من حياته، وطالبُ العلم أولى الخلق بتحقيق الإتقان والإحكام، فصَرحُ العلم لا يُبنى إلا لَبِنَةً لَبِنَة، ولا تقومُ هذه اللَّبِناتُ وتستقرُّ إلا على أساسٍ صُلب متين، فإن ضَعُفَ الأساسُ، أو تَخَلخَلَتِ اللَّبِنات، انهار البناء على رأس صاحبه وهو أحوجُ ما يكون إليه.
وقد استشرى بين طلاب زماننا مرَضٌ لم يعرفه أسلافُنا؛ ألا وهو الدراسةُ من أجل اجتياز الامتحان، فالطالبُ لا يدرس إلا ما سيُختَبَرُ فيه، وقد لا يكون أكثرَ من نصف المقرَّر أو ثلثه، وما إن يغادر قاعةَ الامتحان حتى تتبخَّرَ محفوظاتُه من رأسه غير رواسبَ من معلوماتٍ متضاربةٍ تضرُّ ولا تنفَع، وتؤخِّرُ ولا تُقَدِّم! وليس علاجٌ أنفعَ لهذه الظاهرة المُتَفَشِّيَةِ من تأمُّل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله يحبُّ إذا عملَ أحدُكم عملاً أن يُتقنَه))، وتدبُّرِ قوله تعالى: {وقُلِ اعمَلوا فسَيرى اللهُ عملَكُم ورسُولُه والمؤمنون}، فإذا ما استقرَّت في سُوَيداء القلب هذه المعاني أثمرَت مجاهدةً ومصابرةً حتى بلوغِ الإتقان.
ثالثًا: السؤالَ السؤالَ:
العلمُ دهاليزُه من قَصَبٍ وبوَّابتُه من حديد، ولا يستصعبُ طريقَ العلم إلا من يُخفِقُ في فتح بوَّابته، ولن يتأتَّى فتحُها إلا بحُسن السؤال.
وقديمًا سُئل ابن عباس رضي الله عنه وهو الحِبْرُ البَحرُ: بمَ أدركتَ هذا العلم؟ فقال: (بلسانٍ سَؤول، وقلبٍ عَقول).
والله عزَّ شأنُه وعَلَتْ كلمتُه أمرَ الجاهلَ أن يسألَ العالمَ، فقال: {فاسألوا أهلَ الذِّكرِ إنْ كُنتُم لا تَعلَمُون}.
فعلى طالب النبوغ في العلم ألاَّ يدعَ شاذَّةً ولا فاذَّةً مما لا يعلَمُه إلا ويسألَ عنه، وحَقُّ طالبِ العلمِ على مُعلِّميه أن يُجيبوه، إن هو تأدَّبَ في سؤاله وأظهرَ الحرصَ والاهتمام. وليحذَرْ كل سالكٍ لطريق العلم ممَّا يحولُ بينه وبين السؤال؛ من كِبْرٍ مذموم، أو خَجَلٍ مشؤوم، يقطَعُه عن الغاية، ويحرمُه من بلوغ النهاية.
رابعًا: لا يَشْغَلَنَّكِ المهمُّ عن الأهمِّ:
إذا أقبل أيلولُ انكبَّتِ الطالباتُ على رُكامٍ من الكتب والقراطيس، وانْهَمَكْنَ بتسويد الصُّحف والكراريس، ويتعاقبُ الليل والنهار وهنَّ في شُغل شاغل، وتَمُرُّ السنوات وهنَّ في درس متواصل، لتأتيَ الفرحةُ الكبرى يوم نيل الشهادة العليا، فتتنفَّس المجدَّةُ الصُعَداء، وتزهو المجتهدة بكبرياء. فإذا ما خرجت من دُوَّامة التحصيل العلمي، وجدت نفسَها صِفْرَ اليدين من أهمِّ ما يجبُ على الأنثى إتقانُه؛ فهي غريبةٌ عن المطبخ وأدواته، وبعيدةٌ عن إدارة البيت ومشكلاته، لا تتحمَّل ضجيجَ الصغار، ولا تُحسنُ مسايرةَ الكبار! حينها لن تغنيَ عنها شيئًا مهارتُها في الطبِّ أو الهندسة، أو براعتُها في إدارة شركة أو مؤسَّسة. والعاقلةُ الحصيفة تحرِصُ قبل كلِّ شيء على الإحاطة بما يُؤهِّلُها للنجاح بالمهمَّة المقدَّسة التي خُلِقَت لأجلها؛ أن تكونَ راعيةً لبيتها، ترفِدُ أمَّتَها برجال لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله، وبعد ذلك فلتأخُذْ بأسباب العلم على أيِّ وجه أرادَتْ، ويا طُوبى لمن فازت بالحُسنَيَين.
خامسًا: تَحَصَّني بالحجاب:
الفتنُ في هذا الزمان تموجُ موجَ البحر، وتكاد تُغرق الصالحَ والطالحَ معًا، إلا أن يتغمَّدَنا الله بفضله ورحمته، والذئابُ البشريَّة مُتَربِّصَةٌ، وكلٌّ منها يريد أن يوقعَ فريستَهُ بمكره وخُبثه، فاحذَريهم أي أُخيَّة، وإياكِ أن تفتنيهم بما آتاكِ الله من جمال ورقَّةٍ ودلال، واعتصمي بالله ربِّك، واستمسكي بشرع نبيِّك، وتزيَّني بحيائك، وتَسَربَلِي بجلبابك، ففيه عزُّكِ ووقارك. واعلمي أن المرأة إن خرجَتْ من بيتها استشرفَها الشيطان، فلا تطلُبي العلمَ بسخط الرَّحمان، واخرُجي إلى المدرسة أو الجامعة مراعيةً في لباسك الشروطَ الشرعيَّة؛ بأن يكونَ اللباسُ ساترًا للبَدَن لا يَصِفُ ولا يَشِفُّ، وليس فيه زينة أو عطر. والله يحفظكِ من بين يديكِ ومن خلفكِ وعن يمينكِ وشمالكِ، هو نِعْمَ المولى ونِعْمَ الوكيل، ولكم إخواني وأبنائي الطلاب مثل ذلك من الدعاء، والحمد لله أولاً وآخرًا.