المياه والأمن القومي العربي 4

المياه والأمن القومي العربي

مصر والسودان (حوض النيل)

(الجزء الرابع)

محسن الخزندار

[email protected]

هناك علاقة مباشرة بين الأمن القومي العربي ومسألة تأمين مصادر المياه، وإذا كان الأمن العام لدولة ما هو إلا الإجراءات التي تتخذها تلك الدولة لتحافظ على كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل، فإن فهم الأمن على أنه موضوع الدفاع العسكري داخليًّا وخارجيًّا هو أمر سطحي وضيق، لأن الأمن العسكري هو وجه سطحي ضيق لمسألة الأمن الكبرى.

فهناك الكثير من الجوانب غير العسكرية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمسألة الأمن القومي، ومن هذه الجوانب بالطبع،  مسألة الأمن الغذائي والاقتصادي ومسألة المياه على رأس تلك الجوانب. 

وإذا أخذنا مسألة الأمن الغذائي كمحدد لفهم مستقبل العالم العربي لوجدنا أن الأمر مفزع، ذلك أنه إذا كان من يمتلك غذاءه يمتلك قراراه، فإن وجود فجوة غذائية في العالم العربي تصل إلى حوالي 60 مليار دولار سنويًّا هي الفرق بين الصادرات والواردات العربية، مما يمثل مشكلة خطيرة، بل ونسبة الاكتفاء الذاتي من أهم السلع الإستراتيجية في مجال الغذاء لا تزيد عن 39%، وهذه النسبة لها أهميتها، ونراها في حالة الدول ذات الأهمية في المنطقة العربية مثل مصر التي يبلغ اكتفاؤها الذاتي من القمح 27%.

وإذا أخذنا في الاعتبار أن السوق العالمية للقمح تتشكل من دول ذات توجهات سياسية ومتعارضة معنا، لأدركنا فداحة المشكلة، فالدول الكبرى المسيطرة على سوق تصدير القمح هي "أمريكا، كندا، أستراليا، السوق الأوربية المشتركة"، حيث يمكنها التكتل في احتكار للتحكم ليس في تصدير القمح فقط،  بل وفي أسعاره كذلك.

وهكذا فإن المسألة الغذائية تفجر بالضرورة مسألة الماء، حيث إن الماء هو العنصر الأساس للزراعة القادرة بدورها على سد تلك الفجوة الغذائية، وبالطبع لا تقتصر أهمية الماء على مسألة الزراعة، فالماء ضروري للتصنيع أيضًا، فضلاً عن أهميته لتلبية الاستهلاك البشري المباشرة من مياه شرب وغسيل وغيرها، وليس عبثًا بالطبع أن تكون معظم الحضارات قد نشأت حول مصادر المياه. 

ومشكلة المياه في الوطن العربي ذات أبعاد كثيرة،  فالوطن العربي يقع في الحزام الجاف وشبه الجاف من العالم، وتقل فيه الموارد المائية المتجددة عن 1% من المياه المتجددة في العالم، ونصيب الفرد العربي من المياه 1744 مترًا مكعبًا سنويًّا، في حين أن المعدل العالمي يصل إلى 12900 متر مكعب سنويًّا، ومعدل هطول الأمطار في الوطن العربي بين 5 - 450 ملم سنويًّا، في حين يتراوح في أوربا مثلاً بين 200 - 3000 ملم سنويًّا، وتمثل الصحارى في الوطن العربي مساحة 43% من إجمالي المساحة الكلية للوطن العربي، وحجم الموارد المائية المتاحة تبلغ 338 مليار متر مكعب سنويًّا لا يستثمر منها إلا 173 مليار متر مكعب، في حين أن الوطن العربي يحتاج لتلبية احتياجاته من المياه إذا أحسن استخدامها، وتم عمل خطط لسد الفجوة الغذائية إلى حوالي 500 مليار متر مكعب من المياه سنويًّا.

والموارد ومصادر المياه في الوطن العربي تتمثل في الأمطار والمياه السطحية "الأنهار" والمياه الجوفية، ولعل المشكلة حول المياه السطحية "الأنهار" هي الأهم، فالمياه السطحية المتاحة حاليًا للوطن العربي تبلغ 127.5 مليار متر مكعب سنويًّا، تحوز ثلاثة أقطار عربية حوالي 71 % منها، هي مصر والعراق والسودان، ومن المفروض أن يزيد حجم الموارد السطحية ليصل إلى 256 مليار متر مكعب من المياه، أي ضعف ما هو متاح حاليًا عن طريق مشروعات الري والسدود مثل قناة جونجلي في السودان.

وإذا أدركنا أن 67% من مياه الأنهار "المياه السطحية" في البلدان العربية تأتي من خارج بلادهم، لعرفنا حجم ما يمكن أن يحدث من مشكلات إذا قام العرب بعمل تنمية أو سدود تؤدي إلى زيادة مواردهم؛ وعلى سبيل المثال فإن نهر النيل ينبع من إثيوبيا "النيل الأزرق"، وبحيرة فكتوريا "النيل الأبيض"، ويمر في تسع دول إفريقية هي "إثيوبيا، كينيا، أوغندا، تنزانيا، رواندا، بوروندي، والكونغو، والسودان، ومصر"، ويقطع مسافة من أبعد منابعه على روافد بحيرة فكتوريا نيانزا في قلب إفريقيا إلى ساحل رشيد على البحر الأبيض المتوسط في مصر حوالي 6700 كم.

فهناك عدة مناطق من العالم مجاري مائية عابرة للحدود وهو ما يطلق عليه تقرير التنمية مفهوم "الترابط الهيدرولوجي".

ولتجسيد قوة هذا الترابط أورد التقرير إحصائية توضح بأن كل اثنين من خمسة من سكان العالم يعيشون في أحواض مياه دولية تشترك فيها أكثر من دولة، وعلى سبيل المثال تشترك 9 دول في نهر الأمازون، و 11 بلدا في نهر النيل.

وإذا كانت السنوات الأخيرة قد صعدت من خطر تنامي صراعات يكون التنافس على الماء أحد عواملها، فإن التقرير يرى أن هذا التخوف مبالغ فيه، ويشدد معدو التقرير على أن حالات التعاون لحل مشاكل المياه العابرة للحدود أكثر بكثير من حالات الصراع، وأحسن مثال على التعاون في هذا المجال ما تقوم به دول الاتحاد الأوروبي في مجال إدارة مجاريها المائية المشتركة.

