بمقاومة العدوان مارس السلفيون أعلى درجات السياسة

الكاتب والمفكر الإسلامي الدكتور/عبد العزيز كامل:

بمقاومة العدوان مارس السلفيون

أعلى درجات السياسة

علي عبد العال

صحفي مصري/ القاهرة

[email protected]

مع بدايات العقد الماضي أخذت الحركة الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي تنحو منحى "سلفياً" وتصطبغ توجهاتها بصبغة سلفية، وربما تلون أكثر خطابها بمرادفات سلفية أيضاً، رغم أن بدايات  تلك الحركة تاريخياً لم تكن كذلك، بل كانت تصب في روافدها مناهل أخرى عديدة بعضها أزهري وبعضها صوفي أو نهضوي بشكل عام.

 ومع هذا المد السلفي الذي شرع في التوسع، على حساب غيره من باقي مكونات العمل الإسلامي، حتى إلى خارج حدوده العربية والإسلامية، بات الكثير من مفكري وباحثي الأمة فضلاً عن مراكز الأبحاث ودوائر السياسة الغربية منشغلين بـ "السلفية" ومنهجها ومنطلقاتها ووسائلها في الدعوة. ورغبة في التعرف عن قرب على خلفيات هذا التوجه ومشاربه الفكرية، كان لنا هذا اللقاء مع الدكتور عبد العزيز مصطفى كامل الكاتب والمفكر الإسلامي المصري عضو هيئة تحرير مجلة "البيان" ـ السلفية الصادرة في لندن ـ والمشرف العام على موقع  (لواء الشريعة).

السلفية تنسب منهجيا للصحابة والتابعين وتابعيهم

 بداية ، دكتور عبد العزيز.. هل تعطينا ملمحاً سريعاً عن مفهوم "السلفية" ؟

 "السلفية" انتساب لسلف الأمة الصالح، و"السلف الصالح" ـ كما نعلم ـ هم الصحابة والتابعون وتابعوا التابعين، فهذه القرون الثلاثة المفضلة هي التي شهد لها القرآن وشهد لها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالفضل والخيرية، في قوله عليه الصلاة والسلام  : (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، فمنهج هذه القرون والأجيال الثلاثة هو خير المناهج، ونحن ندين لله عز وجل بأنه خير المناهج، فالنسبة إليهم ـ باعتبار المنهج ـ تشرف كل مسلم، وينبغي أن يستمسك بها كل مسلم.

 لكنني أرى أن الأولى في حال التسمية ـ وهذا رأي قد تختلف وجهات النظر حوله ـ أننا كإسلاميين، إذا احتجنا إلي توصيف ومسمى فالأفضل وصف "الإسلام" ، لأنه الأصل، (هو سماكم المسلمين) هكذا قال الله عز وجل، وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن خزيمة والمنذري وغيرهما بإسناد صحيح : (ادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله: المسلمين المؤمنين عباد الله), وهذا هو الأساس الذي لا نعدل عنه إلا إذا اضطررنا إلي أن نتميز كطائفة قائمة علي السنة، عن طوائف أخرى من أهل القبلة قائمة علي البدعة، فهنا نقول "أهل السنة والجماعة" وهذا أيضاً مسمى شرعي مأخوذ من مجمل النصوص الشرعية.

كل توجه إسلامي فيه من السلفية بمقدار أخذه عنها

 باتت "السلفية" تشغل الحيز الأكبر من الحركة الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي، بل ورأينا تقارير كاملة تخرجها دوائر الاستخبارات الغربية حول المد السلفي في العالم، وذهب متابعون لتطورات المسيرة الإسلامية إلي أن مؤشر العالم الإسلامي دخل فيما أطلقوا عليه "الزمن السلفي" وأن السلفية ستكون - إن لم تصبح بالفعل - سيدة الزمن القادم.. كيف ترى كل هذه الفرضيات؟

 بالنسبة للحديث عن "السلفية" ، و"الزمن السلفي".. فأنا ـ  مرة ثانيةً ـ لا أفضل أن تكون هذه التسميات والأوصاف ـ مهما كان شرفها، ومهما كان معناها الجميل ـ  سبباً أو عاملاً في تفريق صفوف المسلمين. فإذا تحدثنا عن "السلفية" كتجمعات بالمعنى التصنيفي وذكرنا من محاسنها كذا وكذا وأنها نجحت في كذا وكذا، فلا شك أن هذا الكلام سوف يفهم من البعض علي أنه غض من قيمة الآخرين وإهدار لجهودهم، مع ما سيعنيه ذلك ضمناً من أن هؤلاء الآخرين ليسوا على منهج السلف, وهذا لون من التزكية للنفس مع البغي على الغير.

