التأمل التربوي الرابع في سورة القصص

(موسى النبيّ)

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

1- التربية أولاً : قبل أن يُكلف المرء بمهمة يُهيأ لها ويُدرّب عليها . ولا بد من تحمل التبعات والصبر عليها زمنا حتى يشتد عوده ويكون أهلاً لما يُطلب منه . هذا موسى عليه السلام يعيش عشر سنوات غريباً عن أهله طريداً عن مسقط رأسه انتقل من حياة الرفاهية في قصور فرعون معززاً مكرماً إلى بلد آخر وحياة أخرى يعمل في مهنة الرعي متنقلاً بأغنامه في السهول والوديان يصر ويحلب ويسقي ويعلف حيواناته لا يمنعه حر الصيف ولا قرّ الشتاء . وما من نبي – كما أخبرنا المصطفى عليه الصلاة والسلام - إلا رعى الغنم قبل أن يرعى الأمم . والتشابه بين الرعيين واضح جداً ، ففي كليهما السهر على المصالح والاهتمام بكل مناحي الحياة مع مراعاة الفرق بين متطلبات البشر وغيرهم من الأمم " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم " وعشر سنوات من التدرب الحثيث على عين الله ورعايته في مدرسة الحياة وفي بيت الرجل الصالح كفيلة بتأهيل موسى عليه السلام لتحمل الرسالة وأعبائها . إن حكام الأمم في القرن العشرين وما يليه يتدربون في المعاهد البريطانية والأمريكية ليعودوا بعدها أدوات طيعة متدربة لتحكم بلادها باسم من رباهم على مبادئ أرضية ذاق ويلاتها شعوبهم وأممهم ، أما موسى فقد ربي في المدرسة الإلهية لقيادة البشر إلى نور الهداية وإخراج الناس من ظلمات الفساد والقهر إلى ضياء التوحيد والطهر .

2-  التعرف على المهمة ثانياً : ينطلق موسى بأهله عائداً بعد السنوات العشر إلى مصر لا يعرف بقدومه أحد ، يريد لقاء أهله والتعرف على أحوالهم ولعل قضيته التي هرب بسببها ينساها الناس فيعيش بين أهله ، أو يرى عكس ذلك من بحث عنه ما يزال مستمراً فيعود أدراجه لا يشعر به أحد . هذا ما خطط له . لكن الله تعالى أراده لأمر جليل ومهمة خطيرة لا يقوى عليه إلا النوادر من عظماء الرجال الذين شرفهم الله تعالى واصطفاهم من خلقه ليستنقذوا البشرية من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد . وفي الطريق يحتاج إلى جذوة من نار يحتاجها أهله ، فيعود إليهم بجذوة من نور يحتاجها قومه جميعاً . إنه يقول لزوجته : " إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون " وينطلق إليها فيلقى ربه سبحانه يكلمه ويكلفه بالرسالة العظيمة " .. يا موسى إني أنا الله رب العالمين " . فما الذي نستفيده من تربية في هذا التكليف ؟

أ- حدد الله تعالى المكان والزمان للقاء والتعارف ، فقد ذهب ليلاً يبحث عن جذوة النار ، ف " نُودِيَ مِنْ شَاطِئ الْوَادِي الأيمن " مِن جَانِب الوَادِي ممَّا يلي الجبل عن يَمينه من نَاحية الغَرب كَما قَال تعالَى : " وَمَا كُنْت بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمر " وهَذَا مِمَّا يُرشد إِلَى أَنَّ موسى قَصَد النَّار إِلَى جِهة الْقِبلَة، وَالجَبَل الْغَرْبِيّ عَنْ يمينه ، ووجد النار تَضْطَرم في شجرة خَضْرَاء فِي ناحية الجبَل ممَّا يَلِي الوادِي.

ب- نودي باسمه حتى يطمئن إلى أن من يناديه يعرفه ، فيستأنس ويذهب عنه الخوف ، ويتلفت ليرى المنادي ، فيقبل عليه . " ياموسى " .

ج - عرّفه بذاته " إني أنا الله رب العالمين " فأكد ب " إنّ " واسمها الضمير الياء ، ثم ذكر ضمير الفصل " أنا " ثم ذكر الاسم الأعظم " الله " ثم وصف ذاته العلية بأنه " رب العالمين " فالذي يخاطب هو الرب الذي يفعل ما يشاء لا إِلَه غَيره ولا رَبّ سواهُ ،تعالَى وتقدس وتنزّه عَنْ مُمَاثَلَة المخلوقات فِي ذاته وَصِفَاته وأقواله وأفعاله سُبْحَانه .

