الطفل المسلم وعلاقته بالكون

الطفل المسلم وعلاقته بالكون

جمال المعاند -إسبانيا

[email protected]

- ظروف عدة تحكم العلاقة بين الإبداع والبيئة، مما حدا بعلماء النفس إلى تقسيم البيئات وفقاً لتساق

مساربها، فقالوا بيئة  ذهبية وأخرى فضية....الخ .

و المناخ  في الغرب عموماً، يوفر للإبداع  فرصاً قلما تتهيأ في مكان أخر، أهمها الحرية، مما أتاح للدعوة الإسلامية تكوين مؤسسات إسلامية تخطت مراحل النجاح، وتجاوزت عتبة البنى التحتية الاساسية، وترنو للتميز .

ويعد اتحاد المنظمات الإسلامية في أوربة مَعلماً دعوياً مؤسسياً كون أطراً مكانية وبشرية، والمنظمات المنضوية تحت لوائه تتسابق فيما بينها تسابق الخيل الأصيلة في مضمار السباق خدمة للدعوة والأقليات المسلمة .

وفي فرنسة بالتحديد، يظهر الواقع معالم دعوية جديرة أن تكون محطات خبرة ترفد العمل الدعوي في طريق الدعوة اللاحب .

قدر لي المولى زيارة فرنسة ولمدة تنوف على العام تنقلت بين مدن جنوبها، ومنذ شهور ألقيت عصا التسيار في عاصمة الجنوب مرسليا، وتعرفت إلى إخوة تجمعني بهم آصرة العقيدة والمشرب الدعوي ذاته، وفي مركزهم العامر كانت لي نظرات لتعاطيهم الدعوي، فرأيتُ العجب !!! .

فالمركز الإسلامي للاتحاد المنظمات الإسلامية فرع مرسليا جمع بين الأصالة والمعاصرة، فثلة من أعضائه نفرت لطلب العلم الشرعي من مظانه وعلى أيادي مشايخ أجلاء، عبر تطويع التقنية- البالتوك-،  حتى أن بعضهم يوشك الحصول على إجازة في علم القراءات، وفرقة تطلب علـم الحديث... ، هذا فضلاً عن الشؤون الدعوية والخدمية المعتادة، وما تسنى لهم كل هذا لولا إدارة المركز التي هي من الكفاءة بمكان، بينما نلاحظ أن خزائن المكاتب في مراكز أخرى هي مقابر لوأد المشاريع والأفكار، لضعف الامكانات المادية من جهة،  ولخشية الاخفاق من جهة أخرى .

لذلك أجدني مضطراً لتسليط الضوء على داعية هو رأس تلكم الإدارة، لأني بصدد عرض الأنموذج لا الشخص .

يرأس مركز مرسليا أخ داعية من الجزائر الشقيقة،  رجل يمتلك رؤية شاملة و عزيمة جريئة، يتعامل مع الإدارة بحرفية عالية فهو لا يتبرم من فكرة، ولا يضيق صدره باجتهاد، يُحب التخصص ويجل الحركة الدؤوب، ومكتبه مشاع لإخوانه يلقون عليه من نتاج قرائحهم  الكثير، ويعطيهم من وقته ما يقنعهم بالبحث المشترك عن حلول لمشاكل أو لصعوبات، إنه الأستاذ عبد الفتاح جبلي، قدم وإخوانه من فريق عمله أعمالاً،  ألفت النجاح وخطبت ودّ التميز، وأهم ما لفت نظري في نشاطاتهم، فكرة تحولت لعمل، أنشأته ولا تزال تقوم عليه داعية مـن الأخوات، ولوكان للدعوة إعلام لما بقيت تلك التجربة الناجحة والفريدة حبيسة أصقاع مرسليا عقـداً من الزمان، ولنفع الله به الأمة بأسرها، فما هي تلك السابقة التي بز بها مركز مرسليا أترابه من المراكز الإسلامية الأخرى في الغرب ؟ .

إنها ممارسة دعوية لا تنبع إلا من فكردعاة فقهوا الأولويات، وأتقنوا فقه الواقع، وتمرسوا في مقاصد الشريعة،

فالبحث عن التفوق، لا يمكن قبل إتمام مراحل المألوف .

وهم بين فينة وأخرى يراجعون الخطط، ويثمنون الانجاز، ترنو عيونهم دائماً إلى الأفق، تدفعهم ضرورات وحاجيات الأقليات المستجدة والمتكررة، لإزالة عوائق النمطية، وهم خليط من الإخوة والأخوات، ومما يثلج الصدر أن الأخت الداعية هي مع شقيقها الرجل كلهم في الهم سواء .