 ومن ثم لا نريد أن يُفهم الكلام عن "السلفية" بهذا المعنى التصنيفي المفرق, بل المطلوب أن يكون منهج السلف من الرموز الجامعة لا المفرقة, لأنه منهج يستعصي على الاحتكار, وصفاً أو حملاً, فكل توجه فيه من السلفية بقدر أخذه من منهج السلف، وإن لم يأخذ مسمى السلفية.. فلا يحق لأحد أن يلبس هذا الرداء للبعض ويخلعه عن الآخرين.

 لكن ومع هذا, فلا شك أن المنهج المبني علي أصول السلف، والأقرب لما نقل عنهم، والذي ينتسب إليه تيار قوي داخل الأمة، لا شك أن هذا المنهج يشهد انبعاثاً عظيماً ومتصاعداً على كل المستويات، سواء على المستوى العلمي أو الدعوي أو السياسي أو حتى الجهادي المقاوم في ظروف المقاومة المشروعة.

 وهذا ليس غريبا.. لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث  المرفوع المروي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه - بإسناد صحيح : (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، فهذا الحديث يدل على سنة إلهية، دل عليها حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أن الله تعالى يقيض للأمة  على رأس كل مئة عام من يعيدها إلى أصولها, مجدداً لدينها. فتجديد الدين لا يمكن أن يأتي إلا من خلال العودة إلى منهج السلف، المنهج الصحيح، ولذلك يصح القول بأن جوهر الصحوة الإسلامية التي شهدتها الأمة منذ أوائل هذا القرن الهجري, كان ذا روح سلفية، بالمعنى المنهجي, فقد شهدت بداية هذا القرن تلك العملية التجديدية الشاملة، وصاحبها صعود وظهور وانتصار منهج السلف .

 قراءة سريعة لواقع الأمة تقول إن المشروعات الإصلاحية (من محمد رشيد رضا حتى الشيخ حسن البنا) أصبحت متعثرة بل وتشهد تراجعاً، وأن هذا التعثر ربما يمد السلفية بأسباب من القوة.. ما تعليقك على هذا الاستنتاج؟

 دائماً أي فراغ يملؤه حملة أي توجه بقدر ما يعملون، فإذا كان هناك ضمور في فترة من الفترات في الجهد المبذول لنصرة منهج السلف، فلا شك أن المناهج الأخرى سوف تملأ ذلك الفراغ، وهذا ما حدث في الفترة التي شهدت تعاظم التيارات العقلانية الأشبه بمنهج "الاعتزال" وهي المعروفة بالمدرسة العقلية التي مثلتها مدرسة محمد عبده في مصر, ومنهجها ـ في نظرنا- مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة في بعض معالمه الرئيسة، ليس لاحتفائه بالعقل, ولكن لإخفائه الكثير من هداية الوحي بدعوى تعظيم العقل, فهذا الفكر يعتمد العقل مرجعية أولى ويرفع من منزلته إلى الدرجة التي ليست له، كما يقدمه على النقل، وهذا ليس من منهج السلف.

