قوص في عيون الرحالة

محمد عبد القادر التونى

عن جدارة واقتدار استحقت مدينة قوص أن يطلق عليها لقب مدينة العلم والعلماء ؛ تلك المدينة التى أرخ لها العديد من الرحالة والمؤرخين والجغرافيين وأشادوا بمكانتها العلمية والتجارية والجغرافية فضلاً عن مكانتها الحربية فقد كانت فى عهد السلطان قلاوون قلعة حربية بحكم موقعها الجغرافى بين بلاد المشرق والمغرب وكان لها فضل كبير فى هزيمة ملك النوبة ( سمانون ) الذى تمرد على السلطان قلاوون فسار الجيش من قوص وعلى رأسه المماليك السلطانية فى قوص بالإضافة إلى أجناد مركز قوص وعربان الإقليم وهم أولاد أبى بكر وأولاد عمرو وأولاد شريف وأولاد شيبان وأولاد الكنز وبنى هلال وغيرهم ، فاكتسبت على مر العصور سيرة طيبة عطرة يفخر بها أبناؤها جيلاً بعد جيل ؛ فها هو الرحالة الفارسى ( خسرو) يؤرخ لها فى عصر الدولة الفاطمية وهو فى طريقه إلى أسوان متجهاً إلى بلاد المشرق فى رحلته المعروفة ( سفرنامه ) وهى كلمة فارسية بمعنى كتاب الرحلة يصف فيه مبانيها قائلاً : ( ومن هنا بلغنا مدينة تسمى قوص رأيت فيها أبنية عظيمة من الحجارة تبعث على العجب وهى مدينة قديمة محاطة بسور من الحجر وأكثر أبنيتها من الحجارة الكبيرة ) ويستعجب خسرو كثيراً وهو يتأمل ضخامة هذه الحجارة وكيف نقلت إليها رغم عدم وجود جبل أو محجر قريب منها  ! . أما فى عصر الدولة الأيوبية فقد زارها الرحالة المغربى بن جبيروقد وصفها فى رحلته قائلا  ( وهذه المدينة حفيلة الأسواق متسقة المرافق كثيرة الخلق لكثرة الصادر والوارد من الحجاج والتجار اليمن والهنديين وتجار الحبشة لأنها محط للرحال ومجمع الرفاق وملتقى الحجاج المغاربة والمصريين والاسكندرنيين ومن يتصل بهم ويمرون بصحراء عيذاب وإليها انقلابهم فى صدرها إلى الحج . أما ياقوت الرومى فيصفها فى معجم البلدان موضحاً معناها قائلاً : قوص بالضم ثم السكون وصاد مهملة وهى قبطية أى أن قوص كلمة قبطية : مدينة كبيرة عظيمة واسعة ، وهى قصبة صعيد مصر بينها وبين الفسطاط اثنا عشر يوماً ، وأهلها أرباب ثروة واسعة وهى محط التجار القادمين من عدن وأكثرهم من هذه المدينة وهى شديدة الحر لقربها من البلاد الجنوبية ، وبينها وبين قفط فرسخ وهى شرقى النيل بينها وبين بحر اليمن خمسة أيام أو أربعة . أما الإدفوى صاحب الطالع السعيد فقد أفاض فى وصف هذه المدينة ويشترك معه فى الحديث عنها معاصر له هو ابن فضل الله العمرى فى كتابه مسالك الأمصار فى ممالك الأمصار الذى يقول فيه ( إن قوص أكبر مدينة بالصعيد وفيها تنزل القوافل الواردة من بحر الهند والحبش واليمن والحجاز بعد مرورها بصحراء عيذاب وفيها كثير من الفنادق والبيوت الفاخرة والحمامات والمدارس والبساتين والحدائق ومزارع الخضروات ، ويسكنها سائر أرباب الصنائع والفنون والتجار والعلماء والأغنياء وذوو العقارات والأملاك ، وهواؤها فى غاية الحرارة .

ثم يزورها الرحالة المغربى ابن بطوطة فيصفها قائلاً : ( قوص بضم القاف مدينة عظيمة لها خيرات عميمة ، بساتينها مورقة وأسواقها مولقة ولها المساجد الكثيرة والمدارس الأثيرة ، وهى منزل ولاة الصعيد وبخارجها زاوية الشيخ شهاب الدين عبدالغفار وزاوية الأفرم وبها اجتماع الفقراء المتجردين فى شهر رمضان من كل سنة ، ومن علمائها القاضى جمال الدين بن السديد ، والخطيب بها فتح الدين بن دقيق العيد أحد العلماء والبلغاء الذين حصل لهم السبق فى ذلك لم أجد من يماثله إلا خطيب المسجد الحرام بهاء الدين الطبرى وخطيب مدينة خوارزم حسام الدين الشاطبى .

