على هامش ذكرى نصر أكتوبر

على هامش ذكرى نصر أكتوبر:

عزت القاضي :

تضحيات وبطولات .. في ثمان سنوات

د. خالد القاضي

لم يكن ( عمي ) عزت القاضي  - الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى منذ أسابيع – من المشاهير الذين يشار إليهم بالبنان .. فلم يكن نجمًا سينمائياً ساطعًا  ، ولا لاعبًا كرويًا لامعًا  ،  ولا سياسيًا محنكًا ، ولا مفكرًا كبيرًا ، ولا كاتبًا معروفًا .. ولا غيرأولئك وهؤلاء .. وإنما كان عزت القاضي أنموذجًا رائعًا لجندي مصري عادي نال شرف الخدمة بالقوات المسلحة طيلة ثمان سنوات ..  سجل فيها – وزملاؤه الأوفياء – لوحة ناصعة من التضحيات والبطولات في تاريخ العسكرية المصرية .. إنها صورة مشرفة لكل الأجيال الشابة في مصرنا الحبيبة تجسد معاني الانتماء والوطنية والتماهي في ذات الوطن.

          ففي أعقاب نكسة 5 يونيو 1967 وقت أن اتشحت مصر بالسواد على الشهداء القتلى فى كل مدينة وقرية في بر مصر ، كان عزت القاضي شابًا يافعًا تتوق نفسه للذود عن حمى الوطن ، وكان قد أتم تعليمه استعدادًا للعمل مدرسًا للغة العربية بمحافظة قنا والاقتران ( ببنت الحلال ) التي سوف يكمل معها رحلته في الحياة ، وفي ليلة العُرس وأثناء تلقيه التهنئة من الأهل والأصدقاء ، إذ برسول     ( الجهادية ) ينادي .. أين عزت القاضي ؟! ، فيهب العريس واقفًا شامخًا قائلاً : هاأنذا .. ويسارع الخُطا يلبي نداء الوطن والشرف والمجد..  حاملاً السلاح ، وينتظم في صفوف الجنود المخلصين الطائعين - الطامحين ، لمحو آثار النكسة التي ألمت بالبلاد والعباد .. ويعود في أجازة قصيرة بعد عدة شهور  ليتزوج – في هدوء - من رفيقة دربه.

وماهي إلا شهور معدودة حتى شارك عزت القاضي في حرب الاستنزاف بين مصر والعدو الإسرائيلي ( 1968- 1970) ، والتي من أبرزها خمس معالم رائدة  للجيش المصري : هي معركة شدوان وعملية لسان التمساح وتدمير مخازن الذخيرة بمنطقة الجدي وتدمير رصيف إيلات الحربي وإغراق وتدمير المدمرة إيلات..  وقداستطاعت العسكرية المصرية أن تطبق أسس فنون الحرب خلال فترة الاستنزاف تطبيقًا سليمًا حقق الهدف من استنزاف القدرات العسكرية الإسرائيلية ، ولم تفلح إسرائيل في استغلال قوة الردع المتيسرة لديها والمتمثلة في تفوقها ومدفعيتها الرابضة على الضفة الشرقية للقناة .         

وتمضي أيام الأمل والرجاء في استرداد العزة والكرامة ، ويستمر الجندي عزت القاضي في تلقي فنون القتال مترقبًا تنفيذ الأوامر العسكرية بالعبور إلى النصر ومحو آثار الهزيمة ، غير مبالٍ بالتزاماته الاجتماعية والعملية إلا من هدف قومي وحيد ، وغاية وطنية كبرى ..  وجاء يوم السادس من أكتوبر عام 1973     ( العاشر من رمضان ) .. يوم انفجار البركان الذى هز الكيان الصهيونى فانهار تحت غطاء العبور المجيد ، وأثبت المقاتل المصري أنه أعظم المقاتلين شأنًا وكفاءةً فى ميادين القتال بعد أن توافرت له الخطة والقيادة .. وتحققت أهداف الحرب واستردت مصر سيناء وتم تدمير خط بارليف الحصين وعبور قناة السويس .. وانتهت الحرب رسميًا بالتوقيع على اتفاقية فض الاشتباك في 31 مايو1974 حيث أذعنت إسرائيل بالموافقة على إعادة الضفة الشرقية  لقناة السويس لمصر .. ويعود عزت القاضي عام 1975 إلى أهله في فرشوط بمحافظة قنا .. رافع الرأس عالى القامة ليبدأ عمله مدرسًا للغة العربية ، بعد ثماني سنوات قضاها في التضحيات والبطولات لوطنه ( مصر الغالية ) .. فما أجمل الانتصار ،  وما أجمل النهاية أن تكون أنت البطل المنتصر ترفع رأسك أمام العالم في واحدة من أقوى وأشرس الحروب في تاريخ البشرية.

ولعل السنوات الثماني التي قضاها عزت القاضي في الثكنات والخنادق وساحات القتال ، وما تعرض له من مواقف وأزمات بفقدان جندي زميل أو إصابة آخر ، أكسبته عدة صفات فريدة في شخصيته أهمها الصبر والجلد وقوة الاحتمال والتي لازمته  طيلة حياته .. وقد امتزجت تلك الصفات المكتسبة بأخرى فطرية هي الوداعة والتسامح وروح الدعابة والشهامة .. فكان هذا الامتزاج الثري بمثابة الترياق الشافي لكل أوجاعه وآلامه التي ألمت به في السنوات الأخيرة من عمره البالغ حوالي خمس وستين عامًا ، فقد داهمته أمراض عضال لا يقوى على تحملها إلا أهل العزيمة وأرباب الهمم العالية ، فقد كادت روحه تفئ إلى بارئها مع كل عملية غسيل للفشل الكلوي الذي أصابه قبل ست سنوات من رحيله ، حتى إذا جاء الأجل المحتوم في صبيحة يوم أحد عشر خلت من شهر رمضان -  مع ذكرى النصر المؤزر - فاضت روحه الطاهرة  -  وهو على جهاز الغسيل الكلوي - إلى الحي القيوم الذي بيده ملكوت السماوات والأرض ، لتسكن جنات الخلد بإذن الله تعالى  خاشعة لقول الحق سبحانه وتعالى : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ). صدق الله العظيم.