 وفي فترة من الفترات, وفي ظل ضمور الجهد المبذول لخدمة المنهج السلفي، وفي ظل قلة من يخدم هذا المنهج، وفي فترة من غربة الدين بوجه عام, كانت هذه فرصة لأن يُملأ هذا الفراغ باتجاهات أقرب إلى الاعتزال منها إلى الإسلام الصحيح المأخوذ عن السلف، فنشأت هذه المدرسة العقلية التي كانت بدايتها على يد (جمال الدين الأفغاني) الذي تدور الشكوك حول منشئه الشيعي، ولا يُختلف على أن منهجه فيه الكثير من الفلسفات الاعتزالية، وقد تتلمذ عليه  الشيخ (محمد عبده) ثم تتلمذ الشيخ (محمد رشيد رضا) على محمد عبده لفترة، وهذا أوجد انتعاشا للمدرسة العقلية في النصف الأول من القرن الميلادي الماضي, وهذه المدرسة  يطلقون عليها أحيانا "المدرسة التنويرية" وكأن منهج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليس تنويرياً، وهذا افتراء على الحقيقة , فالنور يحل في أي زمان وأي مكان بقدر الأخذ من نور النبوة, ولاشك أن السلف هم الأعظم أخذاً من نور النبوة, ولهذا فقد بدأ النور يأتي إلى مصر  مثلا في العصر الحديث ؛ عندما تحول الشيخ محمد رشيد رضا إلى المنهج السلفي، وكان تحول رجل بهذا الوزن إلى الأخذ عن منهج السلف من كتب ابن تيمية وابن القيم وغيرهما؛ تأسيسا لمدرسة سلفية معاصرة في مصر, كانت تدين بالاحترام للمدارس السلفية الأخرى في العالمين العربي والإسلامي.

"الإخوان" يكسبون أكثر كلما اقتربوا من منهج السلف أكثر

 وكان من ثمرات جهد الشيخ محمد رشيد رضا في خدمة العلم وربطه بالعمل، خاصة في ظرف سقوط الخلافة العثمانية، أن نشأت حركة الشيخ حسن البنا ـ رحمه الله ـ ولا شك أن حركته كانت لها صلة بالمنهج السلفي في وجه من وجوهها، وهذا موجود في تعريف الحركة لنفسها. فالانتساب للمنهج السلفي أمر نسبي، يقترب ويبتعد بقدر ما يأخذ أي منهج من ذلك المنهج.

 وقد تفرعت جماعات كثيرة عن حركة الشيخ حسن البنا , ومنها بعض الجماعات السلفية نفسها, حيث بدأت حركة إحياء علمي ومفاهيمي, أضافت رصيداً ثريا لكل التوجهات الإسلامية، حتى صار من ثمرات التجديد على المنهج السلفي ما وصلنا إليه الآن من صحوة، لا أقول لفتت أنظار العالم, بل شغلته وأجبرته على التعامل معها طوال الربع الأول من القرن الهجري الخامس عشر، ونحن نرى آثار ذلك في مختلف المجالات.

 وبالمناسبة فأنا أرى أن جماعة "الإخوان المسلمون" التي تملك الكثير مما لا يملكه غيرها من الجماعات الإسلامية في العالم, تستطيع أن تملك أكثر وتحوز قبولاً أكثر, إذا اقتربت أكثر من نهج السلف, الذي يعد في الحقيقة منهج النبوة ومنهج الإسلام الصحيح, والدعوة إليه ليست دعوة للتبعية للآخرين, فمنهج السلف وأصولهم, متاحة ومباحة للجميع, ولو أخذت منه جماعة الإخوان أو بعض فروعها بقوة, فلن يستطيع أحد أن يزايد عليها, لأنها ستكون في ذلك الوقت مالكة للمنهج والحركة والتنظيم والشعبية والرصيد التاريخي معا, أما إذا جرها البعض للبعد عن ذلك, فإن جميع ما لديها من ملكات وإمكانات في مصر أو في غيرها, يمكن أن يحوزه ويحرزه غيرها, ممن سيحمل هذا المنهج بشموله.

 كلامك عن الإخوان وقربهم المطلوب من المنهج السلفي، يقودنا إلى السؤال: هل هناك مراجع سلفية ثابتة، الأخذ عنها يعد انتماء لمنهج السلف؟ وما أهم الكتابات التي تمثل إطاراً مرجعياً يلتف حوله الإسلاميون، ويضع لهم لبنات البناء الفكري والعقدي والحركي؟

 لا شك أن منهج السلف وجد من يعتنون به وينقلونه إلينا، مثلما نقل هؤلاء السلف إلينا بأمانة منهج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما قاله وما فهمه وما بلغه من وحي الله عز وجل، فهناك أيضا من نقلوا إلينا ودونوا أفهام السلف للدين وتفصيلات فقههم لنصوص الكتاب والسنة، وفي ذلك بلا شك قوائم طويلة عريضة من كتب التراث العلمي في الأصول والفروع، ومن تقدير الخير أن أكثر الكتب والمراجع المتداولة بين الناس هي في جملتها كتب "سلفية" كتفاسير الطبري وابن كثير والإمام الشوكاني والبغوي وغيرها, وكذلك  فإن المؤلفات المعتمدة والمتداولة بين الناس في العقيدة, هي كتب سلفية, كالكتب التي تنقل معتقد الصحابة والفرقة الناجية, وعقائد الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة المتبوعين المتقدمين والمتأخرين كابن تيمية وابن القيم وابن رجب وغيرهم.. وتشهد على ذلك أرقام مبيعات معارض الكتاب الدولية في العواصم العربية, حيث تأتي كتب التراث دائماً على رأس قوائم  الكتب الأكثر مبيعاً .

