وفاة المُفكِّر .. وولادة التفكير
وفاة المُفكِّر .. وولادة التفكير
د.محمد سالم سعد الله
يشغل المفكر في منظومة المجموع مكانة علمية متميزة ، وتثير معطياته المتلقين تبنياً أو رفضاً أو رداً أو جدلاً أو نقاشاً ، وتسهم نتاجاته في تحريك جمود الفكر تارة ، وإنعاش الوسط الثقافي تارة أخرى بما يتطلبه الأمر من تحليل وتعليل ، وسؤال وجواب ، ويزداد الأمر شحنةً إذا كان مسار التفكير متجهاً نحو مناقشة الثوابت ، ونقد المُسلّمات ، واقتحام الحصون ، وزرع بذور التشكيك في المقولات ، وتحفيز الجمهور على إعادة قراءة الموروث برؤية لا تثق بالمتوارث ، ولا تخضع إلا لحكم العقل !! .
لقد غيّبت المشيئة الإلهية في هذا العام مجموعة من المفكرين الذين اشتغلوا بدراسة النص الإسلامي بطرائق متنوعة ومختلفة ، وكان لهم باع متميز في الحديث عن المسكوت عنه ، وتحليل الجوانب الفكرية التي تعامل المجموع معها بوصفها مُسلّمات لا تقبل الشك أو الجدل أو النقاش ، لقد مثّل عامُ (2010) عامَ حزن بالنسبة للوسط الثقافي العربي والعالمي برحيل مفكرين وباحثين أجلاء ، ونقاد كبار أهل نظر وعطاء ، مع حفظنا لكل منهم خصوصيته في الطرح والمعالجة ، واحترامنا للمنزلة العلمية التي وصلوا إليها عبر مسيرة معرفية محملة بالنتاج والفكر والنقاش والحوار ـ سواء أكنا متفقين معهم أو مخالفين ـ ومن المفكرين الذين رحلوا هذا العام : (محمد عابد الجابري ، ونصر حامد أبو زيد ، ومحمد أركون ، وعبد الصبور شاهين) رحمهم الله جميعاً .
إن الحديث عن الرصيد الفكري الذي قدّمه هؤلاء حديث ذو شجون ، وإن الدخول في تحليل الإرث المعرفي لهم دخول في متاهة ثقافية تتطلب التسلح بأدوات علمية ومعرفية وحضارية متنوعة ، نظراً للجهد العلمي الكبير الذي قُدِّم منهم طوال عقود خلت ، لكن الميدان الذي يجمعهم وتُختصر فيه منظومة أعمالهم هو ميدان ( النقد الدينيّ ) .
وإذا كان النقد الدينيّ هو الميدان الذي جمع الجابري وأبا زيد وأركون وشاهين في السياق المعرفي نفسه ، فإن المسار الذي اختطّه كل منهم يختلف عن الآخر ، فمسار النقد الدينيّ عند الجابري متعلق ومرتبط بشكل كبير بنقد ( العقل العربي ) ، ومسار أبي زيد متعلق بنقد ( النص ) وبيان ارتباطه الوثيق بالواقع ، ومسار أركون متعلق بنقد ( العقل الإسلامي ) وبيان مزالقه ، أما مسار عبد الصبور شاهين فمتعلق بتحديث مسار ( التفكير الإنسانيّ ) في النص الدينيّ ، وإعمال الآليات العقلية في تقديم قراءات معاصرة في فهم النصوص انطلاقا من قاعدة ( ثبات النص ، وحركية المعنى ) .
يتوجه خطاب الجابري إلى الحفر في بنية العقل العربي وكشف مرتكزاته ومعطياته ، ويتجه خطاب أبي زيد إلى نقد النص الإسلامي وبيان الحاجة إلى إعادة تحليل المُسلّمات وربطها بالواقع ، ويتجه خطاب أركون إلى نقد العقل الإسلامي وبيان المكاسب والمآخذ التي رافقت مسارات اشتغاله ، أما خطاب شاهين فيتجه وبشكل فاعل وحيوي إلى بيان ممكنات تقديم شكل جديد من الفهم لمدارات الخطاب الديني ، وتحفيز العقل المسلم المعاصر إلى استثمار الجهد العقلانيّ العلميّ الحديث بكل أبعاده في تنمية الفكر وتحديثه ، وقد أسهمت هذه المسارات ـ بشكل أو بآخر ـ إلى إحداث جدل فكري واسع في الوسط الثقافي العربي والإسلامي والعالمي ، نظراً للإشكاليات الفكرية والمعرفية التي قُدّمت فيها ، فضلا عن أن بعضها آثر اقتحام بعض الخطوط الحُمُر التي عُلمت من الدين بالضرورة ، ومناقشة الثوابت التي تعايش معها المجموع بوصفها بدهيات لا تقبل الشك ولا الرجحان ولا النقض .
