الإفزاع للإخضاع
عقاب يحيى
لم يكن التخويف مجرد هبّات، أو ردّات فعل لدى أنظمة الطغيان والموت المعمم، والاستبداد.. وبعض القوى المتطرفة.. بل هو نهج نابت من تركيبها، وسياسة مدروسة لتعميم الخوف.. أرضية، وشروطاً لتركيع البشر وتحويلهم إلى دجاج مداجن مقصوصة المناقير، أو قطيع أغنام يتبعون "لمرياع" واحد وحيد مدجج بكل أنواع الفتك والبطش ..
لسان حالهم كان يردد دوماً المثل المعروف " جوّع كلبك يتبعك" فقد نظروا للمواطن على أنه أقل مرتبة من الحيوانات، لذلك أرفقوا عمليات التجويع، وحرب الناس بلقمة عيشها بالقمع المعمم، وإشاعة أجواء الرعب المرعب عن هولهم، وفظاعاتهم، وما يفعلونه بكل من يخالف أوامرهم، أو يحتجّ، أو يفكر بمعارضة لهم، وقرنوا الأقوال بالفعل.. ليس من خلال توسيع أجهزة الأمن بدرجة شاملة ومنحها صلاحيات مطلقة، وإطلاق يدها تعمل ما تريد وحسب.. بل بصناعة متقنة للتخويف والردع والإذلال.. اقتراناً بممارسات مهولة من فظاعات التعذيب والتصفيات الجسدية، والاغتيال متعدد الأشكال، إلى رمي الناس سنوات في الأقبية دون معرفة المكان والمصير، وفتح نوافذ لدفع الرشاوى الكبيرة بحثاً من الأهل عن خبر ما ولو بحدود معرفة أن ابنهم في عداد الأحياء، ناهيكم عن الإفراج وتكلفته، أضف إليه شتى أنواع الاغتصاب، والإهانات المقرونة بمحاولة اشتلاع الآدمية، وإنزال عاهات مستديمة بالمعتقلين خاصة في المناطق الحساسة، والرئيسة..
لم يكتف الطغيان بذلك..وحين لزم الأمر كشّر عن تلك الأنياب الإبادية المستعدة للإيغال غير المحدود بالدماء.. حتى لو صارت الجماجم تلالاً يتربّعون عليها، والدماء أنهراً.. فالمهم النجاح في تعميم الإخضاع، والبقاء في الحكم..
ـ الطاغية الأكبر حافظ الأسد وكبار أعوانه من القتلة مارس ذلك بكل صلافته وحقده، وكانت حماة المجزرة /شباط 1982/ وقبلها تلك المجازر المتنقلة في حماة وحلب وجسر الشغور وأماكن عديدة من سورية.. المحطة والمنعطف، والدرس الكبير الذي يلقنه حاكم لشعب يُفترض أنه ينتمي إليه كي "لا يرفع رأسه ابداً".. اللهم إلا للتصفيق والتسبيح بأفضاله، ونحو صوره وتماثيله..
ـ نعم كانت حماة المجزرة مفصلاً مجح النظام عبره في تعميم الخوف، وتكريس الخضوع، وصرف اهتمامات المواطنين عن الشأن العام.. ومحاولة إغراقهم في يوميات الحياة ومجتمعات الاستهلاك... وبالذهن أنهم أنهو خصيصة الشعب السوري، وضمنوا الولاء المنافق، والإجباري للأبد.. حتى مع فرض الوريث، وما استوجبه ذلك من إحضار صورة الطاغية حياً يمسك بسوط يلوّح به.. وقد وضع في نهاياته سكاكين قطع الرقاب ..
ـ هذه التركيبة هي جزء من بنية الوريث ونظامه، وهي ضرورية لفهم نهجه، واستناداته، ورفضه لي عمليات إصلاح، وإصراره على القتل المعمم وفعل الإبادة الشامل ..واليوم تسرّب نحو /500/ ألف وثيقة موقّعة بإمضاءاته عن أوامر القتل، والاعتقال، والتصفيات.. والتي هي جزء من فيض.
