في موت عبد الحيّ حياة للآخرين
في موت عبد الحيّ حياة للآخرين
جميل السلحوت
عبد الحيّ موسى اسماعيل السلحوت طفل رائع بريء، كثير النشاط ، دائم الحركة كنحلة تحلق في السماء، تدور باحثة عن زهرة، تمتص رحيقها، فتخرجه عسلا فيه شفاء للناس، ثم لا تلبث أن تعاود عملها بنشاط وكأنها تتعب لتنتج الغذاء والسعادة لغيرها، وعبد الحي المولود في 26-3-2007كان شخصية قيادية بين أقرانه الأطفال، يشاركهم اللعب بمن فيهم من هم في ضعف عمره أو أكثر، يضحك...يتساءل كثيرا... يريد معرفة كل شيئ، وكأنه يسابق الزمن، يريد أن يعرف كنه الحياة وألغازها دفعة واحدة، لا يمشي الا راكضا، ولا يسمح لأحد من الأطفال أن يسلبه فرحته، أو ألعابه، شرس في الدفاع عن نفسه، ويفرض شخصيته على أقرانه رضوا بذلك أم لا فالأمر عنده سيان، لكن النتيجة واحدة، لفتت انتباهي شخصيته وطريقة تصرفاته فهو قريبي وهو جاري في السكن، تقربت وتوددت إليه واعتبرته صديقي رغم أن عمري ضعف عمره ما يقارب العشرين مرة، فتقبل صداقتي فرحا حتى أنه أسقط التكليف بيني وبينه، فاعتبرني صاحبا بعد أن اسقط خطابه لي بكلمة"عمّي"، في البداية كان يعتبرني عمّه، ثم اعتبرني "صاحبه" وكنت سعيدا بطفولته البريئة عندما كنت اسأله عن صلة القربى بيني وبينه، فيجيب"صاحبي" فلله درّك أيها الصاحب الصغير الذي أدخلت السعادة الى قلبي فترة قصيرة.
وصاحبي عبد الحيّ الذي كان يفرح بمجالستي لم يكن متفرغا لهذه الصحبة، فهو يقسم أوقاته للعب مع أقرانه، ولتنفيذ طلبات الكبار بمن فيهم صاحبه الذي هو أنا، فما أن تطلب منه خدمة سريعة حتى ينفذها بسرعة فائقة، وتغمره الفرحة بثناء الكبار عليه، كنت أمازح صاحبي عبد الحيّ فأطلب منه بعضا من السكاكر، فيعطيني دون تردد، وعندما أعطيه بعض الشواقل ليشتري له من البقالة القريبة ما يريد، كان يتردد ويرفض قائلا بكبرياء أنه لا يريد، فأحتال عليه بقولي له اذهب واشتري لي ما تراه مناسبا، فينطلق بسرعة فائقة.
وصاحبي عبد الحيّ انطبقت عليه مقولة جارتنا العجوز"هذا الولد مش ابن عيشه...الولد الفالح ما بيعيش" صباح 26-8-2010يستيقظ مبكرا يخرج من بيته راكضا كعادته، يجلس على سور ارتفاعه ثلاثة أمتار، يسهو صاحبي ويسقط من على السور على رأسه...لم يصرخ...فقد دخل في غيبوبة، رأته شقيقته التي تكبره بعامين فعادت تصرخ لتخبر والدتها، نقلوه الى مستشفى هداسا عين كارم، اجرى الأطباء له عملية جراحية لايقاف نزيف على دماغه، لحقت بصاحبي الى المستشفى، لم أشاهده، ولم أحاول مشاهدته فأنا لا أقوى على رؤية طفل باكيا، فما بالكم أن أرى"صاحبي" يعاني سكرات الموت، بكيت صاحبي على انفراد وبصمت وأنا أبتهل لله أن يشفيه، فسبحان محيي العظام وهي رميم. لكن صلواتي وصلوات غيري لعبد الحيّ لم ترد قدر الله فجاء الخبر المفجع مساء2-9 وكأن صاحبي يستعجل الموت في الشهر الفضيل وعلى عتبات عيد الفطر، لترد الأمانة الى صاحبها، فسبحان الله الذي يعطي ويأخذ، ولتحلق روح عبد الحيّ في حواصل طيور خضر في جنة عرضها السماوات والأرض، وليكون شفيعا لوالديه يوم القيامة، وأسال الله أن يكون لي نصيب من شفاعة صاحبي، لم أشاهد صديقي إلا بشكل عابر وهو مسجى في الكفن، رأيته طائرا جميلا في كفنه ،كما العصفور في عشه، فاختنقت بدموعي وخرجت سريعا على غير هدى.
ولتكون خاتمة حياة عبد الحيّ مسكا، فقد تبرع والده ببعض أعضاء جسده الغض ليبعث الحياة لآخرين كتب لهم خالقهم الحياة بأعضاء عبد الحيّ، تبرع بها راضيا مرضيا لا يريد الا مرضاة ربه، تبرع بأعضاء فلذة كبده وهو يقول، اذا شاء الله أن يقضي ابني في هذا السن المبكر، فالحمد لله على قضائه وقدره، وليكن في موته حياة للآخرين بغض النظر عن جنسهم ودينهم، فنحن"نعشق الحياة ما استطعنا اليها سبيلا" فالانسان هو الانسان، ويوارى عبد الحيّ التراب، وتبقى أعضاء من جسده حية في أجساد آخرين...فنم نومتك الأبدية يا صاحبي، مع أنك فلقت أكبادا وأبكيت بواكيا، وانا لموتك يا عبد الحيّ لمحزونون...فنسأل الله الصبر لوالديه وأن يعوضهم خيرا منه.