أعتقد أن المجمل العلميّ لهذه الأسماء سيحفز الأقلام عقوداً قابلة لتطوير مسارات التفكير وتحديثها في النص المقدس ، وإذا كان الأمر متعلقاً بإطار استخدام الأدوات العلمية الموضوعية دون افتعال أو تشنج أو إسقاط حكم مسبق في مسار تحليل النص وكشف جمالياته : الفنية منها والموضوعية ، فلا إشكالية موجودة ، لكن القضية متعلقة بحمولات أو مرجعيات هذا المفكر أو ذاك ، تلك المرجعيات التي تحفّز المفكر في اتخاذ مواقف مسبقة : معلنة أو غير معلنة من النص ، وتبني مسار متحيز للتحليل ، وممارسة ميدان مؤدلج للتعليل ، ولنا في الأسماء ـ التي رحلت جسداً ، وبقيت نتاجاً ـ معالجةً لآلية التفكير التي واجهت النص الدينيّ ونظرت فيه ناقدة ومحللة ومفسرة ، ويمكننا تقديم هذه المعالجة بإطارين اثنين :
الأول : فهم النص
الثاني : نقد النص
يتعلق الإطار الأول بجهود متميزة ومتألقة للمفكرين الجليلين : ( الجابري ، وشاهين ) إذ أسهمت نتاجاتهما في تقديم قراءات حيوية متعلقة بالنص الديني ، نذكر منها ـ على سبيل التمثيل ـ ما يأتي :
ـ محمد عابد الجابري : كتاب مدخل إلى القرآن الكريم ، الجزء الأول بعنوان : في التعريف بالقرآن ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 2006 . والجزء الثاني بعنوان : فهم القرآن الكريم ، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 2009 ، وهذا الجزء عبارة عن ثلاثة كتب أطلق عليها الجابري : (ثلاثة أقسام).
ـ عبد الصبور شاهين : كتاب تأريخ القرآن ، دفاع ضد هجمات الاستشراق ، دار الكتاب العربي . وكتاب أبي آدم ، قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة ، دار الاعتصام ، 1998 .
لقد ختم الناقد والمفكر والفيلسوف الجابري حياته بتقديم تصوراته ومعطياته حول القرآن الكريم ، وقدّم لنا تفسيراً معاصراً للنص القرآني ، وقد اتخذ الجابري هنا مواقف علمية من قضايا كثيرة متعلقة بالنص القرآني من قبيل المجمل والمفصل ، والناسخ والمنسوخ ، وغير ذلك من الأمور التي شغلت حيزاً واسعاً من ميدان علوم القرآن عبر مساحة زمنية ممتدة لقرون .
أما المفكر القدير الأستاذ عبد الصبور شاهين فقد ختم حياته متكئاً على جهد متميز في دراسة النص القرآني ، وقد كانت لآرائه العلمية موضع قبول واستحسان من الوسط العربي والإسلامي ، فضلاً عن تصديه لكثر من القضايا المتعلقة بتحميل النص القرآني ما لا يحتمل ، كتصديه لنصر حامد أبو زيد في الميدان الأكاديمي وأمام القضاء المصري بسبب آراء أبي زيد المتعلقة بمفهوم النص القرآني .
أما الإطار الثاني فمتعلق بجهود فكرية أثارت جدلاً فكرياً واسعاً ، وأخذت نصيباً من الرقعة الفكرية العربية والإسلامية والعلمية ، نظراً لما رافقها من معطيات متعلقة بتجاوز منطقة الخط الأحمر لما عُلِم من الدين بالضرورة ، نذكر من هذه النتاجات ـ على سبيل التمثيل ـ ما يأتي :
ـ نصر حامد أبو زيد : كتاب مفهوم النص . دراسة في علوم القرآن ، المركز الثقافي العربي ، ط4 ، 1998. وكتاب نقد الخطاب الديني ، دار سينا للنشر ، ط2 ، 1994 .
ـ محمد أركون : كتاب نحو نقد العقل الإسلامي ، ترجمة : هاشم صالح ، دار الطليعة ، 2009 . وكتاب من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي ، ترجمة : هاشم صالح ، دار الساقى ، ط2 ، 1991 .
وصف أبو زيد الحضارة الإسلامية بأنها حضارة نص وتأويل ، وقد استخدم التأويل بمعنى الكشف عن الدلالة الخفية ، والعودة إلى أصل الشيء ، وذكر أيضاً أن التأويل بوصفه حركة ذهنية هو الفهم الأقرب إلى الاستخدام القرآني ، وإن التفسير يحتاج إلى وسيط وهو النقل ، في حين لا تحتاج عملية التأويل إلى ذلك بل تعتمد على حركة الذهن في اكتشاف أصل الظاهرة أو في تتبع عاقبتها ، بمعنى أن التأويل يقوم على علاقة مباشرة بين الذات والنص ، في حين لا توجد هذه العلاقة في عملية التفسير ، والتفسير متعلق بالجوانب الخارجية للنص من أسباب النزول ونحو ذلك ، في حين يرتبط التأويل بدور القارئ في مواجهة النص واستنباط دلالاته ، لذلك فالنص القرآني عند أبي زيد مرتبط بلحظة نشوئه ونزوله ، بمعنى ارتباطه بالحدث التأريخي الواقعي .