 وهو ما يضج منه العلمانيون ولا يفهمون له تفسيرا، كذلك تجد أن أكثر الكتب الشرعية المعاصرة المقبولة عند الناس, وكذلك المؤلفون الأكثر قبولاً لديهم, هي أيضا لمن يستقون من تلك المراجع السلفية الأصيلة، ولذلك عندما تقولون بتعبيركم أن هذا هو "الزمن السلفي" فإننا نتمنى ونرجو من الله عز وجل أن يعم هذا المنهج وأن ينتصر وأن يسود على كل المناهج، لأنه في الحقيقة المنهج  المرضي عند الله  ,والمقبول عند السواد الأعظم في الاتجاهات الإسلامية، في مقابل الاتجاهات الأخرى غير الإسلامية.

 موقف الإسلاميين من فكرة "المرجعية" لدى الشيعة

 هل من شخصيات مرجعية معتمدة (تاريخياً أو معاصرين) ؟ وكيف يتعامل الإسلاميون مع فكرة المرجع ـ المشهورة لدى الشيعة ـ أصلاً ؟

 بالنسبة لقضية "المرجعية" عند المسلمين ـ إن صح هذا التعبير ـ فهي ليست منصباً يفرض, ولا مبادرة تطلق, ولا منظمة تقام, ولكن المسلمين من خاصة وعامة يرجعون دائماً - بحسب فطرتهم - إلى من يكون أكثر فهما وتمثيلا للدين الصحيح, وأكثر تعبيراً عن أمانيهم ومطالبهم, دون تعال حزبي, أو تكلف رسمي, أو تعصب للذات من أي نوع. ولما كان هذا الزمان قد تجاوز حقبة المرجعية الرمزية الفردية الجامعة للشروط , كما كان الشأن في زمن الأئمة الكبار, فإن البديل الوحيد ـ في نظري ـ هو تكوين هيئة علمية قيادية للأمة, على مستوى عالمي , تتجاوز أطُر الثالوث المعطل لأي عمل جاد على مستوى الأمة, وهو : الحزبية , والرسمية , والقطرية.. وقد طرحت هذا الرأي بعيد غزو العراق, على صفحات مجلة "البيان" بشئ من التفصيل في مقال بعنوان (تغيير الخطط في مواجهة خطط التغيير).

أما فكرة المرجعية عند الشيعة, بمعنى إضفاء العصمة على أشخاص أو هيئات بعينها , واعتبار أن كل ما يصدر عنها هو من الحق والصواب الواجب اتباعه , فهذا نراه  لونا من شرك الإتباع , وهو قريب من مسلك اليهود والنصارى الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله , فكيف بالله نصف فعل قوم يأتمرون بأمر رجال يأمرونهم بقتال بل بقتل مسلمين أبرياء لمجرد أن أسماءهم على أسماء بعض الصحابة , في حين أنهم يطيعونهم في أمر التحالف مع أعداء من الكفار الظاهرين والمعتدين على المسلمين بدعوى الطاعة للمرجعية , بل وكيف نقول فيمن يطيعون هؤلاء في أشكال من العبادات والمعتقدات والسلوكيات، التي لم ينزل بها قرآن أو تجئ بها سنة ؟   إن فكرة المرجعية بهذا المعنى تتناقض مع مجرد وصف الإسلام, الذي يعني الاستسلام لله وحده, والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده, وقد قال أئمتنا الكبار : كل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 لكن لماذا نلحظ تكثيفاً للخطاب السلفي في المساحات التاريخية والفكرية، في حين يغيب عن المساحات السياسية والحركية؟