****
الأمريكان، ومعهم عتاة الاستعماريين كانوا يعتمدون استفشار القوة فيهم.. فيلجأون غلى ما يعرف ب"الصدمة والترويع" كما فعلوا في العراق.. وفي سجن أبو غريب، وعمليات القتل المنظم، لكنهم كانوا يرشقونها، ويلفلفونها، ويصبغونها ببعض الشفافية، وحكايا التحقيق، وقدرة التسريب وتناولها في الصحافة.. بينما عندنا فإن قولهم المشهور عن أن" الدبّان الأزرق لن يعرف مكانك" يلخص سياسة الإنكار والتغطية على الجرائم الشاملة التي تبلغ مع الثورة مئات آلاف المعتقلين الذين انتزعت الحياة من عديدهم، وجرى اغتصاب الآلاف : نساء ورجالاً بطرق وحشية، وجماعية، وإذلالية مرتبة، والتكتّم على عمليات الاغتيال وقصة المفقودين الذين هم اليوم عشرات الآلاف أيضاً.. بينما ما زالت قصص المفقودين مبهمة منذ عقود.. بما فيها ضحايا سجن تدمر، وبقية المعتقلات..
*****
داعش تمارس الإفزاع نهجاً، ايضاً، لكن بطريقة مباشرة مقصودة لبثّ نوع من رعب ترتجف له المشاعر، والبنية الإنسانية، والحضارية، وتفتح لها مصاريع"الفتوحات" بيسر، وبطرق درامية احياناً..وهي تصرّ على طريقة الذبح البشع، العلني، ونشر الأشرطة عن أنواع، واشكال الذبح.. والمغدورين.. معتقدة أنها بذلك تفرش الطريق لانتشارها عبر استسلام الناس خوفاً، والهروب الجماعي لمجرد اقترابها من موقع ما.. وهو ما حصل في عديد النقاط والمواقع.. وكان جيش المالكي الطائفي خير برهان.. وكذا في سيطرتها على المدن والقرى والمناطق.. بينما تغصّ من أسابيع في محاولة ابتلاع عين العرب.. وقتما اجتمعت عوامل متراكبة .. يمكن لها أن تنزع شيئاً من هالة الخوف تلك، وتضع داعش في حجمها الطبيعي مهما غالت، ومهما مارست من فعل شاذ، ومخالف لطبيعة العصر، ومشاعر البشر..
ـ لكن .. ومع رهبة الخوف التي يمكن أن تشلّ عقول البشر، وتحوّلهم إلى ما يشبه القطيع.. ومع الإقرار بأن الخوف حالة إنسانية، بغض النظر عن تراتبيته بين البشر، فإن له سقفاً سيقف عنده، وقد يرتدّ على اصحابه بما يشبه وأكثر.. عملاً بالحديث الشريف" العين بالعين، والسنّ بالسن.. والبادئ أظلم".. وهو ما حدث في الشعب السوري الذي وصل حنقه، وردّ فعله درجة الانفجار.. فكسّر دفعة واحدة جدران الخوف، وإرث مملكة الرعب وأعمدتها.. وانطلق يواجه بالصدور العارية آليات القنص والقتل المقصود.. ثم بامتشاق السلاح دفاعاً عن النفس، وللوصول إلى الهدف العام..
ـ ومهما أوغلت داعش في فنون صناعة الإفزاع والترويع..
ومهما توسّعت فيه، وفي استخدامه أداة للسيطرة فسيصل منتهاه، وقد وصل في ردّات فعل البشر الطبيعية، ودفاعهم عن حقهم في الحياة والحرية.. وستنقلب النهاية عليهم.. لأنه لا يمكن أن يصحّ إلا الصحيح، والطبيعي.. ولأن التطرف يودي للهاوية، ويولّد بدائله..