ولا يخفى ما لهذا التوجه من طرح خطير وجريء بحق النص القرآني ، إذ يقتضي توجه أبي زيد ربط نزول النص القرآني بأحداث الواقع وحسب ، وهذا يقود إلى القول بكون القرآن الكريم وليد بيئته وليس محفوظا في اللوح المحفوظ كما نصت الآية الكريمة على ذلك : ) بَلْ هُوَ قُرآنٌ مَجيدٌ فِي لَوحٍ مَحْفُوظٍ ( (سورة البروج ، الآيتان : 21 ـ 22) ، وقد تصدى لأفكار أبي زيد مجموعة من المفكرين والنقاد الإسلاميين المعاصرين من مثل : ( محمد عمارة ، وعبد الصبور شاهين ) .
أما النص القرآني عند أركون فينطلق من عدّه جزءاً من التراث الخاضع للقراءة النقدية !! ، بمعنى أن القرآن ليس أكثر من نص كونته الأحداث التأريخية المرتبطة بواقع محدد وبشخصيات معروفة، مثله في ذلك مثل أي نص تراثي عربي آخر كالشعر والنثر وغيرهما !! .
ويقتضي توجه أركون هذا مواجهة النص القرآني بوصفه نصاً غير مقدس ، يخضع للتأويل والتحليل والنقد والنقض والرد والنقص وغير ذلك ـ تعالى النص القرآني عن ذلك علواً كبيراً ـ ، وقد نهض جمع من المفكرين الإسلاميين المعاصرين بالرد على طروحات أركون ودحضها ، وقد عُدّت كتاباته من أكثر النصوص اقتحاماً وإشكالية وجرأة ، فضلاً عن كونها من أكثر النصوص التي تلقت رداً ونقداً ونقضاً ونقاشاً وحواراً في العصر الحديث ، وقد نالت جهداً وافراً من كتابات النقاد ، وأحدثت نقلة معرفية في تنامي الخطاب النقدي من حيث استخدام الأدوات التحليلية الحديثة في بيان الأخطاء العقدية والفكرية والثقافية التي اصطبغت بها كتابات أركون .
إن سلالة الفكر مستمرة بتوالي سلسلة المفكرين ، وإن مشروعية تكوين الأسئلة ، ومحاكمة النتاجات قائمة ، في ظل حركة نقدية لا تعرف التوقف ، وفي إطار مشهد معرفي ذي فضاءات مفتوحة للجميع ، وفي حضور طروحات فكرية وقفت بين خطين : موافق ومخالف ، وفي ميدان العمل ضمن ثنائية الحضور والغياب ، فإذا غاب المفكر إنساناً ، حضر نتاجاً ، وإذا جنح الفكر نحو التغريب ، حضر التفكير بوصفه عنصراً فاعلاً في النقد والتغيير والتطوير والتنمية والتحديث .
تمثل استمرارية التفكير في تمحيص المقولات ، واختبار النتاجات ، مشروح حياة معرفية وثقافية حيوية ، لا تعرف التوقف ، ولا تعجز عن ملاحقة النصوص ، غايتها إدراك الحقيقة ، ووسيلتها فحص المعطيات ، لذا فإن التفكير عملية تولد بعد إثارة المشكلات ، ومناقشة وتحليل وبيان التراكمات ، تراكمات تأتت من اقتحام الثوابت ، وسعت لتحقيق تصدع في بنية ما استقر في العقول والقلوب بالضرورة .
لقد خلّفت الأسماء التي تحدثنا عنها ميراثاً علمياً كبيراً ، يستحق النظر والمتابعة ، ويتطلب في الوقت نفسه الفحص والنقد والمراجعة ، وستستدعي هذه المراجعة حضور التفكير لبيان الغث من السمين، وكشف المتناقضات ، وتأشير الممكنات ، حتى يكون المدافع على بينة من حقيقة نقد النص ، وحتى يقف المتشكك على نسبية الإدعاء وصورة الحكم .
إنها دعوة لمسارات التفكير في مواجهة تلك النصوص وفحصها ، وقضية حيوية تحفز المتلقي على تشكيل تصورات شخصية تجاه النص ، وتكوين حصون ذاتية تمنع حصول العوق الفكري ، أو دخول الاعوجاج الثقافي .

