إدارة مصالح العراق
من أجل فكر استراتيجي وتطبيقات رصينة
طارق الهاشمي
حسناً فعل السيد صفاء الدين الصافي وزير الدولة لشؤون مجلس النواب في الحكومة الحالية حين أعلن أن (اتفاقية تسوية المطالبات المالية) التي وقعها العراق مع الولايات المتحدة كإجراء حمائي لتفادي سحب تعويضات ضخمة من أموال (صندوق تنمية العراق)، لن تكون نافذة إلا بعد المصادقة عليها من مجلس النواب الجديد. فهذه الروحية الملتزمة هي التي نأمل أن يتم التعامل بها مع كل ملفات العلاقات الخارجية لا سيما المالية والنفطية منها، إذ تبقى المراجعة والمصادقة النيابية شرطاً أساسياً وضرورة دستورية لتحقيق شرعية أي قرار أو إجراء حكومي يتعلق بالمصلحة الوطنية العليا.
خلال الأسابيع الفائتة شهد ملف العلاقات مع دول الجوار أحداثاً مهمة على صعيد إدارة المصالح الوطنية، وربما لا يكون هناك غبار على كل منها في ذاته، لكن ظرفها الموضوعي شابه وجه من القصور إذ كان يعوزها المزيد من التمهيد السياسي قبل اتخاذ قرارات بشأن ملفات بقيت معلقة لشهور أو سنوات ثم تم حسمها فجأة، لا سيما إننا في وضع انتقالي استثنائي يحول دون تحقيق مشاركة تشريعية أو رقابية من مجلس النواب في صناعة تلك القرارات، كما كانت تحتاج إلى تكريس الشفافية أكثر من خلال تنوير الصحافة وعموم فعاليات المشهد الوطني بحيثيات تلك القرارات ومبرراتها المستجدة.
ومن تلك الأحداث إعلان الناطق باسم الحكومة د. علي الدباغ إن العراق "سيبدأ وبصورة مشتركة مع الحكومة الكويتية بصيانة وتثبيت العلامات الحدودية البرية وكذلك تفعيل الاستثمار المشترك للحقول النفطية المشتركة بين البلدين"، وكما نعلم فقد بقي الملف معلقاً طيلة السنوات الماضية، وربما كان تأخر العراق في تنفيذ القرار أحد الأسباب التي دفعت الكويت لتعويق مساعيه للخروج من تحت طائلة البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ومع ذلك نأمل أن يكون للاتفاق الأخير مع الكويت الشقيقة أثره السياسي الايجابي المتمثل في فتح باب التسويات للقضايا المتعلقة بخضوع العراق لهذا البند تمهيداً للخروج من تحت طائلته.
وتزامن الانفراج المفاجئ في الملف الكويتي مع اتخاذ قرار بنقل النفط الخام والغاز العراقي إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط عبر الأراضي السورية، وهذا تطور مهم أيضاً فمكانة العراق النفطية تجعل من المشاركة في منظومات نقل الطاقة الإقليمية ضرورة لتحقيق مصالح شعبنا تجارياً وسياسياً، إضافة إلى دور سوريا الإقليمي، ووجود أعداد كبيرة من المواطنين العراقيين المقيمين على أراضيها.
أما التطور الثالث في ملف العلاقات الخارجية فهو الإعلان عن أن شهر آب شهد التزام العراق بكمية النفط الخام التي يتم تصديرها إلى الأردن بموجب اتفاقية موقعة بين الطرفين، إذ بلغ حجم الكميات التي صدرت للأردن خلال الشهر الماضي نحو 320 ألف برميل وهو ما لم تشهده السنوات الماضية، وحدوثه اليوم مهم لجهة تطوير العلاقات العراقية الأردنية أخذاً في الاعتبار فاعلية الدور الأردني عربياً ووجود أعداد من المواطنين العراقيين على أراضيه أيضاً.
وأما التطور الرابع فهو تجديد الحكومة العراقية اتفاقية مد أنبوب النفط العراقي الخام إلى الأراضي التركية وصولاً إلى ميناء جيهان، وقال وزير النفط العراقي د. حسين الشهرستاني إن الاتفاقية الجديدة تمتد إلى 15 سنة قادمة. وهذا أيضاً تقدم مهم على صعيد العلاقات الاقتصادية مع تركيا، النجم الصاعد في المنطقة، ولأهمية تحسين العلاقة معها لتحقيق الأمن الجيوسياسي لاقليم كردستان، كذلك فإن تركيا هي بوابتنا المباشرة مستقبلاً على اوروبا.
إن انسيابية النفط العراقي شمالاً وغرباً إلى تركيا وسوريا والأردن وامتداد يد الدبلوماسية لتصافح الأشقاء في دولة الكويت جنوباً هو أمر ايجابي يدعو للسعادة والتفاؤل ذلك أن تطبيع العلاقات مع دول الجوار مسألة ضرورية، ونحن مع هذه السياسة الانفتاحية وندعمها لأنها تصب بالتأكيد في مصلحة العراق، كما إن تمتين العلاقات الاقتصادية مع تلك الدول قضية حيوية للأمن الوطني العراقي وتعزز الحضور الجيوسياسي للبلاد.