 كما أن برنامج التعاون بين جنوب إفريقيا وليسوتو سمح بتحقيق عائدات كبيرة لفائدة ليسوتو وتمكين جنوب إفريقيا من تحسين تزودها بالمياه، ونفس التجربة تعيشها كل من البرازيل وباراغواي في مجال التعاون لتوليد الطاقة من خلال المياه العابرة للحدود.

لكن بعض المناطق من العالم لم تحسن تعزيز التعاون وأدى ذلك بها إلى كوارث بيئية واقتصادية مثلما هو الحال في بلدان آسيا الوسطى وبالأخص في بحر آرال الذي تحول إلى أكبر كارثة بيئية، أو الإفراط في استهلاك بعض المجاري المائية مثلما هو الحال في بحيرة تشاد.

وعما إذا كانت الصراعات حول المياه ستزيد من تفاقم الصراعات الدولية، يرى التقرير أنه "خلافا للنظرة التشاؤمية حول نشوب حروب المياه، فإن الصراع من أجل المياه يبقى الاستثناء وليس القاعدة".

ويورد تقرير التنمية البشرية أن الخمسين عاما الماضية عرفت 37 صراعا مسلحا بسبب المياه، ولكن هذه الصراعات كانت صراعات بسيطة، لكن في نفس الوقت شهد العالم أكثر من 200 اتفاقية حول المياه، وقد ظلت بعض تلك الاتفاقيات سارية المفعول حتى إبان قيام صراع مسلح مثلما هو الحال بالنسبة لنهر السند بين الهند وباكستان.

وينتهي معدو التقرير إلى التوصية بضرورة تعزيز التعاون بين الدول وقيام مبادرات إقليمية لتسيير الموارد المائية المشتركة مثلما هو الحال في مبادرة حوض النيل.

نبدأ في هذه الدراسة في مصر والأزمة الحقيقية التي تتعرض لها، فمصر هي هِبة النيل، وما زال نهر النيل يلعب الدور الأساسي في حياه مصر في الحاضر وعبر التاريخ.

 فعلى ضفاف النيل قامت الحضارة الفرعونية التي نهضت عبر آلاف السنين، فنهر النيل هو أبرز وأهم الموارد المائية في أفريقيا.

حقائق أساسية وأرقام عن حوض النيل ومياهه

نهر النيل: نهر النيل الذي جاء اسمه من كلمة "نيليوس" اليونانية، وتعني وادي النهر، هو أطول أنهار العالم، ويمتدّ النيل 5584 كيلومترًا من بُـحيرة فيكتوريا إلى البحر المتوسط ويغطِّـي مساحة ثلاثة ملايين و349 ألف كيلومتر مربع على الأقل، ويبلغ متوسط تدفّـق مياهِـه حوالي 300 مليون متر مكعّـب يوميًا.

المصادر: يجري النيل الأبيض شمالا من بحيرة فيكتوريا في كينيا، وهي أكبر بُـحيرات إفريقيا، ويمُـر عبْـر أوغندا إلى السودان، حيث يلتقي بالنيل الأزرَق عند الخرطوم ويواصل النهر بعد ذلك جَـريَـانه شمالا باتِّـجاه مصر.

معدّل سقوط الأمطار على الحوض: يبلغ المتوسط السنوي لسقوط الأمطار على حوض النيل حوالي 650 مليمترًا، أي حوالي 10% من المتوسط بالنسبة لوادي الرّاين في أوروبا، ويمثل سوء إدارة المياه مشكلة في الحوض أيضا، حيث يُـضيِّـع 30% في المتوسط من كِـمية الأمطار على المِـنطقة، قبل أن يمكن استخدامها بصورة مُـنتجة، وتحصل مصر على 87% من حاجاتها المائية من النهر، حيث يكاد ينعدِم سقوط الأمطار عليها ما عدا على امتداد ساحل البحر المتوسط وبعض مناطق شِـبه جزيرة سيناء.

دول حوض النيل: دول حوض النيل العشر هي: بوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية ومصر وإريتريا وإثيوبيا وكينيا والسودان ورواندا وتنزانيا وأوغندا،  وتسقط الأمطار بمعدّل كبير، نسبيا، على بوروندي الجبلية وأوغندا وتنزانيا إلى جانب جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا، التي توجد بها أيضا موارد مياه وافرة. ولا يقع من أراضي كينيا شِـبه القاحلة داخل الحوض، سوى عشرها، لكن يعيش على مياه النيل 40% من سكان كينيا.

وتسقط الأمطار بمعدّل مرتفع على إثيوبيا وإريتريا، لكنها أمطار موْسِـمية في العادة وتستمر أربعة أشهر من العام فقط، وتُـساهم إريتريا بقدْر صغير في المياه الجارية بنهر النيل، وهي الوحيدة من الدول العشر غير العُـضو في مبادرة حوْض النيل، وهو برنامج يرعاه البنك الدولي أنشئ للمساعدة في إدارة مياه النيل.

خصائص الحوض: يتدفّـق نهر النيل عبْـر ست من أفقَـر دول العالم ويعيش في حوضه حوالي 300 مليون نسمة، أغلبهم في مناطق ريفية، ويضم الحوض  أيضا بعضاً من أكبر مدن إفريقيا، مثل: دار السلام وكمبالا ونيروبي وأديس أبابا والخرطوم والقاهرة، وتسهم القاهرة وحدها بحوالي 10% على الأقل من العدد الإجمالي لسكان حوْض النيل.

النمو السكاني: يزيد النمُـو السكاني الضغْـط على موارد المياه ويفرض طلبا أكثر إلحاحا لإدارة أفضل ومراجعة لكيفية تخصيص حِـصص مياه النيل، لكن نظرا لتنوّع الاحتياجات الاقتصادية والعِـرقية والاجتماعية في المنطقة، يشير المحلِّـلون إلى أن اتِّـخاذ مثل هذا القرار، سيكون صعبا.

الاستخدامات: تختصّ الزراعة بحوالي 80% على الأقل من كل استهلاك المياه في الحوض، ويدعو الخبراء لاستخدام أفضل وأكثر تكاملا لموارد المياه، ويقولون إن كثيرا من الدول كانت بطِـيئة في تبنِّـي تِـقَـنيات ريّ محسنة، وما تزال الطريقة الأكثر شيوعا الري بالغمر، التي ثبت عدم كفاءتها وإهدارها للمياه.

