الدكتور عبد الصبور شاهين كما عرفته

الدكتور عبد الصبور شاهين كما عرفته

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

كنت صغيرا أراه في التلفاز، وأسمعه في المذياع، فتأسرني لغته العذبة، وصوته الرخيم، وفي ليلة من الليالي سمعته يتكلم عن الدكتور محمد عبد الله دراز وأنه ترجم له كتابه دستور الأخلاق في القرآن الكريم من الفرنسية إلى العربية.

وظل اسم الدكتور عبد الصبور شاهين في ذهني حتى التحقت بكلية دار العلوم ورأيت الدكتور عبد الصبور شاهين أستاذا يدرس لنا مادة الأصوات، يحضر في الثامنة صباحا وهو في قمة نشاطه مرتديا قبعته السوداء أو البنية، ثم يتحدث معنا في المحاضرة وكأننا في ندوة عامة، موسوعة متحركة، يتحدث في اللغة والأدب والشريعة ويجيب على أسئلة الطلاب، فضلا عن شرح ميسر لعلم الأصوات الذي نبهنا فيه إلى لفتات جميلة ما زالت مؤثرة في شخصيتي إلى اليوم.

لم أصدق نفسي أن أرى بعض مشاهير مصر أساتذة علي في دار العلوم كالدكتور عبد الصبور والدكتور أحمد شلبي والدكتور أحمد هيكل ...إلخ هذه الكوكبة التي رحل كثير منها إلى الدار الآخرة.

ذهبت إلى مكتب الدكتور عبد الصبور شاهين في الكلية مهتبلا الفرصة كي أكلمه، وأكون من مرديه، عملا بقول الشاعر:

أخي لن تنال العلم إلا بستة

سأنبيك عن تأويلها ببيان

ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة

وصحبة أستاذ وطول زمان

وتعللت بسؤال ودخلت على أستاذي به وكانت لفتة لم أقرأها بل استنبطتها من كلامه، وهي أن الأصوات المفخمة تؤثر على المرققة، وأن الأصوات المجهورة تؤثر على المهموسة، أي أن كل صوت قوي له تأثير على أي صوت ضعيف، وأثنى علي ساعتها وقال لي: ألمح في بادرة كلامك معي بداية تحسن في العربية أرجو أن تكون البادرة ظاهرة، وأن يكون لك شأن فيهما.

وحصلت على الليسانس من كلية دار العلوم ثم ذهبت خلف الدكتور عبد الصبور في أثناء دراستي العليا، لأحضر له خطب الجمعة في مسجده الذي بناه في بيته بحدائق الأهرام، وأستمتع بخطبه وهو يفسر القرآن وفي الخطبة الثانية يتحدث عن أمور المسلمين العامة.

ظللت هكذا حتى تقربت منه مع زملائي فنصحنا في محراب مسجده الذي بناه بعد أن أوقف عن الخطابة من مسجد عمرو بن العاص الذي كان خطيبه سنوات طويلة، وقال: عليكم بالمنابر لا تتركوها، فهي مدرسة لمن أراد أن يتعلم، وتدريبها أفضل من الجامعات.

تلقفت نصيحته وكنت أخطب الجمعة قبل ذلك وازداد نشاطي بها بعد التخرج، فكنت أذاكر الخطبة طيلة الأسبوع باحثا عن فكرة جديدة، أو معلومة لطيفة، وأحفظ شعرا وأحاديث وقصصا وأتناول تحليلات يفتح الله بها على المنبر إلى أن تكونت عندي في فترة وجيزة معلومات تصلح أن تكون كتبا لو أعيد ترتيبها وتهذيبها، واستفدت من بعضها في كتابة بعض المقالات.