وننتقل إلى ماقاله بن دقماق المؤرخ المصرى عن هذه المدينة فى كتابه الانتصار بواسطة عقد الأمصار قائلاً : ( إن هذه المدينة قديمة تعرف بقوص العالية بنيت فى زمن شداث بن عديم وهو السادس من ملوك مصر بعد الطوفان بناها لابن له كان قد سخط عليه وعلى أمه فبنى لهما هذه المدينة وحولهما إليها وأسكن عندها قوماً من أهل الحكمة وأهل الصناعات ، وهى على ضفة النيل الشرقى وهى الآن مدينة الإقليم بعد أن كانت مدينة الإقليم قد خرجت فى سنة 400 للهجرة 1009 للميلاد وبها الآن متولى الحرب السعيد وقاضى القضاة ، وقيل أنها سميت بقوص بن شنقاق بن أشمن بن مصر وهى باب مكة واليمن والنوبة وسواكن والتاكة وبهذه المدينة ستة عشر مكاناً للدرس . أما القلقشندى فيتطرق إلى مواضع جديدة فى وصفه لمدينة قوص فى كتابه صبح الأعشى فى صناعة الأنشا حيث يقول ( قوص بضم القاف وسكون الواو وهى مدينة جليلة على البر الشرقى من النيل ذات ديار فائقة ورباع أنيقة ومدارس وربط وحمامات يسكنها العلماء والتجار وذوو الأموال ولها البساتين والحدائق المستحسنة إلا أنها شديدة الحر كثيرة العقارب حتى أنه يقيض لها من يدور فى الليل فى شوارعها بالمسارج لقتلها ، ويقاربها فى الكثرة سام أبرص . ويقول عنها المقريزى فى خططه ( اعلم أن قوص أعظم مدن الصعيد وهى على النيل بنيت بعد قفط فى أيام ملك القبط الأول ، وقوص كثيرة العقارب وبها صنف من العقارب القتالات حتى أنه كان يقال بها أكلة العقارب ، لأنه كان لايرجى لمن لسعته حياة ، واجتمع بها مرة فى يوم صائف على حائط الجامع سبعون سام أبرص صفاً واحداً ، وكان الواحد من أهلها إذا مشى فى الصيف ليلاً خارج داره يأخذ بيده مسرجة تضىء له وبالأخرى مشك من حديد يشك به العقارب ، ثم أنها تلاشت بعد سنة ثمانمائة ، ولما كانت الحوادث والمحن مات بها سبعة عشر ألف إنسان فى سنة ست وسبعمائة وكانت من العمارة بحيث أنه تعطل فيها فى سواقى البلاد سنة ست وسبعين وسبعمائة خمسون مغلقاً ، والمغلق عندهم بستان من عشرين فداناً فصاعداً وله ساقية بأربعة وجوه . وقد أثبت بن الجيعان فى التحفة السنية أن مدينة قوص ليس لها طين أى أنه ليس لها أراض زراعية .

ومما سبق يتضح لنا أن مدينة قوص حظيت بما لم يحظ به غيرها من المدن فى التأريخ لها وذلك بحكم موقعها الجغرافى ومكانتها كعاصمة للصعيد ؛ والحديث عن قوص شائق وغير ممل ويحتاج إلى كتابات كثيرة تتناول كل جانب من جوانب الحياة فيها بالتفصيل ؛ لذا فإننى أرجىء الحديث عنها إلى مرات قادمة ؛ وأود أن أختم مقالتى هذه بأبيات شعرية للادفوى مادحاً قوص قال فيها :

أنزل بقوص فإنما * هى منزل الفطن الحكيم

واشرب مياهاً قد أتت * من طيب جنات النعيم

رقت وراقت فأحسها *ياصاح فى الليل البهيم

وانشق شذا عرف الريا * ض يفوح من لطف النسيم

وانظر إلى جرى الجدا *ول فى المفارط والكرم

حكت الجنان بما حوت *حساً وبالوجه الوسيم

ما العيش إلا ما مضى * لى فى رباها من قديم

قوص مدينة فى صعيد مصر تابعة لمحافظة قنا

المصدر لأقوال الرحالة والمؤرخين : قوص فى التاريخ الإسلامى ،  محمد عبده الحجاجى ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1982.