إن هناك أزمة مياه حقيقية ستتعرض لها مصر بحلول الأعوام المقبلة، بعد توقيع خمسة دول من دول منابع النيل على اتفاقية جديدة للمياه بمدينة "عنتيبي" الأوغندية دون مشاركة دولتي المصب مصر والسودان، فقد وقعت أثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا وكينيا اتفاقاً جديداً حول تقاسم مياه نهر النيل على الرغم من مقاطعة مصر والسودان مما أثار غضب القاهرة التي أعلنت أن الاتفاق غير ملزم لها.

وكان الاتفاق الحالي لتقاسم مياه النيل قد وقع عام 1929 بين مصر وبريطانيا وتمت مراجعته عام 1959 ، ويمنح هذا الاتفاق مصر حصة قدرها 55,5 مليار متر مكعب من المياه سنوياً،  بينما يبلغ نصيب السودان 18،5 مليار متر مكعب من مياه النيل البالغة 84 مليار متر مكعب سنوياً، أي أن البلدين يحصلان على حوالي 87% من مياه النهر منها حوالي 8 مليارات حصة جنوب السودان التي تتنازل عنها الحكومة السودانية لصالح مصر.

وتمتلك القاهرة بموجب هذه الاتفاقية كذلك حق النقض فيما يتعلق بأي أعمال أو إنشاءات يمكن أن تؤثر على حصتها من مياه النهر، مثل السدود والمنشات الصناعية اللازمة للري.

إن الخطورة تكمن في السد المائي الضخم الذي افتتحته أثيوبيا على بحيرة "تانا" ، الواقعة على مجرى النيل، مؤكداً أنه قادر على سحب مياه السد العالي بأكمله، وربما أكثر من ذلك.

تعتمد مصر علي نهر النيل اعتمادًا شبه كامل في اقتصادياتها وخاصة الزراعة، فإن نصيب مصر منه يصل الآن إلى 55.5 مليار متر مكعب سنويًّا، والسودان إلى 18.5 مليار متر مكعب سنويًّا، وبديهي أن مصر والسودان يسعيان إلى زيادة مواردهما من مياه النيل عن طريق مجموعة من المشروعات، وهذه المشروعات لن تؤثر على حصة دول المنبع، لأن المياه قد تركت أراضيهم بالفعل من ناحية، ولأن هذه الدول لها مصادر مياه غنية جدًّا، فإثيوبيا مثلاً التي يأتي منها 85% من مياه النيل المستخدمة في مصر ليست في حاجة إلى مياه النيل أصلاً، لأن مواردها المائية أعلى كثيرًا من احتياجاتها، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، حيث تسعى قوى عالمية وإقليمية لحرمان مصر من حصة كبيرة من المياه أو منها على الأقل من زيادة مواردها من تلك المياه، فإسرائيل تسعى إلى زيادة نفوذها في القرن الإفريقي ومنطقة البحيرات الكبرى، وكذلك أمريكا.

والمخططات المعادية لمصر في هذا الصدد كثيرة، وهناك مخطط قديم يقضي بمحاولة تحويل مجرى النيل في إثيوبيا، وقد قام المكتب الأمريكي لاستصلاح الأراضي بعمل الدراسات الخاصة به إلا أنه بالطبع لم ينفذ، ولكنه يشكل فكرة في الأدراج يمكن تنفيذها فيما بعد للضغط على مصر، وهناك الآن عدد من الدراسات الجاهزة لإقامة سدود على النيل في إثيوبيا سوف يمولها البنك الدولي تؤثر على حصة مصر من المياه بنسبة 20% سنويًّا، أي 7 مليارات متر مكعب من المياه، بل ووصل التفكير إلى حد أن هناك خطة تقضي بتحويل كل مصادر المياه في تلك المنطقة لتصب في منطقة البحيرات العظمى في وسط القارة كخزان عملاق للمياه، ثم بيع هذه المياه لمن يريد ويدفع الثمن كالبترول تمامًا.

ويمكن كذلك تعبئتها في براميل تحملها السفن أو عن طريق أنابيب لبيعها لدول خارج القارة و تسعى إسرائيل  منذ سنوات عديدة للحصول على مياه نهر النيل من خلال ممارسة الضغوط على مصر كي تمدها بمياه النهر من خلال أنابيب عبر سيناء، وإقناع أثيوبيا بالموافقة على بيع إسرائيل مياه نهر النيل مقابل مساعدات مالية وفنية وتكنولوجية إسرائيلية لإثيوبيا في المجالات المائية والاقتصادية المختلفة.

لذلك تسعى إسرائيل لإحداث مشاكل ومتاعب لمصر في منابع النيل في إثيوبيا ومنطقة البحيرات. 

وفي الحقيقة فإن المطامع الإسرائيلية في مياه النيل قديمة قدم المشروع الإسرائيلي ذاته، فقد تقدمت إسرائيل في بداية هذا القرن بمشروع إلى اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر لهذا الغرض، إلا أن ذلك المشروع قد رفض؛ وفي عام 1974م قام المهندس الإسرائيلي "إليشع كيلي" بتصميم مشروع لجلب المياه لإسرائيل من الدول المجاورة على أساس أن إسرائيل ستعاني من مشكلة مياه في المستقبل، ويتلخص المشروع بالنسبة لنهر النيل في توسيع ترعة الإسماعيلية حتى يزيد معدل تدفق المياه داخلها إلى 30 مترًا مكعبًا في الثانية، ونقل هذه المياه عن طريق سحارة تمر أسفل قناة السويس، ثم تصب المياه على الجانب الآخر من القناة في ترعة مبطنة بالإسمنت لمنع تسرب المياه، وتصل هذه الترعة إلى ساحل إسرائيل، ثم في خط آخر يتجه جنوبًا نحو بئر السبع لعرب صحراء النقب.

وتسعى إسرائيل وفق هذه الخطة إلى الحصول على 8 مليارات متر مكعب من المياه سنويًّا من النيل، وقد تكرر الحديث عن هذا المشروع فيما بعد خاصة بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1979م.

وتعتبر المياه محورًا مهمًّا من محاور الفكر الإسرائيلي؛ فبعد صدور وعد بلفور عام 1917م تقدم حاييم وايزمان رئيس المؤتمر الصهيوني آنذاك إلى لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا طالبًا تحسين حدود إسرائيل حسب وعد بلفور، لتضم حوض الليطاني وجبل الشيخ وحرمون أي تضم أنهار الأردن وبانياس واليرموك.

