ابتسامةُ سخريةٍ ترتسم على وجهِ رجلٍ فقير
د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري
متوسط القامة نحيل الجسم يجلس على كرسي صغير في مقهى شعبي , ينظر للتلفزيون ويستمع لبرنامج تعرضه إحدى المذيعات الجميلات الرشيقات , ومجموعة من الاختصاصيين في مجال الغذاء والرشاقة
الكل يدلي بدلوه ومعرفته وعلمه عن الطرق الممكنة للتقليل من أمراض العصر , وأخطرها وأشدها فتكا هو السمنة المنتشرة بين الرجال والنساء وحتى الأطفال
وكل مختص يعرض بضاعته , وينشر الدعاية لنفسه , وبين الحديث والحديث للضيف , تهطل الإعلانات المروجة للمساحيق والآلات الرياضية والأعشاب والأدوية والعيادات المختصة وأسمائها , والكمية التي يمكن لطريقة من الطرق تنزيل الوزن لأعلى درجة في مدة زمنية محدودة
القليل من الموجودين في المقهى مشغول بما يعرض في البرنامج , ولكن هذا الرجل الفقير شده البرنامج كثيراً حتى أن عينيه لاترمش إلا قليلا من شدة التركيز على متابعة مايعرض, وعلى الأخص عندما تحدث أحد الضيوف عن أنواع الأغذية المسببة للسمنة
في هذه اللحظة بالذات , تغير لون وجه الرجل وتغيرت تقاطيع وجهه وفتح عينيه على آخرهما , وانحنى بجسمه إلى الأمام قليلا ونظره مشدود إلى شاشة التلفاز أثناء عرض تلك الوجبات الدسمة من اللحوم وأنواعها والحلويات بمختلف أشكالها
وسال لعابه وملأ فمه حتى سال منه على ذقنه ولم يشعر بذلك , وأخذت معدته تشده أو بالأحرى كأنها تدفعه إلى الأمام أكثر لعلها تحظى بنوع من اللحوم المشوية أو الحلويات وأنواع المقبلات والمشروبات , وهو يقاومها ويقول لها ألا ترين إنها مجرد صور متحركة , ولكن المعدة لاتعرف ذلك , فقط تعرف أن تلك الأنواع تحبها كثيرا ومحتاجة إليها دائما
وانتهى البرنامج وعاد الرجل ليسكت معدته ويحاول السيطرة على مشاعره ونفسه الشهية لجميع أنواع المأكولات مالذ منها وطاب
وطلب شاياً مرة أخرى , وزاد كمية السكر أضعافا , مع أنه سمع في البرنامج أن السكر من السموم البيضاء
كيف لا وهل يوجدا أشد فتكا بالبشرية من سم الفقر؟
وأخذ يناقش من كان حاضرا في البرنامج , مناقشة جادة حادة وضع كل تجاربه فيها وثقافته التي اكتسبها مع الأيام مع أيام البؤس المستمرة منذ زمن بعيد
وضع في كل زاوية شخصية ممن شاهدهم وأخذ يرد على تساؤلاته بلباقة وخفة وكلام بسيط للغاية
لقد أفحم الجميع وأفحم المشاهدين , وظهر جليا بثقافته وطلاقة لسانه وسهولة ألفاظه وشرحه للمواقف العويصة والمستعصية وتبسيطها حتى بدت أمام الجميع بأنه قد امتلك خبرات كل أولئك الخبراء وجمعها في سلة واحدة ورماها بعيدا , فلا مكان لها أمام أفكاري التي جمعتها من خبرتي وخبرات التسعين بالمائة من شعبي
الذين يصرفون المليارات لتصريف ما ابتلعوه من دماء المساكين , وعلى العيادات والأطباء والمشعوذين , ويتلذذون بالطعام والشراب والنساء وفي آخر الليل بعد أن تدور في معدهم التخمة ,يبحثون عن تخفيف الوزن!!!!؟؟؟؟
