التربية المتحفية

التربية المتحفية

الأهمية السياسية للآثار

د. محمد عبد المطلب جاد

[email protected]

أستاذ سيكولوجيا الإبداع

جامعة طنطا-جمهورية مصر العربية

السؤال المبدئي :لماذا تهتم الدول بالبحث عن الآثار فى ترابها الوطني؟

          ولماذا تسرق الدول آثار دول أخرى ؟

          ولماذا تقيم الدول المتاحف ؟

ولماذا يتكلف الأفراد المشاق المالية والجسمانية للانتقال لزيارة آثار دول أخرى ؟

ولماذا تحارب إسرائيل البحث والاكتشافات الأثرية فى أرض فلسطين والمنطقة العربية بالكامل ؟

هذه بعض الأسئلة التى تحاول المحاضرة الإجابة عنها .

ما هى الآثار: لعل الرجوع إلى المعجم العربي والبحث عن معنى مصطلح آثار يكون له بعض التنوير. ففى المعجم الوجيز (صـ5) : أثر :ترك فيه أثرا، وعلم الآثار هو علم معرفة القديم، والوثائق القديمة

هكذا يتضح أن الآثار ما سجل الحضارة الذى يسجله باطن الأرض ،والذى يدل على هوية قاطنى المكان وبعض الضوء عن أساليب معيشتهم ونظامهم السياسى والاجتماعى الذى كان سائدا .

الآثار إذن إثبات هوية ،وإثبات انتماء، وسند امتلاك ،ووثيقة تعطى الوجود شرعتيه، والآثار إثبات عراقة ،وإثبات أصالة .والآثار سجل فكر وسجل تطور .

لهذا كله تهتم الدول بالبحث عن الآثار فى ترابها الوطنى لتعرف هى، وليعرف العالم من حولها أصولها التاريخية على ترابها وهذا .

وتسرق الدول آثار الدول الأخرى إما لإفقادها هذه الميزة التنافسية أو لتزييف الأثر والاستحواذ عليه وصنع تاريخ زائف لها .

ولا أهمية لكل هذه الآثار ما لم يكن لها وجود فى وعى الناس ،فالتاريخ لا أهمية له إذا لم يكن له وجود فى عقول ووعى البشر ،ولهذا وللإعلان والإعلام معا تقيم الدول المتاحف حتى تنتقل الرسالة إلى وعى الرواد المشاهدين للأثر .

وتقيم الدول متاحفها على ترابها الوطنى لتحقيق الوعى الحضارى والتاريخى الذى يزيد الانتماء والوعى بالذات ويزيد المعرفة لدى الناشئة بأصولهم الوطنية .

وعندما يلتقى أفراد المجتمع على قيمة موحدة ،وعلى وعى مشترك ،وانتماء مشترك تقوى روابطهم الوطنية ،ويتأسس حسهم الوطنى ،ويتمثلون النماذج ويخرجون بالعبرة للمستقبل عن طريق حلق الحاضر .

وقد يتساءل الإنسان عن هؤلاء السائحين الذى يقطعون المسافات لمشاهدة الآثار المصرية مثلا. يذكر لسترثارو فى كتابه الصراع على القمة أن البناة العظام الذى يؤسسون الإمبراطوريات هم أولئك الذين يشيدون ما يبقى من بعدهم كالآثار المصرية التى بقيت شاهدا على هؤلاء البناة العظام . (ثارو ، 1995).

إن السائحين يتوجهون إلى هذه الآثار بعد القراءة عنها فى المراجع والكتب ليشاهدوا ما قرأوا عنه ويدفعهم حب الاستطلاع وحب المعرفة لخلق واقع حسى لما هو قائم فى الذهن ،هم يقبلون على الحضارة الكونية لمعرفة ومشاهدة ما صنعه الإنسان وكيف كان يعيش ،وكيف كان يسوس وما الذى كان يعتقده كحلقات فى سلسلة الوعى والفكر البشرى إذن هو البحث عن المعرفة .

ويزداد توقير الإنسان للبلد صاحبة الحضارة الأعرق التى علمت البشرية .