ويقول الصهيوني بلسان هوارس عام 1921م: "إن مستقبل فلسطين بأكمله هو بين أيدي الدولة التي تبسط سيطرتها على الليطاني واليرموك ومنابع الأردن".

وأعلن ديفيد بن جوريون عام 1955م: "أن اليهود يخوضون مع العرب معركة المياه، وعلى نتيجة هذه المعركة يتوقف مصير إسرائيل، وأننا إذا لم ننجح في هذه المعركة فإننا لن نبقى في فلسطين".

ومن المعروف أن الحدود الإسرائيلية المستهدفة طبقًا للخريطة المعلقة على الكنيست في إسرائيل هي من النيل إلى الفرات، أي من ماء إلى ماء. 

على كل حال فإن إسرائيل توفر حاجاتها المتزايدة من المياه التي تصل 3.5 مليار متر مكعب حاليًا، وتريد إسرائيل زيادتها إلى 12 مليارًا للتوسع في مشروعاتها، وتحصل عليها الآن إما من سرقة مياه الآبار العربية بوسائل تكنولوجية معقدة داخل الأراضي المحتلة، أو من مشروعات تستهدف السيطرة على أكبر قدر ممكن من مياه الأنهار العربية وحرمان الآخرين منها، وبالطبع فإن الفجوة المائية بين ما تنهبه إسرائيل حاليًا من المياه العربية وبين ما تستهدف نهبه يمكن أن يشكل عنصرًا مهمًّا من عناصر اندلاع حروب قادمة في المنطقة. 

جاءت اجتماعات شرم الشيخ في مصر، التي ضمت دول حوض النيل التسعة "دولتا المصب مصر والسودان، ودول المنابع إثيوبيا وتنزانيا وكينيا ورواندا وبوروندي وأوغندا والكونغو"، لتفتح من جديد ملف شائك هو ملف المياه وحصص الدول واستحقاقاتها في حوض النيل، وهي قضية ليست جديدة، فقد ثارت منذ عدة سنوات، حول حقوق دول المنبع في إقامة مشروعات مياه يمكن أن تؤثر على حصة دول المصب من هذا الماء، وقد اتخذت دول المنابع السبع هذه المرة موقفًا تصعيديًّا خطيرًا، فرفضت الرؤية التي تريدها مصر والسودان حول إنشاء مفوضية واحدة لإدارة الموضوع بالكامل، ومن ثَم الحوار والنقاش والوصول إلى الأهداف المرجوة بالاتفاق، بمعنى عمل مشروعات لزيادة موارد المياه ومنع هدرها، وكذلك عمل مشروعات في دول المنابع بما لا يضر دول المصب.

 أصرت دول المنابع السبع على توقيع اتفاقية (إطار) وطلبت من مصر والسودان التوقيع، وأعطتها مهلة زمنية لمدة عام لمن أراد، وبذلك أرادت هذه الدول أن تفرض على مصر والسودان رؤيتها، ومن ثم يتم تغيير الاتفاقيات السابقة التي تحدد حصة مصر والسودان من المياه، وبديهي أن الأمر بهذه المثابة شديد الخطورة، لأن حصة مصر من المياه لا تكاد تكفيها، ومن ثم فإن هذه المسألة بالنسبة لمصر خط أحمر وقد هدد الرئيس المصري محمد أنور السادات بشن حرب على إثيوبيا عندما علم بنيتها في إقامة سدود بالتعاون مع إسرائيل تؤثر على حصة مصر من المياه، والشيء نفسه هدد به الدكتور محمود أبو زيد وزير الري الأسبق عندما طلبت دول المنابع تغيير الاتفاقيات الدولية الموقعة بين دول الحوض.

يبلغ الاستهلاك المصري من الماء حاليًا يبلغ 80 مليار متر مكعب من النيل يؤمن النيل منها 75% ومياه الصرف 20% والباقي أي 5% من مياه الأمطار والمياه الجوفية، ونلاحظ أن المياه التي تأتي عن طريق معالجة الصرف الصحي والصناعي هي ذاتها استرجاع لمياه النيل أصلاً، أي أن الموارد المائية المصرية خارج النيل لا تتعدى 2 - 5% فقط.

وهكذا فإن النيل هو شريان الحياة بالنسبة لمصر، وأي اقتراب من هذا الموضوع هو خط أحمر يمس حياة المصريين وليس نوعًا من الترف مثلاً، ونصيب الفرد المصري حاليًا من المياه حوالي 700 متر مكعب من الماء سنويًّا، وهو رقم شديد التدني بالنسبة للأرقام العالمية، ومرشح للمزيد من النقصان مع زيادة عدد سكان مصر "نصيب الفرد في العالم 4000 متر مكعب من المياه سنويًّا".

الموقف المصري قائم على أنه لا يجوز تغيير الاتفاقيات الدولية بخصوص المياه، وأن القانون الدولي يؤيد ذلك، أما دول المنبع فترى أن تلك الاتفاقيات تمت في مرحلة الاستعمار، ومن ثم فإن قراراها لم يكن بيدها في ذلك الوقت ولا يمكن الاستمرار في هذا الأمر، لأنه تم على حساب مصالح وحقوق شعوبها، وفي الحقيقة فإن تلك الاتفاقيات التي تمت إبان مرحلة الاستعمار لا تخص المياه فقط، ولكنها تخص الحدود كذلك، التي اعتبرتها منظمة الوحدة الإفريقية حدودًا منتهية لا يجوز إعادة النظر فيها، وإلا فتحنا الباب لصراعات بين دول إفريقية كثيرة.

