السلطة الزمنية .. والسلطة الروحية

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

جاء المسيح عليه السلام برسالته ليقوّم اعوجاج الخراف الضالة من بني إسرائيل ، وليرسي مبادئ المحبة والتسامح والإنسانية بدلا من العنف والتعصب والعنصرية ، وصارت المقولة الشهيرة " دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله " علامة على الرغبة في نشر السلام على الأرض .

الذين حملوا رسالة المسيح عليه السلام ، فسروها على طريقتهم ، وترجموها إلى حروب وصراعات وهيمنة وقودها التعصب والتحيز والتميز ، فرأينا أتباع الكنيسة البيزنطية يمارسون، أقسى درجات الاضطهاد والقسوة ضد الشعوب ، بل ضد أخوتهم في المسيحية ، وقد رأينا ما سجله التاريخ من وحشية رومانية ضد المسيحيين في مصر،حتى خلّـصهم الإسلام من الإبادة!

وفي العصور الوسطى الأوربية المظلمة ؛ وصلت الحال برجال الدين المسيحي إلى التحكم في مصائر البشر ، حيث استغلوا التطهير والحرمان لفرض نفوذهم على الحكومات والأمراء والأفراد ، ووقفوا ضد العلم وحرية الفكر ، وهو ما أدى إلى الثورات المتطرفة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا ، وكان شعار الثورة الفرنسية يتحدث عن شنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس ! وانصرف الناس عن الدين والكنيسة معا تحت دعاوى التنوير والعلمانية والحداثة ، وظهرت في الأدب الأوربي ، وخاصة الفرنسي أعمال أدبية تنتقد الكنيسة وممارساتها القمعية وتسلطها على الناس وانحراف رجال الدين ، ولعل رواية فلوبير الشهيرة " مدام بوفاري " خير النماذج التي عبرت عن ذلك ، وقد صودرت بحجة الإباحية ، ولكن السبب الحقيقي كان تصوير رجل الدين المنحرف الانتهازي تصويرا مقززا !

ومع أن المصالحة تمت فيما بعد بين الكنيسة ( السلطة الروحية ) والحكومة ( السلطة الزمنية ) ، لدعم التحرك الاستعماري الهمجي والتنصير في إفريقية وآسيا وأميركا اللاتينية ، ثم تحولت المصالحة إلى تحالف لمحاربة الإسلام ونشر المسيحية مع أواخر القرن العشرين فقد ظلت الكنيسة الأرثوذكسية في مصر بمناي عن ممارسات الكنيسة الغربية (كاثوليك وبروستانتينية ) وحرصت منذ دخل الإسلام إلي مصر قبل أربعة عشر قرنا علي الاحتفاظ بوظيفتها الأساسية وهي رعاية النصارى دينيا ، أي ظلت في الإطار الذي يعرف باسم السلطة الروحية باستثناء حالات التمرد التي قام بها الرهبان لمقاتلة السلطة الزمنية أو الحكومة علي النحو الذي سبقت الإشارة إليه في موضع آخر، وكانت نتيجة التمرد المسلح أو غير المسلح في كل الأحوال ؛هي الهزيمة الساحقة لأن القاعدة العريضة من أبناء الطائفة كانت مندمجة في السياق الاجتماعي تعمل وتنتج وتتشارك في سياق طبيعي بعيد عن التعصب أو التميز ؛ بل إن الذين خانوا البلاد في الحروب الصليبية أو في الحملة الفرنسية أو الاستعمار الانجليزي كانوا أقلية قليلة تحركت بدوافع ذاتية بعيدا عن سلطة الكنيسة ومشاعر الطائفة في قاعدتها العريضة .