لقد شغلتني الحياة ومتاعبها عن صحبة الدكتور عبد الصبور شاهين، غير أني كنت له متابعا، وكدت أن أكون قريبا منه، عندما جلست معه في مكتبته العامرة التي بناها في الطابق الثاني فوق مسجده، وهي مكتبة تكاد أن تكون مكتبة جامعة لا مكتبة شخصية، فتدخل يصادفك مكتب الدكتور ثم أرفف عامرة بكتب التفسير والشريعة واللغة والأدب والعقيدة والفلسفة ومختلف العلوم مع تخصيص مكان لكتبه التي ألفها، ومكان آخر للرسائل التي أشرف عليها أو ناقشها.

لقد حدثنا في عام 1997م أنه أشرف فقط على ما يزيد عن 450 رسالة فضلا عن التي ناقشها وقد مرت سنوات بعد هذا وهو يشرف ويدرس ومن ثم يمكن القول إنه أشرف وناقش ما يزيد على 500 رسالة علمية وهو جهد متميز كما وكيفا، ولا شك في ذلك.

كان رحمه الله رغم ضعف بصره واستخدامه العدسات في القراءة مواظبا على الكتابة والتأليف، وقد كلفني بقراءة مقال له عن العلمانية بخط يده قبل أن يدفع به للنشر، وقال لي كتبت هذا المقال في جلستين، وكأنه أراد أن يعلمني أن الكتابة ليست سهلة حتى على العالم الكبير، فالكتابة رزق، وقد أدركت ذلك عندما تعرضت للكتابة والتأليف فكنت أمكث فترات طويلة أفكر ولا أستطيع أن أكتب، وإذا أتى الفتح فينبغي أن أستغل لحظاته فربما لا تعود هذه اللحظات.

كان الدكتور عبد الصبور قوي الحجة واضح المحجة، يحب أن يكون في المقدمة، ويكره أن يكون رقما من الأرقام، وربما دفعه ذلك لتأليف كتابه الشهير (أبي آدم قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة) حيث إن هذا الكتاب الذي ذكر أنه ألفه في 25 عاما أثار ضجة كان يتوقعها، وقد قال لنا ذلك قبل طباعته، وما دفعه إلى تأليف هذا الكتاب إلا إجابة عن مسألة علمية ما زال البحث فيها جاريا إلى الآن، هذه المسألة هي: هل اللغة توقيف أم توفيق، ومن أول من تكلم باللغة العربية؟

وجره البحث ليبحث في نشأة الإنسان واعتمد على اللغة في فهم نشأة الإنسان، ليقول رأيه الشهير إن هناك بشرا قبل آدم غير مكلفين.

أثارت هذه النتيجة ضجة كبيرة، وعقدت له المناظرات التي كان منها مناظرة شهيرة في دار العلوم حضرها كبار الأساتذة بالكلية وعلى رأسهم الدكتور محمد بلتاجي رحمه الله، وكانت مناظرة شديدة لم يستطع فيها الدكتور بلتاجي أن يقنع الجمهور بخطأ الدكتور عبد الصبور؛ فكلما ألقى سؤالا صعبا عليه كانت الإجابة أقوى من السؤال، وظلوا هكذا ثلاث ساعات حتى انقضت المناظرة التي سجلتها وما زلت أحتفظ بتسجيلها الذي أزعم أنه تسجيل نادر يسجل هذه الواقعة التي قال عنها الدكتور عبد الصبور ساعتها: إنه يوم في دار العلوم تاريخ لم تشهده الكلية من قبل.

ولست بصدد مناقشة ما فعله في كتاب أبي آدم، ولكن أبدي رأيي كقارئ عادي في ما قرأته من معلومات؛ حيث إنني رغم محبتي للرجل وتقديري له إلا أني لا أوافق على ما جاء في كتاب أبي آدم وأرى أنه تعرض لغيبيات لم يطلعنا الله عليها فهو القائل: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم).

وختاما فإني أسطر هذه الخواطر على عجل وفاء بأستاذيته وعرفانا بقدره وحقه بعد أن رحل إلى دار البقاء، نسأل الله أن يتغمده برحمته الواسعة.