وما هؤلاء إلا كالضفدعة التي تحدت البقرة في كمية الماء التي تشربها , وشربت.... وشربت حتى انفجر بطنها من الماء فلن تكون بقرة لتشرب مثلها أو أكثر منها , فالضفدعة معذورة لأنها تحدت البقرة , أما هؤلاء فيتحدون فقط الفقراء
فكيف يشعرون بالشبع ؟
لن يشعروا بالشبع أبدا وستلاحقهم السمنة دائما فطعامهم وشرابهم هو حاجة التسعين في المائة من الناس
ويتحدث الرجل لنفسه وهو رئيس مؤتمر عام , خبير الجمال والرشاقة وتخفيف الوزن ويقول للجمهور تعالوا معي لتروا كيف السبيل
قد يكون للفقير سقفاً يظله أو لا يكون , قد ينام أياما وحيداً أو سنين طويلة ومعدته تعصره ألماً من شدة الجوع , يضحك عليها بلقيمات حتى تهدأ ,يشعر بآلام في كل لحظة , الجوع لا يفارقه أبداً حتى في المناسبات , لأنه يأكل ويأكل ويقول فرصة أستغلها , ولكن عادة المعدة عنده لن تنتهي بوجبة طعام واحدة وستعود بعد لحظات
سوف أصدر مرسوما تشريعيا :
إغلاق جميع المطاعم وجميع محلات الأكل الجاهز , ويمنع منعا باتا الطعام في الأماكن العامة ويحدد الطعام بوجبة واحدة في المساء , ولا مانع من الفطور ,ويمنع الشواء بشكل علني حتى لا يشتم رائحته البؤساء من الناس
فأنا سأدافع عن الفقراء, ولأول مرة في التاريخ يصدر مرسوم تشريعي يصب في مصلحة الفقراء والبؤساء
ويمشي الفقير والغني في الشارع سوية , ولا اللعاب يسيل في فم الفقير من منظر الطعام الشهي وهو ينهش بأسنان الأغنياء ,ويرمى القسم الكبير منه في مكب النفايات ,وهو بحاجة للقمة منه لتهدئة جوعه الذي ينهش فيه بالليل والنهار , ولا منظر الطعام والحلويات في الشارع وفي الأماكن المعروضة يبقى لها آثار
لهذا أصدرت هذا القرار والمرسوم الجمهوري ولا رجعة فيه , وعلى السلطات المختصة تنفيذه مباشرة , لقد عاد حكم الخليفة الحاكم بأمر الله (يمنع منعاً باتا بيع الملوخية وخروج النساء إلى الشوارع في مصر)
وصدق الرجل الفقير نفسه , وعندما صحا على حاله والجوع الذي ينهش في جسده , والهواء البارد الذي يتسرب لجسمه من خفة الملابس التي يلبسها والفتحات الكثيرة الموجودة , مع ابتسامة سخرية ارتسمت على وجهه ليكمل بعدها الفصل الأخير من الوصفة الطبية الخاصة بتخفيف الوزن فقال:
تتلخص طريقتي بوصفة مغرية للجميع وهذه الوصفة بسيطة جداً و لن تتجاوز الشهرين وبأقل الأسعار وهي:
كل من يريد أن يخفض وزنه فليأتي لعندي ويعيش مثلي شهرين فقط , في الطعام والملبس والمنام , وأنا أضمن له تخفيض وزنه بمقدار عشرين بالمائة في الشهر
وأراد أن يقول بأعلى صوته هذه طريقتي المثلى في تخفيف الوزن :
(عش مع فقير أو عيشي مع فقيرة والمتصفون بأصحاب الكروش , وكلوا مما يأكل الفقراء لمدة شهر او شهرين , فستجدون من وصفتي العجب )
فهي نظرية رجل عبقري فقير
ليبتسم مرة أخرى , ويعكر صفو ابتسامته عامل المقهى ليقول له
لم يبق أحد هنا إلا أنت أيها الرجل المسكين