د- وليتحقق موسى أن الله تعالى هو الذي يكلمه أمره ربه أن يلقي عصاه " وَأَنْ أَلْقِ عَصَاك " التي في يده كَمَا نعلم ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى : " وَالْمَعْنَى أَمَا هَذِهِ عَصَاك الَّتِي تَعْرِفهَا ؟ " أَلْقِهَا فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّة تَسْعَى " فَعَرَفَ وَتَحَقَّقَ أَنَّ الَّذِي يُكَلِّمهُ وَيُخَاطِبهُ هُوَ الَّذِي يَقُول لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُون كَمَا تَقَدَّمَ بَيَان ذَلِكَ فِي سُورَة طه .

ه - : " فلما رآها تهتز كأنها جانّ " والجانّ حية عظيمة تضطرب وتتحرك ظهرت النفسية الإنسانية الضعيفة التي تخاف من مخلوق عظيم مخيف . هرب لا يلوي على شيء " ولّى مدبراً ولم يُعَقب " فناداه ربه يطمئِنُه " يا موسى أقبل ولا تخف ؛ إنك من الآمنين " ، فلما عاد ينظر إليها خائفاً علمه ربه كيف يمسك بها مرة أخرى فتعود عصاه التي ألِفها .

و- وقد ذكرنا في تأملاتنا التربوية في سورة طه أن تحويل العصا حية عظيمة وإعادتها عصا كما كانت لتدريب لموسى عليه السلام على استعمالها آية رائعة تؤيده حين يقف أمام فرعون ويدعوه ، فلو أنه لم يتدرب عليها قبل لقائه فرعون قد يرميها فيكون أول من يخافها إذ لا يكون قد رآها تتحرك من قبل . وكذلك إدخال يده في صدره لتخرج لامعة مشرقة كضوء الشمس ، ثم إعادتها مرة أخرى إلى صدره فتعود كأختها " اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرّهب ، فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وقومه ، إنهم كانوا قوماً فاسقين "

و- لا بد من تزويد المكلف بأدلة وبراهين تؤيد الداعية وتعضّده في دعوته في الوقت المناسب ، وتدفع عنه بإذن الله أو تخفف من أذى المفسدين أو تسكتهم إلى حين أو تلجمهم فلا يتكلمون . فأنِس موسى لهاتين الآيتين وهدأتْ نفسه الخائفة المضطربة .

ز- وحين يضعف الداعية – وهو إنسان ضعيف – لمواقف سابقة كقتل موسى ذلك القبطي والخوف من أن يقتلوه وقد جاءهم بنفسه " قال : ربّ؛ إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون " ، ولأن الجمر أحرق لسانه صغيراً فهو بحاجة إلى أخيه البيّن النطق ، القريب إلى نفسه ، المؤمن – مثله – بهذه الدعوة المباركة فقد أيده الله به وأرسله معه إلى فرعون رسولاً ، والصحبة الصالحة خير معين في الحياة بله المواقف الصعبة المحرجة . " وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني ، إني أخاف أن يكذبون " فيجيبه الله تعالى إلى طلبه كي يستكمل موسى كل أسباب النجاح ، فلا يترك للفشل في مهمته ثغرة ينفذ إليه منها . " قال سنشد عضدك بأخيك ، ونجعل لكما سلطاناً ، فلا يصلون إليكما .."

3- الاستكبار سبب الكفر والضلال : فهو يؤدّي إلى :

أ- التكذيب " قالوا هذا سحر مفترى ، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين "

وكأن عدم سماعهم من آبائهم وحدانية الله يقدح فيها ! ووصفوا ما جاء به موسى وأخوه هارون عليهما السلام بالتصنع والافتعال ومخالفة الواقع والحقيقة ، ووصموا الآيتين اللتين أخذتا بألبابهم بالسحر ، وهم يريدون بذلك التكذيب والجحود

ب- الافتراء واستعباد الآخرين " يا أيها الملأ ؛ ما علمت لكم من إله غيري "

فاستخَفَّ قَومه فَأَطَاعوهُ " ، ومن ضعف عقولهم أنه حين دَعَاهُمْ إِلَى الاعتراف لَهُ بالألوهية أَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ فقَالَ : " يَا أَيُّهَا الملأ مَا عَلِمْت لَكم مِنْ إِلَه غيرِي " وَقَالَ تعَالَى إِخبارًا عن استخفاف فرعون بهم وجبروته وتسلطه عليهم " فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبّكُمْ الْأَعْلَى" فكانت العقوبة أن الله تعالى أخذه أخذ عزيز مقتدر " فَأَخَذَهُ اللَّه نَكَال الأخرة والأولى ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبرَة لِمَن يخشَى " فَجعلَهُ عِبرَة لغَيرِهِ فِي الدنيا والآخرة . ومن افترائه واستعباده لقومه أَنَّهُ وَاجه مُوسَى بِذَلِكَ ، وهدّده بالسجن إن اتخذ إلهاً غيره فَقَال : " لَئِنْ اتخذتَ إِلَهًا عيري لأجعلنك مِن المسجونين " .