  ولقد بذل اليهود محاولات مستميتة لخلق حضارة لهم وخلق تاريخ زائف يقول كيث ويتلام Keith Whitelam فى كتابة " اختلاق إسرائيل القديمة ،وإسكات التاريخ الفلسطيني " الصادر فى أمريكا عام 1996 ،يقول ويتلام "ومن المرجح أن تستعيد فلسطين صوتها ، وحقها ،فى تمثيل نفسها فى تلك الفترة بين العصر البرونزي المتأخر ،وبداية العصر الحديدي فما يدعو إلى السخرية أن ذلك أصبح ممكنا بفضل الكشف عن الآثار ونوعية وحجم المعلومات التى أنتجها " توصل إليها " الباحثون وعلماء الآثار الإسرائيليون أنفسهم عن تلك الفترة ( ويتلام ،1999 ،130 ). إن الصراع حول الماضي إنما هو صراع من أجل الهيمنة والسيطرة فى الحاضر .فالبحث عن إسرائيل القديمة هو موضوع بالغ الأهمية فيما يتصل بالهوية وميزان القوى المعاصرة .هو بحث عن الهوية التى تمكن إسرائيل من المطالبة بهذا الماضى .ولقد ركزت الدراسات النقدية المناهضة على أن النماذج البحثية عن تاريخ إسرائيل قد أهملت المعلومات الأثرية المتزايدة حول المنطقة .

  وفى المقابل يحاربون كل حضارة أقوى ومن هنا كانت محاولاتهم لطمس حضارة العرب فى فلسطين وكذلك فى مصر ،والادعاءات الكاذبة أن الحضارة المصرية وآثارها هى فى الأصل صنع اليهود الأوائل الذين عبروا النهر . أيام موسى عليه السلام .

محاولة إسرائيل تزييف التاريخ باستخدام الآثار :

  من هذه المحاولات دراسة آلت Alt لخلق تاريخ إسرائيلي فى فلسطين فى أواخر الفترة البرونزية ( القرن الثالث عشر قبل الميلاد ) وعلى هذا فإن آلت اعتزم معالجة المشكلة باستخدام الكتابات المسمارية المصرية القديمة Cuneiform وآثار مصرية أخرى لبناء الجغرافيا السياسية للمكان ، ويقول ويتلام " إن الفرضية القائلة أن إسرائيل كانت مكونة بدو رحل فى طريقهم إلى التمدن قد تم التخلي من عنها فى ضوء المكتشفات الأنثروبولوجية الحديثة التى أظهرت أن الحياة الرعوية هى فرع متخصص من المجتمع الزراعي فى الشرق الأدنى ،لقد برهن الكم المتزايد من الاكتشافات الأثرية فى المنطقة بشكل جلى على أن نشوء المستوطنات فى مرتفعات فلسطين أواخر العصر البرونزي وبداية العصر الحديدي لم يعد من الممكن ربطها بالهجرة الإسرائيلية إلى فلسطين صـ139ـ .

  محاولة أخرى قدمها وليام أولبرايت William Albright حيث ركز اهتمامه على المكتشفات الأثرية الحديثة لتدعيم تراث الدراسات التوراتية كما جاءت فى سفر يشوع لإثبات وجود حملة عسكرية قضت على المجتمعات السكانية للفلسطينيين ، ولقد روج أفكار أولبرايت عدداً من الخريجين الذين تبوأوا مراكز مرموقة فى الحياة الأكاديمية فى جامعات الولايات المتحدة. كما سيطروا على المؤتمر التوراتى Biblical Colloquium هو وتلاميذه وخريجوه فأصبح مركزا لترويج أفكاره بهدف سيطرة تلك الأفكار على الحياة الأكاديمية الأمريكية.

  لقد اعتمد أولبرايت فى روايته للتاريخ الإسرائيلي على معرفته التى لا نظير لها بالمكتشفات الأثرية فى فلسطين ،وكذلك قراءته للتراث التوراتى، فوجد ارتباطا مباشرا بين تدمير التجمعات المدنية الفلسطينية فى العصر البرونزي والاستعاضة عنها بمستوطنات أكثر فقرا ( تميزت بتغيير ثقافتها المادية ) . هكذا اعتنق نظرية غزو فلسطين معتمدا على الرواية التوراتية والمكتشفات الأثرية ، ولذا استنتج أن :-الإسرائيليين الأوائل فى فلسطين كانوا ثلاث مجموعات : العبرانيين قبل الإسرائيليين Pre-Israelite Hebrews والإسرائيليين الحقيقيين ،والكنعانيين ،وأن المجموعتين الأولين قد سيطرتا على الثالثة إما بالمعاهدات ،أو الغزو أو الاندماج التدريجي .

