مأساة هور إصْلَيِّن

كاظم فنجان الحمامي

كاظم فنجان الحمامي

[email protected]

لم أكن اعرف ان اسم هور (إصْلَيِّن) يرتبط بتفرعات قبيلة (الحلاف) إلا عند زيارتي الأخيرة للأهوار العراقية الواقعة على حافات المياه المحاذية لبادية (إرطاوي), و(الطوبة), و(الخميسية), فقد اكتشفت مؤخرا أن (البو صْلَيِّن) يشكلون المحور الرئيس لحلاف ( الجنزي, وباهلة, والبوكتايب, والتُمْار, وغيرهم), بمعنى أن (البو صْلَيِّن) بكل تفرعاتهم كانوا يستوطنون في هذا المسطح المائي الممتد بين هور (أبو زرقي) وتل شعيب (إيشان شعيب), حيث تتقاطع خطوط التماس لحافات المياه مع كثبان البادية الجنوبية, فتتعانق صحراء (الرميلة) مع هور (إصْلَيِّن) عند مقتربات (الدَبّاب), وتتداخل الملامح البيئية المتناقضة مع بعضها البعض, فتتسع المستنقعات الرطبة المزدانة بالقصب والبردي, وتتمدد إلى جوار الشعاب الرملية الجافة, وتلتقي بيوت الصوف والشعر بأكواخ القصب, وتحتك قطعان سفن الصحراء (الإبل) بقطعان البرمائيات السوداء (الجاموس), وتصطف طيور (البط والخضيري والحذاف) المائية في تحليقها مع طيور (الحباري) الصحراوية.

في هذه البيئة (المائية – الصحراوية) المتناقضة, الغنية بالثروات الطبيعية, الزاخرة بالخيرات والعطايا الربانية, وجد رجال قبيلة (البو إصْلَيِّن) أنفسهم يعيشون في حاضنتين جغرافيتين متباينتين, فاعتادوا على الاستيطان في الاهوار, وممارسة نشاطاتهم الطبيعية في صيد الأسماك والطيور المهجرة, وزراعة الخضروات, وتربية الأبقار والجاموس البري, والتنقل اليومي على سطح الماء, إلى جانب  العيش عند مقتربات الصحراء, وممارسة نشاطاتهم البرية في تربية الأغنام والماعز والتنقل الموسمي (على نطاق ضيق) عبر مسالك البادية القريبة منهم, فوفَّر لهم هذا الفردوس الجميل التكامل في العيش والاكتفاء الذاتي, ووفَّر لهم الملاذ الآمن المحصن بالاستقرار والهدوء التام.

كانوا يعيشون في جنتين من نخيل وأعناب وأشجار وثمار وانهار وحياة بهيجة, في منأى عن المدينة ومشاكلها, لكنهم لم يهنئوا طويلا بهذا النعيم, فوجدوا أنفسهم على حين غرة على حافة براكين العمليات الحربية, التي خاض غمارها الفيلق الثالث, وشملهم القصف الصاروخي العشوائي المتواصل, فزعزع استقرارهم, وقلب كيانهم رأسا على عقب, واكتسحتهم الغارات الجوية الظالمة, التي شملت الاهوار كلها, ثم خضعوا لمشاريع التجفيف والتجريف والتشريد, وأصبحت أرضهم صَعِيدًا زَلَقًا, وصار ماؤهم غوراً, واضطروا لدفن موتاهم من النساء والشباب والأطفال في قبور حفروها على عجل فوق (تل شعيب), فالتقت رفات الأبناء ببقايا عظام أجدادهم السومريين, وخيمت سحب الهلاك والخراب والبوار والدمار فوق قرى هور إصْلَيِّن, وطاردهم شبح الموت في هذا المشهد المفزع, فلاذوا بالفرار, واضطروا لمغادرة أرضهم, وهاموا على وجه الأرض, وتبعثروا في كل الاتجاهات, وصار البؤس والشقاء عنوانا للحياة الجديدة لمن كُتبت له النجاة من هذه الكارثة البيئة الإنسانية المُرَكَّبة.

 

شاءت الأقدار أن التقي أبناء الشهداء الذين توافدوا في عيد الأضحى على تل شعيب, لزيارة قبور آبائهم في هذه المقبرة السومرية النائية, التي يعود تاريخها إلى 2500 عام قبل الميلاد, كان الشاب (حيدر حسين كاظم الحلفي) يجلس القرفصاء فوق أكوام الحجارة السومرية المبعثرة بجوار قبر أبيه, وقد بدت عليه الحيرة, وخيم عليه الحزن والقنوط, كانت عيونه تهيم في تحليقها فوق مخيمات الحقول النفطية المجاورة للمقبرة, وتتجول في المواقع البعيدة التي أمدتها الدولة بأحدث التقنيات, وجهزتها بالطاقة الكهربائية والشمسية, وربطتها بشبكة معقدة من الانابيب الفولاذية, والطرق المعبدة, وأنارتها بالمصابيح البرتقالية المتلألئة. كانت الدولة حاضرة في هذه الحقول بثقلها كله, فكرست اهتماماتها في تحويل صحراء (الطوبة) و(الرميلة) إلى مراكز متطورة للعمليات النفطية, وعززتها بفرق الحماية, وطوقتها بأفواج الحراسات المشددة, في حين لم يكن للدولة أي وجود في هور (إصْلَيِّن) الموازي لتلك الحقول والمحاذي لها, فالبؤس والإهمال هما العلامات الفارقة, التي انفرد بها المكان المهجور, فلا مدارس, ولا مراكز صحية, ولا معالجات بيئية, وغابت التشكيلات الحكومية تماما, ولم تترك لها أي اثر رمزي في هذا الفردوس الضائع.

كانت عيون (حيدر) تبحث في سراب الأفق المتفجر بنيران الآبار النفطية عمن يقدم الدعم والعون والإسناد لأبناء العوائل المنكوبة, وتبحث عمن يشمِّر عن سواعده فينبري لمشاكل العراقيين وهمومهم, ويشمل أيتام هور (إصْلَيِّن) برعايته وعنايته. كانت عيونه تفتش عن أولئك المتحذلقين بالكلمات الرنانة, وتبحث عن المتشدقين بالوعود الطنّانة, والخطب العصماء التي كانوا يطلقونها قبيل الانتخابات الموسمية. لقد اختفوا جميعا, ولم يعد لهم أي اثر في القرى والأرياف الفقيرة المنتشرة على حافات المياه, وتبخرت وعودهم في الفضاءات السياسية المزيفة, وانشغلوا بمواردهم المالية الجديدة, ومناصبهم العليا التي لم يكونوا يحلموا بها لولا مؤازرة أبناء الاهوار.

قال لي (حيدر) قبيل مغادرتي تل شعيب: اكتب يا عم, لا يلدغ أبن الاهوار من صندوق الانتخابات مرتين, فرد عليه خاله غاضبا: لا والله يلدغ مرة واثنين وعشرة, ما لم يتمسك بأرضه ومياهه, وما لم يطالب بحقوقه المهدورة, ويسعى لاستردادها كاملة غير منقوصة, فما ضاع حق وراءه مطالب.