كلمات في القرآن 3

كلمات في القرآن (3)

هل أتاك ؟

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

كلما قرأت الآيات الني تتصدرها هذا الكلمة مسبوقة بالاستفهام " هل أتاك " عشت التحدي القرآني العجيب في سـَوق الخبر الذي ينبئ عن الغيب الذي يحمله إلى القارئ أو السامع في حقيقته وصدقه ، واقتطاعه من الماضي السحيق صورة تثـبُت أمام العين حركة ولوناً وحَدثاً ، وتجاويف الأذن صوتاً وجلبة . وفي القلب انطباعاً وثباتاً ، والعقلِ تفكيراً وتحليلاً ودروساً وعِبَراً . فإذا بهذا النبأ الغيبي حقيقة واقعة في حواس الإنسان يعيشه وجداناً وعواطف ، وتأملاً وتدبراً .

" هل أتاك " تنقل الماضي المنسيّ حاضراً حيـّاً تتلمسه لوحة ً متحركة تعرض الحدث نابضاً بالحياة ، فتتفاعل معه كأنك أحد عناصره . وهذا الشعور لحظة تربوية إيجابية لا تنمحي من الذاكرة .وهذا ما يمتاز به النص القرآني الرائع .

وردت هذه الكلمة " هل أتاك " ست مرات في القرآن ، وهي أسلوب إنشائي استفهامي سبقته " هل " الاستفهامية التي لا تحتاج جواباً ، فما بعدها الجواب الشافي بكل أبعاده . إنه أسلوب لجذب الانتباه ، فتترك كل ما في يديك لتخلـُص للحدث ، وتندمج فيه .

وترى بعد " هل أتاك " كلمة " حديث " خمس مرات وهي بمعنى الحدث والقصة أو قل مايراد من الحديث نفسه ، فتتهيأ لتسمع وترى وتتابع . أما في المرة السادسة فقد ذُكر كلمة " نبأ " فالأمر فتنة واختبار لدواوود عليه السلام كما سيمر .

وبعد كلمة الحديث – وهي كلمة عامة – يُذكرالهدف الذي سيق له " هل أتك حديث .. " موسى وضيف إبراهيم ، والجنود ، والخصم ، والغاشية .. ثم تبدأ القصة ...

تلا أربعاً منها كلمة ُ" إذ " وهي ظرف يختص بنقل الماضي إليك ، فيضعه أمامك من بدايته ، ثم يبدأ بالقصة تتوالى بدقائقها فيلماً سينمائياً يقتنص اهتمامك ، فتتابعه بشغف ورغبة . و" إذ " نقلة سريعة للموقف ، حيث يبدأ فوراً بزخم صوره الحية ...

في سورة طه يقول تعالى " هل أتاك حديث موسى ؟ " فتلتفت نحو مصدر السؤال لترى الجواب يتحدر بسلاسة قائلاً : " وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نار فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً ، لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى ....... " من الآية التاسعة إلى غاية الآية الثامنة والتسعين يفصل القول منذ أن شد موسى عليه السلام الرحال من مدين إلى مصر مع أسرته فرأى النور عند الشجرة المباركة وكلمه ربه ، فجعله من المرسلين ، إلى إشراك أخيه هارون في الرسالة مع التفاتة إلى فضل الله تعالى عليه منذ أن أرضعته أمه ، ثم ألقته في النهر ، وتبعته أخته تدل أهل فرعون على الأم ، فيعود إليها بفضل الله تعالى . ثم نجد الأخوين يحاججان فرعون ويحاورانه ، ونراهما يعظان السحرة قبل المباراة التي انتهت بإيمان السحرة . ثم انتقام فرعون المتأله من المؤمنين الجدد الذين ثبتوا على الإيمان بالله رغم التعذيب ثم الصلب والقتل . كما نرى المؤمنين بقيادة نبيهم موسى يجتازون البحر ، ثم يتبعهم فرعون فيغرق فيه ، وتنطوي صفحة الظلم فيرى اليهود أنفسهم أحراراً ، إلا أنهم سرعان ما ينتكسون فيطلبون إلهاً حين يرون بعض المشركين يسجدون للأصنام ، ويمضي الحدث مصوراً اتخاذ اليهود عجلَ السامري إلهاً على الرغم من وجود هارون بينهم – وقد استضعفوه - ، ثم تكون محاورة بين موسى والسامري تنتهي بحرق الإله المزيف وعقوبة السامري المنحرف لنصل إلى النهاية الأصيلة في عقيدة المسلم " إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ، وسع كل شيء علماً " .

أما في سورة " النازعات " فإننا نعيش قصة موسى نفسها مختصرة في دعوة موسى فرعون إلى التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد ،" هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى : اذهب إلى فرعون ، إنه طغى " فيأبى المجرم تلك الحقيقة ويدّعي الألوهية ، ويصرح بها " فقال : أنا ربكم الأعلى " فيأخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وينتهي المشهد بالقاعدة الأصيلة " فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى " فهل من معتبر؟! .

فإذا وقفنا بتأنّ في حضرة سورة " الذاريات " وجدنا قصة سيدنا إبراهيم حين استقبل الملائكة الكرام " هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ، إذ دخلوا عليه ... " وعرّج على قصص موسى وفرعون ، وقوم هود وقوم صالح وقوم نوح باختصار شديد ، وبيـّن نهاية الكفار المدبرين عن الإيمان ، ثم أمرنا بالفرار إلى الله تعالى وتوحيده سبحانه ، فهذا الأصل الذي على المؤمن أن يسعى إليه " ففروا إلى الله ، إني لكم منه نذير مبين ، ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر إني لكم منه نذير مبين "

أفر إليك منك ، وأين إلا إليك يفر منك المستجير

أما في سورة البروج فإننا لا نجد " إذ " ونجد الهدف : فرعون وثمود ، وسبب حذف " إذ " وهي - كما قلنا سابقاً - استحضار الصورة – ولا حاجة لاستحضارها فقد ذكرت بالتفصيل في أول السورة " .... قتل أصحاب الأخدود ، النار ذات الوقود ...... " فكان المعنى واضحاً والصورة جلية

وكذلك رأينا في سورة الغاشية ما رأيناه في سورة البروج من الاستغناء عن " إذ

ثم نجد قوله تعالى " هل أتاك نبأ الخصم إذ تسوّروا المحراب ....." فاحتلت كلمة " نبأ " مكان " حديث " فالأمر خطير ، إنه اختبارٌ لجـَلـَد نبي من أنبياء الله مشهور بالإنابة والتوبة وكثرة الذكر ، تسبح الجبال والطير معه ، تكررت في قصته " إذ " مرتين " إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داوود " لقد كان دخولهم فجأة دون إذن فخافهم ، فأخبروه بسبب دخولهم ، ولم يعرف أنهم ملائكة إلا حين اختفوا فجأة كما ظهروا فجأة . وهنا نعيش الامتحان في القضاء الذي ينبغي أن يستمع فيه القاضي لحجة الطرفين ، لا أن يحكم بمجرد أنه سمع اتهام الأول فهـُيـّئ له أنه مظلوم تجب مساعدته ، فأسرع يحكم له ، ثم أحس بخطئه الفادح فخر ساجداً يستغفر الله ويتوب إليه .

بقي أن نقول : رأينا في سورة الدهر قوله تعالى " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً " فكان هذا التساؤل بمعنى ( قد أتى على الإنسان حين من الدهر ...) وهي معنى آخر غير معنى يصب في التقرير والتأكيد ... نسأل الله أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا .. إنه ضياء النفوس وكنز الإيمان ، وقوت القلوب.