مع أواخر عصر الاستعمار الإنجليزي نجحت أفكار التعصب الطائفي في جر الكنيسة المصرية للخرج من نطاق السلطة الروحية إلي السلطة الزمنية .. كانت جماعة الأمة القبطية التي اعتقلت البابا آنئذ لترغمه علي تنفيذ مطالبها ، ومدارس الأحد التي تربي فيها الأنبا شنودة مفارخ للتعصب والتمرد والانحراف بالكنيسة عن دورها الروحي لتلعب دورا زمنيا بغيضا يعادي الدولة والإسلام والمسلمين ، ويثير من المشكلات والقلاقل ما نري أثره واضحا الآن ، ويعانيه الوطن بصورة وأخري .

في عهد الأنبا شنودة  تحققت عملية الانتقال من السلطة الروحية إلى السلطة الزمنية ، وصار رئيس الكنيسة الأرثوذكسية رئيس دولة حقيقية ، بل دولة سوبر تأمر فتطاع ، وتنهي فيستجاب لها ، واستطاع التمرد الطائفي أن يتمدد ويجد في الكنيسة سندا ومعينا بصورة غير مسبوقة ، فرئيسها يفرض المطالب ويعتصم أو يعتكف في الأديرة ويقاطع الدولة حين لا يعجبه قيامها بواجبها في معالجة الجرائم التي يرتكبها المتمردون الطائفيون .

صارت الكنيسة في مصر هي المجتمع الحقيقي للطائفة يجد فيها الفقراء والأغنياء حلا لمشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية فهي مفتوحة علي مدار الساعة لا تغلق أبوابها أبدا مدعومة بحراسة أمنية مكثفة ؛ في الوقت الذي تغلق فيه المساجد أبوابها عقب أداء الصلوات مباشرة ، حتى دورات المياه التي كانت متنفسا لعامة الشعب يتم إغلاقها مع حظر إقامة ندوات أو إلقاء خطب أو مواعظ إلا بإذن الأجهزة الأمنية ، بل إن الفقراء لا يستطيعون عقد القران في المساجد .

لقد نجح التمرد الطائفي في إرهاب الدولة وتخويفها من الإسلام ، فلا يستطيع مسئول في دولة مصر الإسلامية التي يمثل المسلمون فيها 96% وأكثر أن يتكلم عن تطبيق الشريعة الإسلامية أو تدريسها تدريسا حقيقيا جادا في مدارسها وجامعاتها , بل تم تغيير الدستور لمحاصرة الإسلام ووضع مواد تتحدث عن المواطنة انطلاقا من مفهوم أن المواطنة ليست من الإسلام ، وهذه إهانة من اكبر الإهانات التي وجهت إلي دين الأغلبية أول من كرم الإنسان أيا كان معتقده أو عرقه أو لونه ، حيا وميتا " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" (الإسراء : 70) ، وهو أول من قنن للإنسانية بصورتها الأعم والأشمل التي تتجاوز المواطنة الضيقة " .. وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم .. " الحجرات : 13) .

التمرد الطائفي بقيادة الكنيسة تحول إلى عدوان سافر علي الإسلام والوطن والنظام ؛ وقد استطاعت الكنيسة وهي تمتطي صهوة السلطة الزمنية أن تتدخل في كل مشكلة عادية صغيرة تحدث بين المتمردين وعامة الشعب المصري .. هل يمكن تفسير إصرار البابا أن يتلقي تقريرا وهو في المصحة بأميركا عن أحداث "أبوفانا " ونزلة الفيوم ، ويأمر برفض ما تقوم به الحكومة من إجراءات لفرض القانون والدستور ؟ وهل يمكن تفسير ما يجري من مظاهرات النصارى في عواصم أوربية وأمريكا وكندا واستراليا ؛ وخاصة في باريس التي يزورها رئيس الدولة بمناسبة انعقاد قمة المتوسط ؟ لماذا تقوم الكنيسة بابتزاز النظام الذي أعطاها فوق ما تريد ؟

اعتذار واجب:

في المقال السابق وقع خطأ غير مقصود في نسخ الآية الكريمة من سورة الممتحنة مما يوجب الاعتذار، والشكر للقراء الكرام الذين نبهوا إليه.