كل طرف له حجته القانونية والإنسانية، فلا يمكن نقصان نصيب مصر من المياه التي تعاني أصلاً من ضعفها وإلا كان ذلك نوعًا من قتل الشعب المصري والقضاء على مستقبله، وكذا لا يمكن تجاوز حق دول المنبع في تنمية مواردها ورفع مستوى شعوبها، ويمكن الوصول إلى صيغة توافقية في هذا الصدد لو خلصت النوايا،  فمثلاً يبلغ الإيراد السنوي في بحيرة فيكتوريا 144 مليار لتر مكعب، وما يتم استخدامه منها يبلغ 21 مليار لتر مكعب، أي أن هناك 93 مليار متر مكعب من المياه تضيع، وبحيرة ألبرت يبلغ إيرادها السنوي 34 مليار متر مكعب يتم استخدام 26.5 مليار متر مكعب، ويضيع 6.7 مليار لتر مكعب، نفس الأمر بالنسبة للمياه الآتية من هضبة إثيوبيا، حيث يضيع معظمها في المستنقعات، وفي المحصلة فإن موارد النيل 1660 مليار متر مكعب سنويًّا لا يصل إلى مصر والسودان منها إلا 74 مليار لتر مكعب أي حوالي 4 %، والباقي يضيع أو جزء كبير منه.

وهكذا فإن إنشاء مفوضية عليا تهدف إلى تنسيق المشروعات وتدير الاستثمارات وطرح أفكار التعاون بين دول حوض النيل هي فكرة جيدة جدًّا، يمكن أن تزيد حصة مصر والسودان من الماء، وتحقق استثمارًا في دول المنبع، بحيث لا يضيع مئات المليارات من الأمتار المكعبة من المياه التي تهدر سنويًّا، ومن ثم تحل مشكلة الجميع، ولكن الإصرار على تعديل الاتفاقيات الموقعة يعطي الانطباع بأن المسألة ليست مسألة فنية بحتة، بل بها دوافع سياسية مختلفة، وعلينا أن ندرك أن مياه النيل لمصر مسألة حياة أو مَـوت وأنه بعد إعلان دول المنبَـع عن نيَّـتها توقيع اتِّـفاقية إطارية في 15 مايو 2010، بمعزل عن مصر والسودان هناك العديد من الخِـيارات المتاحة أمام مصر للتعامل مع الأزمة.

 أولها: "التفاوض أو ما يُـسمّـى بالخيار الدبلوماسي.

ثانيها: التحكيم الدولي أو ما يُـسمّـى بالخيار القانوني.

ثالثها: تقدير حاجة مصر الشديدة للمياه، حيث يبلغ عدد سكّـانها 80 مليون نسمة، وتمثل مِـياه النيل 85% من احتياجاتها من المياه، وهو ما يُـمكن تسميته بالخِـيار الإنساني.

 رابعها: "التهَـوّر والرّدود العنيفة أو ما يُـسمى بخِـيار الحرب أو الخِـيار العسكري".

وكانت بوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا وكينيا ورواندا وتنزانيا وأوغندا، قد اتفقت في 13 أبريل الماضي على اتِّـفاق إطار جديد حول "الاستِـخدام المُـنصِـف لنهْـر النيل"، لكن مصر والسودان أكبر المُـستهلكين لمياه النهر رفضتا الاتِّـفاق واشترطت مصر عدم المساس بحِـصَّـتها التاريخية في مياه نهْـر النيل، والنص في الاتفاق الجديد على حقّ مصر في رفْـض إقامة أية مشروعات على النيل، من شأنها الإضرار بحصة مصر، وحذّر محمد علام، وزير الموارد المائية المصري دول حوْض النيل من توقيع الاتفاق.

ويُـشار إلى أن اتفاقية عام 1929، التي مثَّـلت القِـوى الاستعمارية البريطانية في إفريقيا في أحد جانبيها، تمنح مصر 55.5 مليار متر مكعّـب سنويا، وهي أكبَـر حصّـة من المياه المتدفّـقة في النهر وتبلغ 84 مليار مترا مكعبا، كما تمنحها حقّ الاعتراض (الفيتو) على إقامة سُـدود وغيْـر ذلك من المشروعات المائية في دُول المنبَـع، التي تضمّ ستّـاً من أفقَـر دول العالم.

وتغذِّي مياه النيل، قطاع الزراعة في مصر والذي يعمل به نحو ثُـلث إجمالي الوظائف ولا يمكن أن تعتمد مصر عكس دول المنبع  على الأمطار، لكونها تعتمد على 87% من احتياجاتها المائية من نهر النيل.

أن دول المنبَـع الإفريقية التي تنبع مياه النيل من أراضيها وتصبّ في مصر والسودان بدأت تُـطالب منذ عام 2004 بحقِّـها في إقامة مشاريع سُـدود وجُـسور على مسار النيل، بدعوى توليد الكهرباء والزراعة الدائمة، بدل الزراعة المَـوسِـمية، وتطالب بتوقيع اتِّـفاق إطار جديد بخلاف اتفاق عام 1929، بدعوى أنّ مَـن وقّـع الاتفاق، هي بريطانيا التي كانت تحتلّ أوغندا وإثيوبيا وباقي دول منابِـع النيل، وظهر أن وراء هذه التحرّكات الإفريقية أصابع أمريكية وصهيونية للضغط على كل من مصر والسودان.

كانت إثيوبيا قد بدأت تشْـييد قُـرابة 10 سُـدود، بعضها تُـموِّله الصين وإسرائيل، ووصل الأمر إلى حدّ قول وزير الثروة المائية التنزاني أن بلاده ستمدّ أنابيب بحوالي 170 كيلومترا من بحيرة فيكتوريا، لتوصيلها إلى حوالي 24 قرية وأجزاء واسعة في الشمال الغربي لبلاده، التي تتعرّض لأزمة مياه وجفاف، وأنها لا تعترف باتِّـفاقية مياه النيل، التي تعطي الحق لمصر، أن توافق أو لا توافِـق على أي مشروع على النيل.

على الرغم أن موقِـف مصر قانوني، وهناك اتِّـفاقيات دولية لا يجُـوز خرْقها، خُـصوصا أنه لا توجد اتفاقيات دولية تتعارض مع ما تُـطالب به مصر من حقِّـها في أن يصِـل الماء لها، لأنه شريان الحياة وبدونه تعطش مصر.

إن حقوق مصر ثابِـتة طبقاً للقانون الدولي بالعديد من الاتِّـفاقيات الدولية، خاصة قانون الأنهار الدولية، الذي يحمي كافة حقوق مصر في حصَّـتها ويدعم موقِـفها القانوني، فضلا عن مبدأ قُـدسية الحدود المُـورثة عن الاستِـعمار أي ثبات الوضع الذي كان قبل الاستِـقلال، ومنها الموارد المائية .