  ويقدم أولبرايت التبريرات المأخوذة من التاريخ التى تبيح إبادة الشعوب الأقل تحضرا وأن ذلك لصالح ديانة التوحيد من جهة ولصالح التطور البشرى من جهة أخرى ويقدم أمثلة كثيرة ومنها إبادة الأمريكيين للهنود الحمر فى القارة المستعمرة . وهو هنا يخاطب شعبا وقع فى ذات المحظور ،وله نفس الاتجاه .يقول :" ونحن الأمريكيين لنا حق أقل من غيرنا فى إصدار أحكام على الإسرائيليين فى القرن الثالث عشر قبل الميلاد حيث أننا قمنا عن قصد أو غير قصد بإبادة آلاف السكان الأصليين فى كل بقعة من أمتنا العظيمة ووضعنا البقية الباقية منهم فى معسكرات الاعتقال، فيبدو أنه من الضروري فى أحيان كثيرة اختفاء شعب ذى مستوى متدن إلى حد بعيد ليحل محله شعب ذو صفات متفوقة كما هو جار الآن فى استراليا ولقد كان من حسن حظ ديانة التوحيد ومستقبل بقائها أن الإسرائيليين الذين قاموا بغزو فلسطين كانوا أقواما همجية تمتعت بطاقة بدائية وإرادة بقاء لا تلين حيث أن الهلاك الذى نتج عن هذا الغزو للكنعانيين منع الاندماج بين الشعبين الأمر الذى كان سينتج عنه حتما انحطاط للقيم اليهودية إلى درجة يستحيل إصلاحها " ويستند إلى الآثار فى الاستدلال على الهدم والهلاك .

  ويستند أولبرايت إلى تأويلاته للمكتشفات الأثرية كذلك فى زعم وجود اختلاف حضاري حاد بين الإسرائيليين الغزاة والكنعانيين يقول : " إن التنقيبات الأثرية تبين أن انقطاعا مفاجئا كان قد حصل بين ثقافة الكنعانيين العصر البرونزي المتأخر وبين ثقافة الإسرائيليين فى بداية العصر الحديدي وذلك فى منطقة المرتفعات الفلسطينية .

  وضع البرخت آلت Albrecht Alt دراسة بعنوان " حيازة إسرائيل للأرض فى فلسطين " مبلوراً نموذجا لفهم جذور إسرائيل يعرف بنموذج الهجرة immigration لوصف هجرة الإسرائيليين السلمية إلى فلسطين ،ولا تزال هذه الفرضية تتمتع بقبول كبير خاصة فى الأعمال الحديثة لعالم الآثار الإسرائيلي إسرائيل فينكشتاين Israel Finkestien (ويتلام ، 1999 ، 133) .

  ومع ذلك فقد ركز وليام أولبرايت William Albright اهتمامه بشكل أكبر على المكتشفات الأثرية الحديثة لتدعيم تراث الدراسات التوراتية كما جاءت فى سفر يشوع لإثبات وجود حملة عسكرية قضت على المجتمعات السكانية للفلسطينيين .صـ141ـ .

  ويذكر ويتلام : أن ما يثير السخرية هو أن المكتشفات الأثرية الحديثة ذاتها التى انكب أولبرايت على تفسيرها هى نفسها التى هدمت بشكل كامل رواياته المختلقة للماضي .أما المعلومات الأثرية المكتشفة التى أثارتها تنقيبات عاى ( مدينة كنعانية قديمة بالقرب من القدس ، وحسب رواية التوراة دمرها يشوع ، إلا أن التنقيبات الأثرية لم تجد أثرا لهذا التدمير ) فيما يتعلق يربط المعلومات الأثرية بالتراث التوراتى فهما شئ معروف للجميع فقد نقب علماء آثار مشهورون فى هذه المنطقة وأعلنوا أنهم لم يعثروا على مدينة معاصرة ليشوع كما جاء فى التوراة ، وكتب بريتشارد Pritchard وهو أحد العلماء الذين نقبوا هناك ،أنه ليس هناك شك فى أنه لم يكن هناك مدينة معاصرة ليشوع .صـ153ـ .

  ولقد ظل هذا التاريخ المتخيل الذى جاء به أولبرايت يزداد ترددا بين الدارسين والباحثين فى أمريكا أجيالا متعاقبة ، ويلقى تأييدا شعبيا واسعا بفضل النشر الواسع له .صـ156ـ .

  وهذا رايت Wright يستثمر القاعدة التى قدمها أولبرايت من خلال التدعيم بالآثار للأفكار التوراتية ويقول : إن الحضارة والديانة الكنعانيتين كانتا من أضعف وأحط وأكثر الثقافات اللاأخلاقية التى عرفها العالم آنذاك ،وهكذا فإننا نعتقد أن إسرائيل كانت الواسطة الإلهية فى "تدمير حضارة فاسقة إذ أنه ضمن النظام الأخلاقي للحضارات السماوية يجب تدمير مثل هذا الفجور الفظيع" فإن هناك غاية إلهية من وراء اختيار إسرائيل للقيام بهذه المهمة وإعطائها تلك الأرض وهذه الغاية موضحة فى الوعود الإلهية لآباء إسرائيل كما وردت فى سفر التكوين" صـ160ـ .