ج - الكفر والبطر " واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق " فلما استَكبَر هُوَ وجنوده فِي الأرض بِغَير الْحَقّ وظَنوا أنْ لارجعة ولا معاد ، ولا حساب ولا عقاب فطَغَوْا وَتجَبَّروا وَأَكثروا فِي الارض الفساد كانت العقوبة واجبة " فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبّك سَوْط عذاب إِنَّ رَبّك لَبِالمرصادِ " .

3-  عقوبة الاستكبار : العقوبة قد تكون في الدنيا بالإضافة إلى عقوبة الآخرة ، كما أن عقوبة الآخرة قد تكون في القبر إضافة إلى عذاب النار .

أ – العذاب الشديد في الدنيا " فأخذناه وجنوده ، فنبذناهم في اليم " وانظر معي إلى الفعل " نبذ " الدال على الطرح باحتقار لهؤلاء المتجبرين وهوانهم على الله .

ب- اللعنة في الدنيا والآخرة " وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ، ويوم القيامة هم

من المقبوحين " فصاروا بأمر الله تعالى ملعونين على ألسنة الأنبياء والمؤمنين إلى يوم القيامة ، بل إنهم يوم القيامة يزدادون قبحاً ولعناً . ومثل هذه الآية قوله تعالى " " فماذا ربحوا لصلفهم وكبريائهم من هذه اللعنة الدائمة يتجرعون نتاجها خالدين في النار ؟!!

ج- عذاب الآخرة " وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار، ويوم القيامة

لا ينصرون " فاجتمع عليهم خزي الدنيا والآخرة ، وكانوا مثالاً سيئاً لمن سلك طريقهم ، وباء بخزيهم ، وسيرون الخزي يتابعهم يوم لا ينفعهم أنصارهم ولا يشد على أيديهم أحد ، ومن يجرؤ أن يناصرهم وقد لعنهم الله وأخزاهم ؟!

د – العذاب في القبر" النار يُعرضون عليها غدوا وعشياً ، ويوم تقوم الساعة

أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " وهذا العذاب للروح كما قال ابن كثير في تفسيره ، فَإِنَّ أَرْوَاحَهُم تُعرَض عَلَى النَّار صباحاً ومساءً إِلَى قيَام السَّاعة ، فَإِذَا كَانَ يَوم القيامة اِجتمَعَتْ أَروَاحهم وَأَجسادهم فِي النّار ولهَذا قَالَ تعالى " ويَوم تقوم السَّاعَة أَدخِلوا آلَ فِرعَون أَشَدَّ العذاب " أَيْ أَشَدَّهُ أَلَمًا وأعظمَه نكالاً . وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة عَلَى عذاب البرزخ فِي القبور . نسأل الله الإيمان ، والعافية وحسن الختام .

ويـوم  الحشر من سود iiالليالي
يُـرى  كـالـذرّ مرذولاً iiقميئاً
يـعـيـث تجبراً ، ويتيه iiكِبراً
ويـمـقـتـه المليك فلا iiنجاح
ويـلـقى  في الجحيم على قفاه
ومـا الـجـدوى لإيمان إذا iiلم
فـإن  الـفعل في الأولى سبيل
ووجـه الـمسلم المرضيّ iiنور
وفـي  يـمـناه أوراق حسانٌ
وتـدخـله  جنان الخلد iiيسعى
فـما  من عاقل يرضى iiزوالاً
ومـن يـشري خلوداً من فناء
*             *             *
فـثـبـتني على الإيمان ربي
وبـيـن يديك فارحمني ؛إلهي
وجوّزني الصراط كلمح طرف
بـصـحبة سيّدي خير iiالبرايا
















تـضـعضعَ  فيه دجالُ iiالمقال
وقد  كان "المكرَّم " في iiالرجال!
فـصـار إلى صغار في iiالمآل
وخـسـران النفوس بلا iiجدال
ولا  أحـد بـتـوبـته!! يبالي
يـكـن  تـقواه في دنيا iiالفعال
إلـى  غـرف المكارم iiوالنوال
فـكان الشمسَ من حسنٍ iiتلالي
تـؤهـلـه  إلـى نيل iiالمعالي
إلى  الحور الحسان إلى iiالجمال
بـبـاقـية  ! فذاك من iiالمحال
لـعـمر  الله ، ذاك من iiالخبال
*             *             *
وفـي قـبري على رد iiالسؤال
وتحت العرش في فيء iiالظلال
وأدخـلـني الجنان مع iiالغوالي
فـهـل ترأف يا ربي بحالي ii؟