التأمل التربوي الثاني في سورة القصص
التأمل التربوي الثاني في سورة القصص
(الشاب موسى في مصر)
د.عثمان قدري مكانسي
[email protected]
-
الاهتمام بتربية الأبناء
: على الرغم أن موسى الشاب رُبي في قصر فرعون في رفاهية لم يحيَها غيره من شباب
بني إسرائيل إلا أن أمه – المربية الفاضلة – كانت تتعهده بفهم الدين وحب الله
تعالى الواحد الأحد والانتماء إلى قومه . فعاش موحداً لله مؤمناً به ، كافراً
بفرعون ، يعرفه على حقيقته ، فهو بشر يأكل ويشرب ، وينام ويستيقظ ، ويمرض ويصح
. فأنى له أن يكون إلهاً وهو أسير النفَس والبطن ، ومحكوم بالنواميس التي تسيطر
على الأرض ؟! .. إن موسى رُبّي في أحضان أمه التقية الموحدة ، ورضع من لبانها ،
وتتلمذ على علماء قومه " والعلم في الصغر
كالنقش في الحجر " فلما استوى بفضل الله تعالى شاباً مؤمناً آتاه
الله تعالى العلم والحكمة وأهله ليكون سيد بني إسرائيل ورسوله إليهم ألم يقل له
" ولِتصنعَ على عيني؟ " .. إن الوالدين
الحريصين على أبنائهما يتابعانهم بالتربية والتعليم ، ويهتمان بهم في هذا الزمن
الرديء فهما مسؤولان أمام الله تعالى عن تربيتهم .. ومن حديث النبي صلى الله
عليه وسلم في واجب التربية قوله " ... فالرجل راع في
بيته وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ، وهي مسؤولة عن رعيتها
..."
-
نصر المسلم أخاه المسلم
: يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أنس رضي الله عنه ( في الدرر
السنية )" انصر
أخاك ظالما أو مظلوما ، فإن كان مظلوما
فخذ له ، وإن كان ظالما فاحجزه عن ظلمه ، فإن ذلك نصره
" . موسى الشاب عليه السلام يدخل المدينة ، ولعله كان ممنوعاً من دخولها لأنه
لم يوافق فرعون فيما يدّعيه ، ولأنه أعلن أن الله واحد وأن فرعون ليس سوى بشر
عادي ، وخالف فرعون وعاب عليه وعلى من تبعه عبادتهم فرعون والأصنامَ ، فأظهروا
له العداوة وأخافوه فخافهم . دخل المدينة في غفلة من أهلها وقت القيلولة أو
بداية المساء ، فرأى رجلين قبطياً وإسرائيلياً يقتتلان ، فاستغاثه الإسرائيلي
طالباً مساعدته ، فلبّاه ، ودفع القبطي بجمع يده في صدره ، فمات لفوره ، ولم
يكن موسى يتعمّد قتله غير أنه كان يود عون المظلوم المستضعف على الظالم الذي
يريد تسخيره لأغراضه وذلك يأبى فعدا عليه فاستغاث موسى ، فنصره .
-
الاعتراف بالخطأ فضيلة
: وهذا ماكان من موسى إذ سرعان ما استغفر الله تعالى على خطإ ارتكبه "
قال : رب إني ظلمت نفسي ، فاغفر لي ، فغفر له ؛ إنه
هو الغفور الرحيم " واللجوء إلى الله تعالى
أم الفضائل ، فهو العالم بالحال ، وهو غفار الذنوب ومن لجأ إلى الله
وأقر بذنبه واعترف به ونوى التوبة والإقلاع عما فعل غفر الله له وتاب عليه .
وعاهد موسى ربه الذي هداه للإسلام وتوحيده أن لا يعين مجرماً ظالماً "
قال رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين
" ... لا بد أن الذين رأوا موسى يقتل القبطي سيوصلون الخبر إلى فرعون ،
وسيأمر بمعاقبته ، وربما بقتله ، فدب الخوف في قلب موسى ، وبدأ يقلّب الأمور ،
ماذا يفعل . وبينما هو في هذه الحال رأى الإسرائيلي نفسه يقاتل قبطياً آخر ،
فلما رأى موسى يمُرّ قربه طلب عونه مرة أخرى ، فما كان من موسى إلا أن وصفه
بالغواية وسوء الأخلاق ، لكنه قدم لمساعدته ويرى القبطي أن موسى القوي سيقتله
كما قتل غيره أمس فحذره واستعطفه بآن واحد " ياموسى
أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ؟ " هذا عمل الجبابرة المفسدين ،
فهل تودّ أن تكون مفسداً وأنت تدّعي الإصلاح ؟! " إن
تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض ، وما تريد أن تكون من المصلحين "
فتنبه موسى إلى صواب ما قاله القبطي ، وتركهما وشأنهما ..