  قدم رايت هذا الاختلاف لتاريخ إسرائيل فى كتابه الشهير " علم الآثار التوراتية Biblical Archaeology " الذى يشير فيه إلى أنه مع التقدم الكبير والدقة الكبيرة فى علم الآثار فى القرن العشرين أصبح من الممكن التمييز " بين المدن الإسرائيلية الأولى ومدن الكنعانيين الذين لم يتمكن العبرانيون من طردهم .ولقد شارك كل من رايت ، وأولبرايت فى تنقيبات بيثيل Bethel ( أى بيث الإله وحسب الرواية اليهودية : أنشأ فيها النبى إبراهيم مذبحا ،وكانت الموقع الذى رأى فيه النبى يعقوب رؤيته ،وبعد الغزو حفظ فيها اليهود الهيكل وتابوت العهد ).صـ162ـ .

  ويعلق وايتلام : لقد حدد البحث عن تاريخ إسرائيل مسار المكتشفات الأثرية وتأويلاتها حتى أن الآثار المادية تعطى لونا شعوبيا ethnic جعلها تستغل فى الفصل بين إسرائيل والسكان الأصليين ،وحتى إذا لم تسمح المكتشفات الأثرية ذاتها بمثل هذه الاستنتاجات .والنتيجة الطبيعية لهذا هى أن الفرضية اللاهوتية تزعم أن إسرائيل وبالتالي وريثها الروحاني المسيحية هما كيان فريد يمكن لمجراف عالم الآثار أن يؤكده صـ163ـ.

  وهذا برايت John Bright يؤكد أن الدلائل الأثرية حول تدمير تجمعات مدنية رئيسية فى فلسطين تقود إلى استنتاج أنه من المؤكد أنه كان يوجد انقطاع عنيف قد حدث فى القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، مما يقود إلى افتراض أن إسرائيل استوطنت فى البداية فى مناطق المرتفعات قليلة السكان ،وفيما بعد هزمت المراكز الحضرية الكنعانية فى السهول . ونموذج برايت فى نشأة إسرائيل يقوم على أن حق إسرائيل فى الأرض يعتمد بشكل أساسى على حقها فى الغزو .صـ168ـ .

  يقول : "فى النصف الثانى من القرن الثالث عشر قبل الميلاد حدث هجوم على فلسطين الغربية وهو ما تؤكده بقوة المكتشفات الأثرية ،ومهما كان هذا الغزو ناقصا فإنه قصم ظهر المقاومة المنظمة ومكن إسرائيل من نقل مركزها إلى هناك ،ولا يوجد أى سبب للشك فى أن هذا الغزو كان كما هو موصوف فى سفر يشوع ،عملية وحشية دموية ،لقد كانت هذه هى حرب يهوه المقدسة التى سوف يعطى فيها شعبة أرض الميعاد .

  ( يهوه : هو إله اليهود الأوحد فى التوراة العبرية ،وسلطته لا تتعدى الشعب اليهودى ، فالشعوب الأخرى حسب المعتقدات الدينية اليهودية لها آلهة أخرى ) صـ165،169ـ .

هذه بعض أمثلة من استخدام الآثار استخداما سياسيا فى اختلاق تاريخ ونهب شعب .

  ولخلخلة الدور الذى تلعبه الآثار فى تشكيل شخصية المواطن يوجد الآن على الانترنت موقع يعرض متاحف الحضارات المختلفة حتى يتعلم أنباء الكرة الأرضية فى آن واحد تعددية حضارية تجعلهم أكثر تقبلا لحضارة الآخر وتجعلهم أقل تعصبا للحضارة الأحادية التى نشأوا فيها. (Garfield & Mcdonough, 1997).