إن حسن إدارة منظومة مصالح نفطية عراقية إقليمية من شأنه أن يعظم المكانة الجيواستراتيجية للعراق ويجعل بلاد الرافدين نقطة التقاء بين دول المنطقة تمد يد الشراكة والتعاون في كل الاتجاهات. ولكن السؤال الذي سنواجهه من أبناء شعبنا والذي أتمنى من إخوتي المسؤولين مشاركتي في تأمله هو: لماذا كنا نؤجل البت في هذه الملفات لسنوات برغم حاجة العراق الماسة إلى ضبط حدوده وتثبيت أمنه وهو أمر لا يتحقق من دون تحسين العلاقات مع الجيران ومد جسور الدبلوماسية إليها وإنهاء المشاكل وإحلال المصالح المشتركة محلها؟، ولماذا اتخذنا القرار فجأة بهذا الاندفاع النفطي نحو المحيط الإقليمي في ظل انتهاء ولاية السلطة التنفيذية ودخول البلاد في أزمة سياسية ووقوفها أمام استحقاق تشكيل حكومة جديدة؟.
الفرضية التي يطرحها مراقبون اليوم تقول إن الانفتاح العراقي المفاجئ ربما جاء بناءاً على مقاربة للانفتاح الاقتصادي على الخارج هي ليست بعيدة عن الأزمة السياسية في الداخل، تعتمد هذه المقاربة ورقة النفط والمحفزات الاقتصادية لتحقيق الدعم الإقليمي للعملية السياسية عموماً ولمشروع سياسي يفترض أن ينهي الأزمة الداخلية ويسرع بتشكيل الحكومة. وبالرغم من سلامة استثمار المنطق الاقتصادي في حلحلة العقد مع الجوار وصوابية مسعى المقاربة المفترضة لكسب العامل الإقليمي إلى جانب الاستقرار في العراق إلا إننا نبقى بحاجة إلى مناقشة جملة قضايا: الأولى: أهمية السعي لتحقيق إجماع وطني على مضامين ذلك المشروع السياسي الذي يهدف الانفتاح على دول الجوار إلى توفير الدعم له، والقضية الثانية: ضرورة توفير استراتيجية وطنية واضحة لإدارة مصالح العراق الإقليمية حتى لا نلجأ في لحظة معينة لاتخاذ قرارات الانفتاح على الخارج دفعة واحدة وفي وقت واحد بهذه الصورة التي قد تجعل موقف العراق يبدو ضعيفاً أمام جيرانه أو يظهر في هيئة المضطر ربما لتقديم تنازلات على الصعيد الخارجي لمعالجة أزمة داخلية.
لقد كنا مطالبين على مدى السنوات الماضية بترصين الجبهة الداخلية أكثر وتحقيق التضامن السياسي المستديم لضمان انسيابية العملية السياسية حتى لا نكون مضطرين اليوم للقبول بالأزمة الداخلية عاملاً ضاغطاً علينا في وقت اتخاذ قرارات تتعلق بمصالح البلاد الإقليمية. إن إدارة الثروات والموارد والأمن والمصالح والأزمات عملية حساسة ومعقدة تتطلب وجود استراتيجية واضحة تتبناها الدولة، وتستند إلى حالة راسخة من التضامن السياسي والتماسك الاجتماعي، فالمصلحة الوطنية لا يمكن أن تخضع لمناورات مرحلية على صعيد العلاقات الاقتصادية الخارجية ترتبط بمواسم تداول السلطة في الداخل.
لقد أدى تأخر تشكيل الحكومة وطول مرحلة انتقال السلطة التي تمر بها البلاد اليوم إلى سير الأمور باتجاه اتخاذ قرارات استراتيجية تتعلق بمصالح سياسية ومالية واقتصادية من دون غطاء تشريعي أو رقابي من أية مؤسسة دستورية. وربما يكون للجهات التنفيذية موقفها المبرر بأنها لم تمنع مجلس النواب المنتخب من تأدية دوره لكن الكتل النيابية هي التي انشغلت بالأزمة السياسية الراهنة عن تفعيل عمل المجلس وأداء دوره التشريعي والرقابي. وعليه، فإننا إزاء مسؤولية دستورية مشتركة، جانبها الأول يقع على عاتق الحكومة الحالية في عدم إدخال الاتفاقيات المبرمة حيز التنفيذ الفعلي ما لم تتشكل الحكومة الجديدة لتتستلم ملفات تلك الاتفاقيات أصولياً وتدرس تفاصيلها ثم تعرضها على مجلس النواب للمصادقة عليها لتكتسب الشرعية الدستورية والوطنية، وأتوسم في تصريح وزير الدولة السيد الصافي الذي ذكرته في بداية المقال شعوراً حكومياً بهذه المسؤولية الدستورية. أما الجانب الثاني من المسؤولية فيقع على مجلس النواب المنتخب في مراجعة ما تم اتخاذه من قرارات في عهد ولايته الدستورية السارية حالياً؛ بهدف ضمان مراعاة تلك القرارات للدستور ومقتضيات المصلحة الوطنية العليا. وربما تكون هذه واحدة من القضايا التي يمكن طرحها في الحلقات النقاشية التي يعقدها حالياً عدد من أعضاء الكتل النيابية في مبنى مجلس النواب.