فضلا عن أن استِـقرار هذا الوضع لمدّة طويلة، يجعلها بمثابة قاعِـدة قانونية لا يجوز مخالفتها، فضلا عن جعلها قاعدة عامة، طِـبقا لقانون المعاهدات الذي عَـرّف القاعدة الآمرة في القانون الدولي في المادة (53) على أنها: (القاعدة المقبولة والمُـعترف بها من قِـبل المجتمع الدولي ككل، على أنها القاعدة التي لا يجوز الإخلال بها والتي لا يُـمكن تعديلها، إلا بقاعدة لاحِـقة من القواعد العامة للقانون الدولي لها) ، مشيرا إلى أن "القاعدة الآمرة في القانون الدولي، لا يجوز الاتِّـفاق على مخالفتها".

نصّـت المادة (35) من قانون المعاهدات على الآتي: (ينشأ التِـزام على الدولة الغيْـر من نصّ في المعاهدة، إذا قصد الأطراف فيها أن يكون هذا النصّ وسيلة لإنشاء الالتزام وقبلت الدولة الغيْـر ذلك صراحة وكتابة)، معتبرًا أن "هذا ما حدث في الاتفاقيات المذكورة لاحقًا ولم تعترِض أيٌّ من دول حوض النيل على أي من الاتفاقيات السابقة، مما يعني قبولها بكل ما ورد في هذه الاتفاقيات".

وعلى ذلك فإن الموقف المصري من الناحية القانونية لا بأس به، لأنه يُـقرِّر حقّ دول المصبّ منذ عشرات السنين، لكن الموقف القانوني لمصر كانت تدعمه في الماضي مواقِـف أخرى، سياسية وثقافية وتعليمية وتنموية، تخلّـت عنها الحكومات المصرية خلال الثلاثين عاما الأخيرة، ومِـن ثمَّ لم يبقَ اليوم سوى الحقّ التاريخي لمصر في مياه النيل كدولة مصبّ.

إن هناك خلل أصاب الأداء المصري لملف مياه النيل رغم أهميته القُـصوى واعتباره مسألة حياة أو موْت وقضية أمْـن قومي  في أن "مشكلة الحكومة المصرية في إدارة ملف على هذه الدرجة من الأهمية، مثل علاقتها بدول حوْض النيل، دون اهتمام، مع ترك الملعب خاليا في الساحة الإفريقية والانسحاب منها، ممّـا قدّم الفرصة على طَـبَـق من فضّـة لإسرائيل لتلعب مُـنفردة.

لقد كانت لمصر علاقات قوية مع مُـعظم الدول الإفريقية، وكان أهمّ ما يميِّـزهاالدّور الذي لعِـبه الأزهر الشريف وعلماءه وجامعته في استِـقدام وتعليم الطلاّب الأفارقة من غالِـب دول القارة، من خلال فتْـح باب البعثات للطلاّب لتعلّـم العلوم الشرعية والتفقُّـه في الدِّين، إضافة إلى المساعدات التقنية التي كانت تقدِّمها مصر للدول الإفريقية.

كان غِـياب مصر في ضوء غياب الإستراتيجية المناسبة للاهتمام بمياه النيل والدّور الإفريقي عموما، وذلك لانشِـغالها بقضايا إقليمية وفي ظل محاولات عديدة لإبعاد مصر عن التّـواصل مع إفريقيا أو حتى مع السودان، ومن المعلوم أن السُّـدود التي أقامتها إسرائيل في أوغندا منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كانت معلومة  ولكن الأمر لم يشغل الحكومة المصرية حتى اكتمَـل بناؤها.

لا يمكن إعفاء سياسة مصر الخارجية من خطأ تركِـها الأزمة تتفاقم طِـوال هذه السنوات، رغم أنها أزمة تتعلّـق بوجود الدولة وكِـيانها، فقد ارتبطت سياسة مصر الخارجية على مَـرِّ العصور، بمُـعطيات جيوستراتيجية أملتها عوامل جغرافية وتاريخية اتَّـسمت بثبات نِـسبي، أبرزها اعتماد مصر شبه الكامل على مياه نهر النيل، الذي ينبع من خارج أراضيها ويجري داخل دول عدّة قبْـل أن يصل إلى حدودها الجنوبية، ومِـن ثمّ اعتبار المساس بحصّـة مصر من مياه النيل، خطّ أحمر، وكذا تحوّل حدودها الشمالية الشرقية (جهة سيناء) لبوابة لغزْو مصر، فأصبح أحد أهداف السياسة المصرية هو حماية هذه الجَـبهة بكل السُّـبل، واعتبار قضيَّـتيْ المياه والأمن، قضايا إستراتيجية لا جِـدال أو خلاف حولها، أيا كانت الأنظِـمة الحاكمة، لأن القضية قضية وجود وحياة، لا توجُّـهات أو خلافات.

وكان من الطبيعي وِفق هذه الحقائق، أن تشكل منطقة حوْض النيل، منطقة أمْـن ومجال حَـيوي لمصر، حيث كانت مصر تسعى لتقديم خدمات لدول أعالي النيل واستثمارات تُـعوِّضها عن المطالبة بإيقاف العمل باتفاقيات المياه، ولكن ما حدث في السنوات الماضية، هو أن مصر انكفأت داخليا وتقوقعت فانسحبت ليس فقط من المناطق الحيوية التي تهُـم أمنها القومي، مثل السودان أو فلسطين، وإنما من إفريقيا كلّـها تقريبًا، وباتت الروابط معها ضعيفة، برغم أن هذه الدول بدأت تتَـملْـمل منذ عدّة سنوات وتطالب بمنْـع مصر والسودان من الحُـصول على حصتهما الحالية من المياه، والحقيقة، أنها ليست مسؤولية مصرية فقط، وإنما عربية .

إن توقيع الاتفاق بدون مصر هو بمثابة إعلان الحرب على مصر، وذلك لأن مصر تحصُـل على 85% من احتياجاتها من المياه من نهر النيل، رافضا "استِـخدام مصر للحلّ العسكري في كل مراحله، بدءً من التلويح بالتّـهديد وانتهاءً بإعلان الحرب، مُـرورًا بكل الوسائل، بما فيها المناورات العسكرية.