 كلمة "يغيب" هذه مبالغ فيها، قد يكون هناك تقصير في هذا الجانب من الناحية التنظيرية، معك حق إذا قلت أن الفكر السياسي الإسلامي المأخوذ عن منهج السلف لم يأخذ حظه من الخدمة العلمية بعد، هذا صحيح، لكن هذا الفكر أو هذا العلم بالمعنى الأدق, والمعروف باسم "السياسة الشرعية" لم يأخذ حظه من العناية, حتى في عصور ازدهار العلوم الإسلامية، فمن المفارقات الغريبة أنه لم يأخذ حقه من الخدمة - كغيره من العلوم - في عصور الازدهار, كما لم يأخذ حظه في عصور التراجع, لأن الأمة وقت الازدهار كان هذا واقعها، كانت السياسة الشرعية هي واقع الأمة, فوقتها كانت أمتنا تسود العالم، ولم تكن هناك حاجة كبيرة من الناحية الواقعية للتفصيل والتنظير الفكري في هذه الأمور,لأنها كانت أمراً واقعاً.

فالخلافة كانت قائمة والإمارة بأشكالها فاعلة والشرائع والشعائر الإسلامية حاضرة ، ولكن بعدما غاب تمكين الإسلام وحدث الانفصال بين السلطان والقرآن، عاد التكلم في هذه السياسة حديثا عن أمور "نظرية" ولكن باعتبار آخر, وهو أن تطبيقها لم يعد ممكنا إلا بعد عودة التمكين، وهذه هي المفارقة هنا، بمعنى أن من يتحدث الآن عن النظام السياسي الإسلامي ويتكلم في قضاياه بالتفصيل, هو ينظر لشئ غير موجود, وبيننا وبين تحقيقه في عالم الواقع بون بعيد، في نظر البعض

إذا أجريت انتخابات حرة في مصر حتما ستأتي بالإسلاميين

 ومع هذا, دعني أقول إنه ليس غائبا بهذا الإطلاق، يوجد بلاشك تقصير كبير يحتاج إلى مزيد جهد، لكني أضيف نقطة أراها مهمة, وهي أن السياسة ليست فكراً نظريا فقط , وممارستها ليست  في صناديق الاقتراع  فقط , فإن كان المقصود من السؤال ممارسة السياسة بالمعنى الشائع المعروف.. انتخابات وبرلمانات وهكذا.. فهناك اتجاهات سلفية خارج مصر تسجل نجاحات في ذلك، مثلما يحدث في الكويت والبحرين و اليمن وغيرها, وحتى في مصر أيضا هذا موجود, فإذا كان الإخوان المسلمون قد سجلوا نجاحات في الانتخابات, فلأن الموقف العام لجمهور الاتجاهات الإسلامية بما فيها السلفية كان موقفا متعاطفاً  بوجه عام مع الإخوان ضد العلمانيين, والعاطفة الإسلامية التي عادت للمصريين والتي اختاروا على أساسها الإخوان ,هي- بعد هداية الله - من آثار دعوة الدعاة جميعا, ولذلك شاع القول بأن الناس اختاروا الإسلام قبل أن يختاروا الإخوان, ومعروف الآن أنه إذا أقيمت في مصر أي انتخابات حرة ونزيهة؛ فلا شك أن الاتجاه الإسلامي سوف يكون في المقدمة وسوف يكتسح الجميع.

 لكني أرى مع كل ذلك أن ضعف الوجود و الخطاب السياسي لدى  السلفيين في مصر أو غيرها, هو من المآخذ والمثالب, التي ينبغي أن تبحث بجدية. وكما سبق أن قلت؛ فإن أي فراغ تتركه الدعوات الصحيحة في أي مجال, سوف تملأه الدعوات الباطلة, ليست العلمانية فقط , بل البدعية أيضا, التي تضع على رأس أولوياتها محاربة السنة, بل واحتكار تمثيل الإسلام مثلما حدث في العراق ولبنان, حيث ملأ الشيعة بما عندهم من باطل الساحة, وفرضوا أنفسهم واقعيا على أهل السنة, وستظل مهمة إزالة آثار ذلك الفرض السياسي الرافضي صعبة جدا.