الأهمية السياسية للآثار من منظور انتمائي :-

  تصبح الدول أكثر قوة كلما غلب عليها الطابع القومي الذى يتمثل فى التقاء الأفراد على أهداف واحدة ،ويذوب الوجود الفردي فى الوجود الجماعي ،وتصبح قوة الفرد مستمدة من قوة أمته ،وهذا ما أشار إليه لستر ثاروا فى كتابة الصراع على القمة فى الألفية الثالثة كتفسير لقوة اليابان النابعة من الانتماء القوى للأفراد بحيث تلاشت الغايات الفردية فى الغابات القومية ،وأصبح موضع فخار الفرد أنه ينتمي إلى دولة غنية تحتل أسواق العالم ،ويشبه لستر ثارو الدولة بالجيش ،وانتماء الفرد بانتماء الجندي ،وقيادة الدولة بقيادة الجيش التى تستثمر أفضل ما لدى الأفراد ويحسن التوظيف من أجل الهدف العام ،وأن قوة الانتماء هى التى تمكن الجيش من الفوز. (ثارو، 1995) وإذا ما أحسن توظيف الآثار كتربية تاريخية سياسية فإنها يمكن أن تحقق ذلك الانتماء الناشئ من فخار واحد يلتقى حوله الأفراد وتصبح غايتهم حسن المحافظة عليه ،والعمل على استمراره ،والعمل على بناء ما يحاكيه ويفضله، ولا يكون ذلك بمجرد الاجترار والحفظ، وإنما بالمعايشة والانفعال بها والفهم لها، والتواصل معها، ومن الغريب أن نجد أن السائحين الأجانب أكثر منا علما بآثارنا، ومن الغريب أيضا أن نجدهم أكثر تقديرا لها، وأكثر وعيا بأهميتها فى تاريخ الحضارة البشرية، وحرصهم على الإنفاق فى سبيل معاينتها ومشاهدتها والتقاء العلم النظري بالمشاهدة، ومن الغريب أيضا أن نعلم أن كثيرا من المصريين يولدون ويعيشون عمرهم كله ويموتون دون علم بهذه الآثار أو زيارة واحد لها .

  متى تصبح آثارنا ضمن برنامج التربية القومى ،ومتى تصبح مشاهدتها ضرورة وحقا لكل فرد ،ومتى تصبح جزءا من التطبيع الاجتماعي والثقافي للأفراد .

  إن المكانة السياسية القومية تستمد من الانتماء القوى ،وللآثار والتربية المتحفية والمشاهدة على الطبيعة دور هام فى تحقيق قوة الانتماء هذه .

  تبقى الإشارة إلى أهمية الآثار فى تفعيل الدور السياسي للأفراد، والتغلب على السلبية السياسية، والعمل على حسن مشاركة الفرد فى الحياة السياسية، وهذه أهمية كبرى للآثار من المنظور السياسي.

التربية المتحفية والمشاهدة الواقعية تصنع الحس السياسي والتاريخي وتصبح اللبنة الأولى فى البنية السياسية للأفراد. عندما لا يكون لدى الفرد ما يخاف عليه وعندما لا يجد شيئا يمثله ، ولا يجد نفسه فى بلده لا يمكنه إلا أن يصنع انتماءا زائفا هو مجرد الوجود للوجود على أرض إن وجد حياة أفضل على غيرها ربما لا يتردد فى الانتماء إليها، ولنا اليوم عبرة فى الذين تصاهروا وعاشوا فى المجتمع الإسرائيلي وهو المجتمع الوحيد الذى ما كان لهم - بحكم الخلفية التاريخية والدينية الطويلة أن يفكروا فيه ولو كان جنة الله على الأرض. ولكنها الحياة العملية كأحد مخرجات خواء الهوية وفقدان الانتماء .

فهل هناك دليل أوضح من هذا على الأهمية السياسية للآثار .؟!

الأهمية السياسية للآثار من منظور اقتصادي

  نعود إلى لستر ثارو وكتابة الصراع على القمة ،وتفسيره لقوة اليابان الاقتصادية وتشريحه لفلسفية المجتمع اليابانى وتوجهاته ذلك المجتمع الذى خرج من الحرب العالمية الثانية فى نهاية عام 1945 حطاما . وما هى إلا أعوام حتى هدد أمريكا فى عقر دارها باختلال الميزان التجارى ،واكتساح الأسواق العالمية ،وطرد المنتجات الأمريكية من غالبية الأسواق ،وأعلى فائض دخل ،وسيطرة على سوق المال والأعمال والتجارة الدولية .

يسمى لستر ثارو الاقتصاد اليابانى باقتصاد البناة العظام ،ويرد النجاح إلى عظمة شعب ربيب تربية حسنة كما يقول . إن الانتماء القوى الناشئ عن الفخار باليابان نفسها كآمة يدفع الأفراد لمزيد من العمل حتى فوق ساعات العمل الرسمية ولو كان العمل بغير عائد مباشر على الأفراد والحرص على إتقان العمل ،وبذل أقصى درجات الطاقة ،والاستعداد للتضحية من أجل المجموع ،وعدم التفريط فى التراب الوطني حتى وإن دفعت الدول الأجنبية أضعاف قيمة الأصول المعروضة للبيع ،يقول ثارو أنهم مجتمع يشترى أكثر مما يبيع ،وليس لديه استعداد للتفريط فى تراب وطنه بأى ثمن ،ويحاربون التدخل الأجنبي ، ويحاربون أى نجاح للأجنبي على ترابهم . (ثارو، 1995 ، 151).