إن المخاطر المتوقّـعة تتلخّـص في أن تَـمضي هذه الدول غيْـر عابئة بالرفض المصري، في إقامة سدود ومشاريع على النيل تؤدِّي لنقصِ موارد المياه القادمة لمصر والسودان، ويزيد هذا الأمر خطرا أن فيضان النيل هذا العام كان ضعيفا، وهناك توقّـعات بأن يستمرّ ضعفه في السنوات المقبلة أيضا، في حين تحتاج مصر للمزيد من المِـياه بأكثر من حصّـتها الحالية (55.5 مليار متر مكعب)، التي ترفض دول أعالي النيل حتى أن تحصُـل عليها.

كل هذا يرفَـع من درجات الخطر بصورة كبيرة، وقد تضطر مصر للدّخول في حروب مع هذه الدول وتدمير أيّ مشاريع تبنيها على النيل تضُـر أمْـن مصر المائي، ولو أن هناك شكوك في وقوع هذه الحرب بسبب تغيُّـر الأوضاع الدولية والتحالفات الأمريكية مع دول أعالي النيل.

 أن يؤدّي التناوُش المستمِـر والعداء  إلى مزيد من التّـمكين لإسرائيل في إفريقيا ومنابع النيل، حيث توجد حاليا بالفعل، وتبني مشروعات زراعية وسُـدود تؤثِّـر على حصّـة مصر والسودان، ما سيضُـر الأمن القومي المصري بصورة خطيرة.

إن  أمْـن دول حوْض النيل كُـتلة واحدة ووضع أسُـس لهذا الأمن، تقوم على تكافُـل وتكامُـل دول المنابِـع والمصب على تلبِـية احتياجات بعضها البعض والتكامل بين بعضها البعض في توفير المياه أو الكهرباء، وتبادل السِّـلع والبضائع والأغذية وحماية أمنها المُـشترك.

وهناك خُـطط مصرية في هذا الصدد وُضعت، لكنها لم تُـكتَـمل بسبب عدَم توافُـر مناخ الثِّـقة بين البلدان مثل: فكرة استفادة دول الحوض بجُـزء من الفواقد المائية للتّـساقط المطري على حوض النيل وإنشاء صندوق لتمويل المشروعات يلحق بالبنك الإفريقي للتنمية بصورة مؤقّـتة، فضلا عن مساعدة مصر لدول أعالي النيل في بناء السدود، كما يجري حاليا، بشرط عدم حجْـزها المياه واستفادة دُول الحوْض منها.

إعطاء ملف المياه أولوية قصوى لدى حكومات حوض النيل وتناوله عبْـر المستويات العُـليا الأمنية والإستراتجية، وليس فقط على مستوى وزراء أو مسئولي المياه.

يكون هناك اتِّـفاق على عدم تدويل أزمة حوْض النيل واعتبارها شأنا إفريقيا خاصا بدول النيل العشرة، بما يمنع أساليب التدخّـل الغربية والإسرائيلية وتحريضها وتأليبها الدول على بعضها البعض، ولهذا، فمن الضروري تحكيم العقل وعدم الاندِفاع في التهديدات والسعْـي لتعظيم "دبلوماسية المياه" لا "عصا المياه" .

التعليق على الصورة: بحيرة فيكتوريا هي المنبع الرئيسي لنهر النيل الذي تستفيد من مياهه عشر دول ، لكن كما أن الماء مصدر للحياة فإنه قد يكون مصدرا للحروب.

إذا كانت حروب الغد ستتمحور حول مشكلة المياه، كما يؤكد العديد من المراقبين، فإن اقتسام مياه نهر النيل قد لا تكون استثناءاً.

لكن مبادرة "أحواض النيل" قد تقدم سبيلا لتفادى النزاع بين الدول العشر المستفيدة من مياهه. وسويسرا ترى دورا مستقبليا لها في هذا المجال.

هل يمكن أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه اتفاقية مصر مع السودان لتوزيع مياه النيل التي وقعاها عام 1959 أمرا ينتمي إلى صفحات الماضي لا المستقبل؟، هناك العديد من المسائل المتنازع عليها التي تحيط باقتسام مياه النيل، من بينها هذه الاتفاقية التي نصت على منح مصر 55.5 مليون متر مكعب من المياه سنويا مقابل 18.5 مليون للسودان.

فإثيوبيا، التي ينبع منها فرع النيل الأزرق من بحيرة تانا، لا تعترف بتلك الاتفاقية، وهي ليست منفردة في موقفها هذا، إذ ترفضها أيضا العديد من الدول الأفريقية التي يمر بها النهر.

وإذا عرفنا أن مساحة المناطق التي تعتمد على مياه نهر النيل تصل إلى 2.87 مليون متر مكعب، وأن 300 مليون نسمة، هم سكان دول رواندا وبوروندي وتنزانيا وكينيا والكونغو وأوغندا وأثيوبيا وإريتريا إضافة إلى السودان ومصر، يقتسمون مياه ذلك النهر، وأن العديد من تلك الدول تواجه نزاعات مسلحة مع جاراتها، سيمكننا أن نفهم الطابع المعقد لهذه المسألة.

رغم ذلك تمكنت تلك البلدان عام 1999 من الاتفاق على مبادرة "أحواض النيل"، والتي دعت إلى استغلال موارد النهر "بصورة متوازنة وحكيمة ودون إلحاق الضرر" بأي دولة من الدول المطلة عليه، والأهم أن هذا الاتفاق شكل أرضية أساسية لمشروع تنموي ضخم (لازال في مراحله الأولية) ستكون له، في حال تنفيذه، أثاراً إيجابية حاسمة على حياة شعوب المنطقة.

 يعتبر نهر النيل هو أطول أنهار العالم حيث يبلغ طوله 6670 كيلو متر، وتقدر مساحة حوض النيل بنحو 9.21 مليون كيلو متر مربع أي ما يعادل 10% من مساحة إفريقيا، وتوجد منابع النيل في 3 قطاعات هي القطاع الجنوبي ويضم بحيرة فيكتوريا، وتشترك فيها كل من تنزانيا وأوغندا وكينيا، كما يوجد نهر كاجيرا في رواندا وبوروندي، وبحيرة إدوارد وألبرت، وهي مشتركة بين أوغندا والكونغو، أما القطاع الشرقي فيضم إثيوبيا، ومنابع النيل الشرقية تعطي النيل 85% من المياه التي تصل إلى مصر، والباقي 15% من القطاع الجنوبي.

فالحديث الجاري هو عن استغلال موارد النهر، عن توليد الطاقة الهيدروجينية ومد شبكات الكهرباء، عن شبكات لتصريف المياه، عن الاستخدام الأفضل للمياه المطرية، عن صيغة أفضل لإمداد السكان بمياه شرب صحية، عن طريقة لحماية الأراضي الزراعية من الفيضانات، و عن استغلال الموارد السمكية.