 فتح المولى جل شأنه لإحدى الأخوات  باب الإلهام، نصرة لدينه في بقعة من العالم ألغت الفوارق البيولوجية – الإحيائية- بين الجنسين، ومن يستخف بالإسلام من هذا المطعن يبصر بعينني رأسه، كيف أن الشرع الحنيف لا يمنع المرأة المسلمة من تقدم الصف إن توفرلها ما يوجب ذلك .

أخت داعية جزائرية فكرت وقدرت وقفت أمام معضلة، هي أطفال المسلمين في الغرب، وأدركت أن أولئك الصغار هم من يُراهِنُ الغرب عليهم لبلوغ مجتمعاته سن اليأس وندرة الانجاب، وأن جهود الآباء المسلمين في الحفاظ على فلذات أكبادهم هي ترقيع لخروق يفرضها استمراء مؤثرات بيئية، وما مدارس نهاية الأسبوع  وهي غالب الجهد الممكن للمراكز الإسلامية، إلا أشبه ما يكون بالاسعافات الأولية لمـريض بمـرضٍ مزمن، من ثم يقع على عاتق الأسرة باقي المسؤولية، فإما الهرب بالأولاد قبل البلوغ لأوطانهم الأصلية ونادراً ما يحصل ذلك الأمر، أو التعايش مع ألم الواقع وعواقبه الوخيمة، فأضافت إلى جهد إخوانها في مدارس نهاية الأسبوع علاجاً هـو أشبه بلقاح تحصين، ولا يملك ملم وممارس  لعلم التربية إلا أن يرفع قبعتـه احتراماً لجهد على بساطته فإنه من أنجع وسائل الحماية .

فاقترحت على إدارة المركز تكوين مدرسة للصغار لمن هم دون سن الدراسة الإلزامية وللصفوف الأولى المدرسية، وإلى هذا الحد الأمر عادي ومطروق في عدة مراكز إسلامية غربية، بيد أن نقطة المفارقة، هي نهجها في تحصين الأطفال عقدياً، فمدرستها تقوم على ربط الطفل بالخالق عن طريق التعرف على دلائل توحيد الربوبية في خلق الكون،  ومن ثم غرس مبادئ توحيد الألوهية، وهي مربط الإيمان،  والحديث ذو شجون، وسأكتب  ما حدثتني به أختي الفاضلة، عن المناهج المتبعة، وطرق التدريس، والوسائل التعلمية المساعدة، وبداية لا بد من توطئة تعريفية بالأخت ومؤهلتها العلمية وخبرتها، ومن ثم الدخول إلـى حرم وطقوس هذا المعبد العلمي الشرعي .

المربية الفاضلة الأخت صليحة ذكري من أصل جزائري ولدت وترعرت في فرنسة، ، وتلقت كل تعلميها في مدارس الغرب، وحصلت على إجازة جامعية في التربية، والعجيب كأن القدر كان يصنعها على عينه حفظا ً لأبناء المسلمين المهاجرين في هذه المدينة، فيكون تخصصها الجامعي: الأطفال ذوو المشاكل النفسية، وهل من مشكلة أوضح من صغار  ثنائي  اللغة، فضلاً عن انفصام تام بين معتقداتهم وسلوكهم، وبيئتهم التي درجوا فيها؟.

 ويستمر فيض القدر بتكوين الأخت صليحة، فتنجز دورات عديدة في الحفاظ على البيئة، والإدارة، والكشافة الإسلامية، بعدها اختمرت في عقلها كل هذه المعارف العلمية، وتحرك وازعها الإسلامي، وواقعها كأم تخشى على أبنائها الغرق في لج من الماديات، وبين مسؤوليتها الأسرية، ومهامتها الدعوية، تعرض ما يعتلج في صدرها على أخيها الكبير الأستاذ عبد الفتاح جبلي وهوأب أيضاً وينوء كاهله بتحمل مسؤولية خدمة الأقلية المسلمة في مرسليا، وتلتقي وجهة نظر الطرفين حول أهمية وخطورة الموقف، وتبدأ مرحلة العصف بفرضيات الحلول، بدلاً من التذرع بقلة الإمكانات والاكتفاء بمدرسة نهاية الإسبوع، ويعتزمان كلاهما على نهج خطوة إلى الأمام، وتعالج إدارة المركز المستحيل بالممكن نظراً لضعف الإمكانات، فتقتطع غرفتين صغيرتين من مبنى المركز لمدرسة الأطفال تطبيقاً لفكرة الداعية صليحة، وينفقون من كيسهم الخاص لتولد الفكرة، وعند  قلة الإمكانات المادية تكاد أختي صليحة تغص بريقها  وهي تحدثني-كما يقال- فهي لا تزال تعاني حتى لحظة إعداد هذه العجالة، مع أن مدرستها بلغت من العمر عشر سنوات .