  من أين جاء كل هذا الانتماء والاستعداد للتضحية لدى المجتمع اليابانى ؟يقول ثارو إنك إذا نظرت إلى كل العوامل ربما وجدتها متساوية ،وعلى العكس قد تكون فلسفة التوظيف مدى الحياة ،وعدم استخدام الفصل أو التسريح للعمال وسيلة لتحسين الإنتاج ربما كانت هذه من المعوقات منطقيا لأي نظام اقتصادي ،ولكن كيف تتحول أسباب الضعف فى كل النظم السياسية إلى أسباب قوة فى الاقتصاد اليابانى ؟ويجيب إنها إرادة التحدي الناشئة عن وحدة الهدف والرغبة الجامحة فى البناء والبقاء والسيادة .إنها مسألة تربوية فى الأساس إنه الطابع الجماعي الذى تلاشى معه الغرور الفردى والألمعيات الفردية ، والإيمان بالعبقرية الفردية ،والإنسان السوبر ،وتحقيق أكبر قدر من الاستهلاك وأكبر استمتاع بوقت الفراغ، الأمر السائد الآن الأنجلو ساكسونية وتابعيها .

  والسؤال الآن ما الذى يمكن أن تصنعه التربية المتحفية والوعي الأثري، من جمع للأفراد على الوحدة، وبناء إرادة التحدي والتضحية فى سبيل بقاء المجموع، عندما يوجد ذلك لم يكون هناك إلا من يبنى بدلا من أن يحيا ليستهلك فقط كأنه بلا امتداد ولا غد .

  يقول ثارو ، يوجد فريقان ،فريق يقرض الغد والمستقبل من ادخارات الحاضر واستثماره ،وفريق آخر يقترض من المستقبل ليستمتع أكبر قدر ممكن بالحاضر .هناك من يستثمرون فى المستقبل ، وهناك من يستهلكون المستقبل ،واليابان من النوع الأول وكل الأنجلوساكسونين وتابعيهم من الفريق الثانى . (ثارو، 1995 ، 152)

  كيف يستثمر الوعي بالآثار واستمداد القوة والعزة ،والثقة بالنفس ،والتضحية منها لإتقان العمل وإجادته وأن نكون من البناة العظام بدلا من أن نكون من المستهلكين المفرطين البائعين العظام ،لنقرض المستقبل بدلا من أن نقترض من المستقبل ،لنحافظ على ميراث الأجداد بدلا من بيعه لنحيا لحظات وردية لا يكون من بعدها إلا اجترار المرارة؟ يقول ثارو: لعل هذه وغيرها من الحقائق الموجعة، لكن لابد من الوقوف أمامها وعدم تجاهلها إذا كانت لدينا الرغبة فى أن يكون لنا مكان فى المستقبل .

  يقول أيضا: إذا قالت لك الحقائق العلمية أن المياه لا يمكن أن تصعد الجبل فأنت على الفور تؤمن بذلك لكنك إذا ذهبت إلى اليابان ووجدت أن المياه تصعد بالفعل إلى الجبل فأمامك إحدى استجابتين ،إما أن تظل تؤمن بالحقيقة العلمية ،وإما أن تؤمن بحقائق الإعجاز …… إن الذين تركوا الآثار العظيمة كالكاتدرائيات والكنائس ،والآثار المصرية لم يكونوا إلا بناة عظاما. (ثارو، 1995 ، 152).

  هكذا يذكر الآثار المصرية كدليل على اقتصاد المنتجين ويضرب مثلا فهل يعى كل أفراد مجتمعنا ، خاصة الناشئين منهم هذه الحقائق ؟ وهل تعيش فى الوجدان وتوجه السلوك كما هى لدى لستر ثارو؟!

الأهمية السياسية للآثار من منظور تاريخى

  فى مؤتمر موسع للفنون باستراليا عقد عام 1999 ،تلتقى البحوث والدراسات حول كيفية استثمار الفن للتربية العولمية Global Education ،وهناك دراسة (Garfield & Donough, 1997) التى دعت إلى تأسيس موقع على الانترنت يعرض آثار الشعوب وحضارتها لتربية أبناء الكرة الأرضية جميعا بالوعى المقارن والنقد ،الذى ينتهى بالتعددية بدلا من الفردية فى التعظيم والتوقير لبعض الحضارات والثقافات أو للحضارة والثقافة التى ينتمي إليها الفرد ،والهدف البعيد هو إحلال التقبل للتنوع بدلا من التعصب للفردية .