ملاحظة
: هذا
كلام القبطي ، وليس كلام الإسرائيلي ، فقد درج المفسرون على أن الإسرائيلي حين
اتهمه موسى بالغواية " إنك لغوي مبين " خاف أن
يقتله فقال " أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس
..." والحقيقة التي أرتاح لها أن قتل القبطي الأول لم يكن بالسر ، بل
كان وبعض الأقباط موجودون ، وكلمة " في غفلة من أهلها
" لا تعني أن المنطقة كانت فارغة من الناس حين قتِل القبطي ، ولن يصف
موسى الإسرائيلي بالغواية ثم يساعده لأنه سيكون أشد غواية منه إن فعل ذلك ! ،
وهذا غير وارد البتة .
-
المسلم أخو المسلم
: كان فرعون يستشير ملأه : ما يفعل بموسى الذي رباه ورعاه ، فعاش في قصره كأحد
أبنائه ، ثم يراه ظاهر قومه الإسرائيليين عليه ، وتجرّأ فقتل أحد الأقباط ؟
ويشيرون عليه بقتله والتخلص منه . .. أحد الأقباط المقربين من آل فرعون – ابن
عمه – كان يكتم إيمانه بالله خوفاً على نفسه - سمع ما قيل ورآهم يقررون قتل
موسى ، فهل يتركهم وما يريدون ؟ ماذا يفعل ياربّ ؟ لا بد أن يبحث عن موسى
وينبهه إلى شرورهم ، وينصحه بالتواري عن المدينة بل عن مصر كلها ، فلن يألوا أن
يبحثوا عن موسى حتى يجدوه ويثأروا منه ،
"
وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى ، قال : يا موسى إن
الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ، فاخرج إني لك من الناصحين " قال:
من الناصحين ولم يقل
ناصح ، هذا يجعلني أقول إن هذا الرأي الذي
نصحه به – الخروج – ليس رأيه وحده وإن جاز ذلك ، إنما هو رأي عدد من الرجال
الذين يحبون موسى ويؤازرونه ، فتداولوا الأمر سريعاً ورأوا أن غيابه عن الأعين
في هذا الوقت المتأزم خير لموسى ، فالنفوس مشحونة ، والقلوب متوترة .
ولعل
هذا الرجل هو مؤمن آل فرعون الذي مدحه القرآن الكريم في سورة غافر .
كما أن
وصْفه بالرجولة وسعْيه الحثيث من أقصى المدينة حيث كان القوم يأتمرون بموسى
دليل على حبه لأخيه المؤمن وحرصه على نجاته
-
التصرف المناسب
: يسمع موسى نصيحة الرجل ، ويرى موقفه ضعيفاً إن بقي في المدينة ، وقد يُقتل إن
لم يتصرف بسرعة . ولكنْ إلى أين يذهب ، وهو لم يخرج من مصر قبل هذا ؟ وماذا
يفعل وقد فوجئ بالطلب ، فلا هو يدري المكان الآمن ،ولا هو يملك الزاد والراحلة
. إن الأمر لجد صعب ، ولكن لا بد من الهرب ، فقد اشتد عليه الطلب .
سار موسى
خائفاً ينظر حوله متلفتاً ، ويلجأ إلى الركن الركين والملاذ الأمين ، إلى الله
تعالى فهو الذي يرعاه ويحميه ، ويفتح مغاليق الأمور ، ومن توكل على الله فقد كفاه ،
ومن قصده فقد لباه ، وليدْعُه فهو السميع العليم ، وهو قاضي الحاجات ، رفع يديه إلى
السماء قائلاً " ربّ ؛ نجني من القوم الظالمين "
وهداه الله تعالى إلى
درب النجاة ، فانطلق شرقاً ، ثم شمالاً ، إلى فلسطين الحبيبة أرض الله المباركة ،
فيها الأمن والأمان – إن شاء الله تعالى – هي الأرض المقدسةبـاسـم الإلـه تحرك القلبُ
فـمِـن الـمُحال تعثّر وهوى
لـمّـا التزمتُ بشرعه الهادي
وسـألـتـه الغفرانَ تكرِمة ً
وخواطرُ النفس انطوَتْ فزَعاً
نـاديـتُ من أعماق مسكنَتيمـتـشوّقاً ، من دون أن يكبو
مـا دام في درب الهدى يحبو
كـان الجزاءَ لخطوِيَ القرْبُ
حين اعتراني الخوفُ والرَّهْبُ
لـمّا اكتواني الذنبُ والخطْبُ
أنـت الـرحيم البَرُّ ، ياربّ
انطلق المسلم الشاب موسى عليه السلام نحو مدين أول بلاد فلسطين ناحية مصر يطلب الهداية " عسى ربي أن يهديني سواء السبيل " فهداه الله وحفظه وبلغه دار الأمان .