وبما أن إسعافي لها بالكتابة فقط، وهذا مايمكنني فعله، قمت بتحويل مجرى الحديث إلى المنهج المتبع، فقالت: نلقن الصغار أبجديات لغة القرآن، ونحفظهم بعض السور القصيرة، وبعض الآداب الإسلامية، أما المنهج الرئيس فهو آيات كونية من الذكرالحكيم، ولأضرب لك مثلاً، سورة الرحمن من مقررات المنهج نسمعهم إياها بصوت ندي، ونريهم بعض المقاطع عن الطبيعة على الرائي- التلفاز-، ثم نأخذهم في رحلة بحرية على شواطئ مرسليا ونستأجر سفينة ذات قاع شفاف، ونطلب من ربانهها المرور لبعض الخلجان ليروا الأحياء البحرية من مرجان وطحالب....، وكل ذلك مع اقتران تلاوة الآية مع المنظر، ولدينا في الحقيقة تجارب عدة نختارها من الإعجاز العلمي بدقة حتى تناسب المستوى العقلي للأطفال، ونعمد في كل رحلة خارج أسوار المركزالإسلامي، أن ندفع بالصغار ليمارسوا كل ذلك بأيدهم، فنعمل معهم بعض المصبرات- تحنيط-  لأعشاب، وأسماك....، ثم كل مجموعة نزين عملهم بآية تدل على ذلك ونرفعها على الحائط طوال العام، وهكذا اجتهدنا في تثبيت دلائل الربوية، ومنه ندلف عند الشرح على توحيد الألوهية ونركز على متطلبتها التعبدية، ولاحظنا سرعة حفظ وتثبيت السورة القرآنية في أذهان الصغار، فنحن نعمل على بناء قاعدة عقدية صلبة معضدة بأمثلة بيئية في نفوس الأطفال .

أما الوسائل التعلمية فإننا نعتمد الحاسوب والنت، وبعض اللوحات الجدارية، والكتب والقصص، وطرق تدريسنا

تتكئ على منهج المجددين من علماء التربية، من أمثال (سلستان فرينيه، وبادرن بور، وماريا مونتيسوري، وشتاينر...)، وبما أنك تربوي تعلم أن الطالب في هذه الطريقة هو محور العملية التعلمية، والتفاعل يكون بين الأطراف الثلاثة المنهج والتلميذ والمعلمة محاصصة، ولا نجنح للتلقين إلا لماماً، فبعد تمحيص طرق التعليم وجدنا بغيتنا في تكوين وتحصين  شخصية الطفل المسلم المقيم في الغرب في الآراء الجديدة في التربية، أما المكان فقد رأيت أنه أشبه بالمنزل منه بالمدرسة  مـن حيث الأثاث وتوفر الألعاب للأطفال، ونحاول استخدام الحواس  عند الأطفال  بأسلوب لا مركزي موجه .

ثم صمتت برهة وقالت بألم: كثير من المسلمين للأسف لا يدركون أن الميدان التربوي مهم ومثير ومعقد بنفس الوقت .

أدركتُ رغم إني حاولت نقل تجربتها من جدران التعتيم إلى فضاءات التعريف لعلي أدخل شيء من السرور ما يُكون لديها دافعية الاستمرار والتألق، إلا أني  على ما بدا لي من نظراتها الحزينة نكأتُ لها جروحاً لم تبرأ تسببت بها  الفجوة  بين طموحها الوثاب، وإمكاناتها القليلة، برغم دعم إخونها لها بما يستطيعون، ليصدق عليها قول المتنبي:

  وإذا كانت النفوس كباراً  =  تعبت في مرادها الأجسام

حاولت الاكتفاء بهذا القدر، لكنها أصرت إلى الإشارة، أن كادرها التعليمي مؤهل تربوياً ومن الجامعيات، فهن من الأخوات المتطوعات بلا أجر، وبعضهن من الأخوات الفرنسيات، وأن أعداد الطلاب يكاد يصل لمائة، مع اعتذرنا للكثيرين ممن يودون تسجيل صغارهم بعدم وجود شواغر، وأن أعمار الأطفال تحديداً من سن الثالثة إلى العاشرة .

كلامها صرخة استجداء للميسورين ليأتـوا ويعاينوا بأنفسهم ، ويساهموا في هذه الصدقة الجارية، فحاجتها متجددة وبعضها عرضة للاستهلاك، وميزانية عملها تقوم على التبرعات المزاجية .