  وسألت نفسى بعد اكتشاف أن فكرة العولمة Globalization فكرة أمريكية النشأة وأنها بدأت عام 1953 حين ظهر لأول مرة مصطلح Globalcitizen ship (المواظبة العولمية) (كرين برنتون ، 1984) سألت نفسى ، هل لو كان للأمريكيين حضارة كهؤلاء ،وتراثا كهؤلاء كانوا سيتخذون هذا المنحنى الفكرى ذاته ؟ وأية ثقافة يريد الأمريكيون أن يتجه العالم نحوها ؟ ما هى الثقافة السائدة التى يريدونها للعالم ؟

  واقترحت فى نهاية تساؤلى مسارين يجب أن نسير فيهما :الأول هو تقوية الهوية ودعمها بكل السبل حتى لا تذوب أو تندثر تحت أقدام العولمة ،والثانى :وهو يسير مع الأول فى ذات الوقت ،الأخذ بكل جديد وتقوية بناء الذات للمواطنة العولمية باقتدار واقترحت التدابير الإجرائية فى كلا المسارين .

  وتستطيع التربية المتحفية ،والمعايشة الأثرية ،والمشاهدة ، والمعرفة الحقة أن تصنع وعيا تاريخيا ،وحسا تاريخيا لدى الأفراد يجمعهم حول أهداف واحدة ويبعث على الثقة بالنفس ،والعمل على الامتداد ،والحرص على البقاء والاستمرار ،والحفاظ على الهوية والتراث .

  ومن المؤسف أن نجد الأفراد الآن فى حالة من قصور الوعى التاريخى ،والأمية الثقافية التاريخية، وفقدان الوعى بقيمة الذات ،والإحساس بالدونية ،وعدم الثقة بالنفس والقدرة على فعل شئ ذى قيمة. ما الذى فعله بنا الأعداء عبر غزوهم الثقافى وتزييفهم لوعينا حتى اتخذنا منهم مثلا وقدوة. ولم نتخذ من اليابان مثلا؟! إن كان لا بد من اتخاذ مثل من خارجنا.

الأهمية السياسية للآثار من منظور تربوى :

  إذا كانت التربية الإلزامية فى كل بلاد الدنيا تهدف إلى طبع جميع أفراد المجتمع بطابع واحد لخلق هوية واحدة وانتماء قويا ،وتنشئة جميع الأفراد على ثقافة واحدة ،وطابع اجتماعى واحد حفاظا على الأمة وبقائها وتقوية لها لصنع الامتداد الحضارى الذى لولاه ما كانت هناك ثقافات أو حضارات وما كان لهذا التنوع البشرى الخلاق وجود .

  إذا كان هذا هو هدف التربية الإلزامية ، فإن جزءا هاما من مصادر تحقيق هذه الأهداف يرتكز على الآثار والتربية المتحفية والمعايشة الأثرية والوعي الأثرى .

  وكما يستخدمها الغرب الآن مصدرا للإلهام والإبداع ،وبالتالي تنمية قدرات الابتكار لدى الناشئة ، يمكن أن تستخدم فى الداخل كذلك ،كما يمكن أن تصبح ملهما بما تطرحه من أساليب حياة وأنماط سياسية ،وقصص تحكى مرحلة مهمة فى حياة البشرية لمزيد من الخبرة الشخصية واكتساب الحسى التطوري الذى يدفع إلى مزيد من التطوير .ومن أمثلة ذلك حكاية الفلاح الفصيح والديمقراطية .وتبنى أهداف الجماعة ،وفلسفة الحياة من أجل البناء والبقاء .

  كما أنها تعد مصدرا هاما لبناء مفهوم ذات موجب ،والثقة بالنفس ،والدفع إلى ت تحقيق وتأكيد الذات ،وتبنى اتجاهات موجبة نحو الإبداع وإثارة المناخ الإبداعي ،وتدعيم الرغبة فى الحياة وتطويرها، والتضحية من أجل الجماعة وقوة الانتماء ،والمشاركة فى صنع مستقبل الوطن .

  كما أنها تعد من أخصب مصادر القيم :الجمالية ،والأخلاقية ،وقيمة العمل ،والقيم الروحية ،والمادية ،والاقتصادية والاجتماعية …… الخ.

  إن الآثار وحدها مصدر هام كتربية تشمل كل جوانب الشخصية ،معرفية ،ووجدانية ،واجتماعية ،ومهارية ،فلماذا تصبح الآثار موضع اهتمام العالم ينفق فى سبيل إلمام أفراده بها الكثير ،ولا تصبح موضع اهتماما منا ،ولا يلفت انتباهنا أن تعطى أفرادنا الحق نفسه ولو فى معرفة آثارهم أنفسهم دون معرفة آثار الآخرين ؟!

