هل بنى إبراهيم الكعبة

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

إن القرآن يقول: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد)، ولم يقل: وإذ (يبني إبراهيم البيت)، فهل تأملت هذا اللفظ، وأنت تقرأ القرآن، ثم هل ألح عليك عندما رأيت أنوار الكعبة وبهاءها؟ هل أثار في ذهنك أنه قال يرفع ولم يقل يبني؟

إن الرفع شيء والبناء شيء آخر، فالرفع يوحي بأن بناء ما كان موجودا، ثم طمس ليعاد رفعه مرة أخرى، أما البناء فإنه قد يوحي بأن إبراهيم هو الذي أسس وبنى.

لقد استوقف هذا السؤال المفسرين، فذكروا جميعا بأن الآية أثارت اختلاف الناس في بناء البيت، وذُكرت حول ذلك أقوال لا ندري صحتها، ونذكر مثلا ما قاله القرطبي: (واختلف الناس فيمن بنى البيت أولا، وأسسه، فقيل: الملائكة. روي عن جعفر بن محمد قال: سئل أبي وأنا حاضر عن بدء خلق البيت فقال: إن الله عز وجل لما قال: "إني جاعل في الأرض خليفة" قالت الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"، فغضب عليهم، فعاذوا بعرشه وطافوا حوله سبعة أشواط يسترضون ربهم حتى رضي الله عنهم، وقال لهم: ابنوا لي بيتا في الأرض يتعوذ به من سخطت عليه من بني آدم، ويطوف حوله كما طفتم حول عرشي، فأرضى عنه كما رضيت عنكم، فبنوا هذا البيت).

هذا الأثر السابق الذي ذكره القرطبي بحثت عليه في كتب السنة فلم أجده، ومن ثم لم أحكم بصحته أو ضعفه فاتحا الباب لمزيد دراسته.

وأيضا نقل القرطبي عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وابن المسيب وغيرهما أن الله عز وجل أوحى إلى آدم: إذا هبطت ابن لي بيتا، ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بعرشي الذي في السماء).

وذكرت أيضا روايات على بناء الكعبة، قال عطاء: فزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء، ومن طور سينا، ومن لبنان، ومن الجودي، ومن طور زيتا، وكان ربضة (1) من حراء.

قال الخليل: والربض ها هنا الأساس المستدير بالبيت من الصخر، ومنه يقال لما حول المدينة: ربض.

وهناك نص لابن إسحاق في أخبار مكة للأزرقي يقول فيه: (بلغني أن ملكا، أتى هاجر أم إسماعيل حين أنزلها إبراهيم بمكة، قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت، فأشار لها إلى البيت، وهو ربوة حمراء مدرة، فقال لها: هذا أول بيت وضع للناس في الأرض، وهو بيت الله العتيق، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه للناس" قال ابن جريج: «وبلغني أن جبريل عليه السلام حين هزم بعقبة في موضع زمزم، قال لأم إسماعيل: وأشار لها إلى موضع البيت، هذا أول بيت وضع للناس، وهو بيت الله العتيق، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه للناس، ويعمرانه فلا يزال معمورا، محرما، مكرما إلى يوم القيامة. قال ابن جريج: فماتت أم إسماعيل قبل أن يرفعه إبراهيم وإسماعيل، ودفنت في موضع الحجر».

وعن ابن عباس: «أن الملك الذي أخرج زمزم لهاجر، قال لها: وسيأتي أبو هذا الغلام فيبني بيتا، هذا مكانه، وأشار لها إلى موضع البيت، ثم انطلق الملك»

وإذا تصفحنا كتب التفسير القديمة فإنها تذكر روايات لا ندري صحتها، وتحتاج إلى دراسة في سندها ومتنها، ولعل الله يقيض من يفرغ نفسه لهذه القضية.

وهما يكن من أمر فإن إبراهيم عليه السلام نال شرف رفع القواعد، ونبينا محمد –صلى الله عليه وسلم نال شرف وضع الحجر الأسود في الكعبة، والنبي حبيب الله وإبراهيم خليل الله، وكلاهما ابتلاه الله ابتلاءات كثيرة، كي يؤهله لحمل الأمانة العظيمة، فالقرآن يذكر قصة بناء البيت العتيق بعد أن يتحدث عن إبراهيم عليه السلام والابتلاءات التي رآها، تلك الابتلاءات التي تنوعت بين إحراق بالنار والهجرة إلى الله وترك ولده الذي رزقه على الكبر مع أمه في واد غير ذي زرع، ناهيك عن سنن الفطرة من ختان وتقليم أظفار وحلق العانة ونتف الإبط إلى آخر هذه السنن التي تشق على رجل بلغ من الكبر عتيا.

إن هذه الابتلاءات ذكرها الله تعالى مجملة بقوله: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن)، ثم فصلت هذه الابتلاءات في القرآن الكريم، فذكر أن الله ابتلاه بالولد بعد أن كبرت سنه، وضعفت قوته حتى لم تصدق زوجه التي يئست من المحيض، أنها سترزق ولدا وقالت: (يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا، إن هذا لشيء عجيب).

وذكر أيضا أن الله ابتلاه بإحراق النار؛ لأنه دعا إلى كلمة التوحيد في قوم يعبدون الأصنام، وذكر قصة ذبحه لابنه إسماعيل عليه والسلام، وذكر أن هذا هو البلاء المبين.

استحق إبراهيم بهذه الابتلاءات أن يكون أمة قانتا لله حنيفا، وأن يكون أماما للناس، وأن يكلفه الله تعالى برفع القواعد مع ولده الذي نجح في ابتلاء الذبح، ثم يؤذن في الناس بالحج؛ ليأتوا من كل فج عميق شاهدين منافع لهم.

وفي هذا نلحظ أن الله تعالى إذا أحب أحدا فإنه يريد أن يصفيه من شوائب الدنيا وكدرها؛ حتى يشرفه بحمل أمانة الخلافة في الدنيا، فإذا صفت نفسه، وقال ما قاله خليل الرحمن: (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) فإنه يكون جديرا بنداء الله لزيارة هذا البيت العتيق، ليقول (لبيك)، وهو سعيد مسرور بهذا التكليف، فكلمة لبيك وسعديك تعني: أنا عند أمرك سعيدا مسرورا، قال سيبويه: سألت الخليل عن اشتقاقه فقال: معنى لَبَّيك من الإلباب، ويقال: لَبّ الرجل بالمكان إذا أقام به، فمعنى لبيك أنا مقيم عند أمرك، وسَعْديك من الإسعاد وهو بمعنى المساعدة فمعنى سَعْديك أنا متابع لأمرك متقرب منه.