لكن هذه الأهداف لا تمثل سوى قمة الهرم. فإذا نجحت تلك البلدان في تحقيق ذلك سيصبح من الممكن أن تشترك في مشاريع لمد الطرق، وشبكات الاتصال، ورفع مستوى التبادل التجاري بينها. والمحصلة الرئيسية لكل ذلك سيكون الاستقرار السياسي كما يأمل المنظرون.

مبادرة حوض النيل: تحديات وفرص

التعليق تهدف مبادرة "حوض ألنيل" إلى بحث سبل التعاون الإقليمي بين بلدان المنطقة.

 يعقد ممثلو عشر دول من بلدان حوض النيل اجتماعا في قصر الأمم المتحدة بجنيف لمدة ثلاثة أيام للتعريف بما سمي بـ " مبادرة حوض النيل" الهادفة إلى تقاسم الموارد المائية في المنطقة وتعزيز التعاون الإقليمي . هذه المبادرة يرى فيها العديد من المراقبين تجربة جديدة لمحاربة الفقر وللتخفيف من الصراعات الإقليمية، لكن بعض المنظمات غير الحكومية تنتقد جوانبها السلبية.

يعقد وزراء من عشر دول متواجدة على حوض نهر النيل اجتماعا هو الأول من نوعه لدراسة أوجه التعاون الإقليمي بين هذه الدول فيما يعرف "بمبادرة حوض النيل "، والتماس مساعدة الدول المانحة لتمويل مشاريع مشتركة.

ويشارك في هذا الاجتماع، الذي يرأسه البنك الدولي، ممثلو الدول التي يعبرها نهر النيل، وهي بوروندي والكونغو الديمقراطية ومصر وإريتريا وإثيوبيا وكينيا وأوغندا ورواندا والسودان وتنزانيا، إضافة إلى ممثلين عن المؤسسات التنموية الأممية ومشاركة عدة دول مانحة من بينها سويسرا، ويتعلق الأمر بمنطقة تبلغ مساحتها نحو ثلاثة ملايين كيلومتر مربع ويقطن بها أكثر من 300 مليون نسمة.

مبادرة حوض النيل مثال لباقي مناطق إفريقيا ؟

انطلقت مبادرة حوض النيل في عام 1999 تحت إشراف مجلس وزراء الموارد المائية في دول حوض وادي النيل. والهدف من هذه المبادرة هو تقاسم الموارد المائية بين هذه الدول وإنجاز مشاريع مشتركة على طول ضفتي وادي النيل تتمثل في حماية البيئة وإنتاج الطاقة الكهربائية، وترشيد استعمال المياه في الإنتاج الفلاحي واقتصاد الموارد المائية، وتعزيز بناء الثقة بين الدول المشاركة في المشروع، وتبادل الخبرات في مجال التكوين وفي مجال تحقيق التنمية المستديمة.

وقد وصف مدير البنك الدولي السيد جيمس فولفنسن في كلمة الافتتاح هذه المبادرة "بالفرصة التاريخية لتحقيق تغلب التضامن والسلام على الفقر والتخلف".

 وتساءل أمام الحاضرين "هل بالإمكان تعميم التجربة إلى باقي القارة الإفريقية؟" قبل أن يجيب "بأن التعاون بين دول المنطقة سيعمل على تخفيض التكاليف الباهظة، الناجمة عن العزلة وعن رغبة كل بلد في الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة والغذاء بل حتى في المجال العسكري وهو ما يصرف الجهود عن محاربة الفقر".

 كما أن التعاون المشترك في مجال الحفاظ على ضفاف النهر سيعمل على تجنب أخطار التصحر والفيضانات المدمرة التي تمس المنطقة وهو ما سيعمل على الحفاظ على البيئة ويشجع الاستثمارات الخارجية على التدفق على بلدان المنطقة، حسب رأي مدير البنك الدولي.

لكن إذا كانت الأفكار المعروضة في مبادرة حوض النيل مشجعة ومغرية فإن تحقيقها على أرض الواقع في مشاريع تحسن وضع مواطني المنطقة يتطلب تمويل الدول المانحة لهذه المشاريع الطموحة، وهذا هو الهدف الثاني من اجتماع جنيف بحيث سيحاول مديرو المشروع حتى نهاية الاجتماع، إقناع الدول المانحة بجمع الـ 211 مليون دولار الضرورية لتمويل المشاريع العاجلة.

لكن الاتحاد الأوربي وعلى لسان الممثل السويدي ربط "زيادة مساهمة الاتحاد الأوربي بتحقيق مزيد من التقدم في مجال تعزيز السلام والتعاون البناء بين بلدان المنطقة".

انتقادات من المنظمات غير الحكومية

بما أن أهم المشاريع تتمثل في بناء سدود على مجرى نهر النيل فإن منظمة "إعلان بيرن"، وبالاشتراك مع 84 منظمة غير حكومية أخرى مدافعة عن البيئة، انتقدت عدم مراعاة المعايير التي سنتها لجنة السدود الدولية في بناء بعض السدود على وادي النيل.

فقد طالبت منظمة إعلان بيرن من رئيس البنك الدولي "تأجيل تمويل مشروع بناء سد بوجاغالي في أوغندا نظرا لاحتوائه على عدة نقائص".

وحتى ولو اعترفت المنظمات غير الحكومية بمدى أهمية الطاقة الكهربائية في مجال التنمية، إلا أنها تخشى أن يؤدي بناء الكثير من السدود على ضفتي وادي النيل إلى المساس بالنظام البيئي للنهر

وأخيراً، إن اشتراك مصر مع تسع دول ثمان دول هي دول المنبع، والتاسعة هي مصر دولة المصب التي تشترك معها السودان، ومع مشكلة نقص المياه تحولت المياه إلى مشكلة عالمية تثير هواجس الحرب والتوتر في مناطق عدة من العالم.

 وأكثر من ذلك دخول إسرائيل على خط الأزمة المائية عبر أثيوبيا فان أمن مصر المائي يتهدده الخطر، فإسرائيل تخطط للاستيلاء على الأنهار أو منابعها وكذلك استغلال هذه الورقة كورقة ضغط على مصر لتحقيق مطالبها.