الأهمية السياسية للآثار فى تحديات القرن القادم

  ما الذى يريده القرن القادم منا ؟ . وما الذى نعد أنفسنا به للقرن القادم ؟ ما هى أدواته وأسلحته ؟ وما هى فى نهاية الأمر تحدياته التى يجب أن نعد أنفسنا لها ؟

  فى ظل ثورات متتالية : معلومات ،تكنولوجيا ،اتصالات ،تنافس اقتصادي محموم ،تكنولوجيا المعلومات .أصبحت الحدود ملغاة أو شبه ملغاة ،وأصبح الانغلاق على الذات أمرا مستحيلا .

  وليس بالإمكان وضع الرءوس فى الرمال حتى تمر العاصفة، فهى عاصفة باقية ومستمرة، ولذا فسوف يطول دفن الرءوس فى الرمال وعندما تطل فسوف تجد نفسها فى عالم لا تنتمى إليه.

  هاهى نظرية داروين تجد مصداقيتها اليوم، فالفشل فى التكيف مع المستجدات سينتهى حتما بالفناء. المتكيفون باقتدار وحدهم هم الذين سوف يكون لهم الاستمرار والبقاء .

  أول متطلبات الألفية الثالثة القدرة على التحدى والرغبة فى التطوير ،والإيمان بضرورة التحسين المستمر للقدرة التنافسية ،والاعتقاد فى ضرورة البقاء والبناء المستمر لآجال لا تنتهى ،والقدرة على الادخار والاستثمار للمستقبل ، بعبارة وجيزة الرغبة الجارفة فى أن يكون الوطن كبيراً حيث لا مكان للأقطار الصغيرة أو الضعيفة .

  تتطلب الألفية الثالثة من يملكون لغتها ، لغة العلم ،والمعلومات ،والتكنولوجيا ،وعلى المستوى المعرفى تتطلب اكتشافا للقابليات الابتكارية ،واستثمار أفضل ما لدى مواطنيها من طاقات عقلية ،والتوظيف الأمثل لهذه الطاقات، فكما يقول ثارو: هو الإنسان، والموارد البشرية، الإنسان صانع المعرفة ،صانع التكنولوجيا والقادر على استخدامها .

  تتطلب الألفية الثالثة سيكولوجيا خاصة هى سيكولوجيا العصاميين ،سيكولوجيا المنتجين لا المستهلكين ،سيكولوجيا المبدعين ،تتطلب قيما تقود للصمود والإيمان بقدرات العقل والمثابرة، والعمل الجماعى والدأب الذى يجعل الحياة كلها عملا .

مثل هذه القيم الموجهة للسلوك يمكن أن تربى من خلال التربية المتحفية والمعايشة الأثرية ،والوعى الأثرى ،والتاريخى والحضارى .

تتطلب الألفية الثالثة الجودة فى الإنتاج ،وقيم إجادة العمل فضلا عن توجيه الدين يمكن أن تربى خلال التربية المتحفية والأثرية، تتطلب التضحية من أجل الصالح العام والتفانى من أجل رفعة الوطن ،والعطاء قبل الأخذ ،والعمل من أجل المستقبل والخلود، وكلها قيم يمكن أن تربى من خلال التربية الأثرية والمتحفية .

هكذا نرى أن للآثار أهمية سياسية كبرى سواء داخليا أو خارجيا ،سواء على مستوى الوطن أو على مستوى المكانة الدولية ،ولذا تم اختيارها للتربية العولمية .

              

المراجع :

1-1- إبراهيم أنيس وآخرون (1972) : المعجم الوسيط ، معجم اللغة العربية ، الجزء الاول ، ط2 ، مطابع دار المعارف بمصر .

2- كيت ويتلام (1999) : اختلاف إسرائيل القديمة (ترجمة: سحر الهنيدى)، سلسلة عالم المعرفة، العدد 249، سبتمبر .

3-لستر ثارو (1995): الصراع على القمة، مستقبل المنافسة الاقتصادية بين أمريكا واليابان، ترجمة : أحمد فؤاد بلبع، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد (204)، ديسمبر .

كرين برنتون (1984): تشكيل العقل الحديث، ترجمة: شوقى جلال، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد (82)، أكتوبر .

4-Garfield, G.&Mc Donough, S.(1997) :Dig that site : Exploring Archaeology, History, and Civilization on the Internet . ll.S. Colorado, Englewood .