 بمقومة قوى الاستكبار مارس السلفيون أعلى درجات السياسة

 أمر آخر ألحقه بهذا، فأنا أقول: إن بعض الاتجاهات المصنفة ضمن السلفية أو غير البعيدة عنها , تمارس نوعا من السياسة على أعلى درجاتها المؤثرة والمبهرة، الآن ، وليس غداً. فإذا كان المقصود من العمل السياسي تغيير الواقع لصالح الإسلام أو كف بأس الأعداء عن المسلمين , فإن أكبر وأثقل عمل تغييري يمكن إن يواجه هذه التحديات هو "مقاومة العدوان", ولذلك فما نراه في العراق  وفي أفغانستان وفي الشيشان  وفي الصومال , وقبل ذلك في فلسطين, من مقاومة لأعتى قوى الطغيان, هو ممارسة للسياسة على أعلى درجاتها, فالمقاومة  في العراق مثلا هي فعل سياسي في الأساس، شكله عسكري لكن ثمرته سياسية لو وجدت من يحسن قطفها.

وقد أثر الجهاد  في العراق على المعادلات الدولية وليس الإقليمية فقط , فأمريكا الآن بدأت بتأثير ذلك الجهاد تنزل بانتظام عن كرسي التفرد بزعامة العالم بسبب تراجعها العسكري والسياسي والاقتصادي الذي يحدث لها على يد المقاومين في العراق, وتسبب ذلك في توجه المجتمع الدولي نحو عالم متعدد الأقطاب, عد بعض الخبراء الاستراتيجيين من ضمن أقطابه المؤثرة تلك القوى الممانعة في العالم الإسلامي.

 وكذلك ما يحدث في أفغانستان أيضا هو ممارسة للسياسة على أعلى درجاتها, والمجاهدون هناك باتوا يطيحون بسمعة حلف "الناتو" مثلما أطاح إخوانهم في العراق بسمعة أعظم جيش للروم في التاريخ، وما سوف يقوم من مقاومة أخرى في أماكن إسلامية أخرى, سيكون- بإذن الله - خطوات إضافية لممارسة سياسة التغيير على أعلى مستوياتها،  ولا شك أن حركة حماس  أيضا قد قلبت موازين كثيرة في المنطقة بجهادها الذي يتطور باستمرار , فلا ينبغي قصر مفهوم العمل السياسي على كسب صناديق الاقتراع, التي قد تخسر الأمة مع كسبها أخطر قضايا الصراع.

 هل هذا الحضور المتزايد للحركات الجهادية الخارجة من رحم "السلفية"، يعد إعلاناً رسمياً عن الذراع العسكرية لأصحاب المنهج السلفي؟

 أولاً ؛ لا تورطني في التحدث باسم السلفية , فأنا مسلم سني انتمي لكل المسلمين وأتحدث عن قضايا إخواني المسلمين السنة، وما ذكرت من تعاظم حضور الدعوة و الحركة السلفية, فهذا ليس له علاقة بجماعات معينة, بقدر ماله علاقة بعموم عودة الوعي لدى الأمة بقضاياها, فالأمة التي صحت في بدايات هذا القرن الهجري, على و قع الطرقات الاستعمارية المفزعة التي دقت أبوابها في الكثير من بلدانها, والتي رأت الشيوعيين يهجمون من الشرق في أفغانستان وبعدها في الشيشان والبلقان, ورأت الصليبيين يهجمون من الغرب في بالبوسنة وبعدها كوسوفا وألبانيا , وأيضا في عقر ديارنا في الشرق الأوسط على أيدي القلة المستذلة من اليهود, الذين كبرتهم وعظمتهم جنايات الغرب وخيانات العرب..   هذه الأمة كان لابد أن يكون جزءا من صحوتها جهادياً , وكان لابد أن يكون الجزء الأهم في ذلك سلفياً ,لأن منهج السلف ... منهج الصحابة  وتابعيهم , هو منهج مجاهدين لنصرة الدين, فتحوا العالم بالعدل , وأسقطوا إمبراطوريات الظلم. ومن حمل منهجهم العظيم في حمل الدين, لابد وأن يحمل بين جوانحه روحا مجاهدة, كيف لا؛ وقد تعلموا من منهج الصحابة رضوان الله عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رباهم على أن من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق .

 قد تكون هناك مآخذ على بعض الاتجاهات الجهادية السلفية , كما توجد بالتأكيد مآخذ على غيرهم في الاتجاهات الأخرى، فكلنا يخطئ ويصيب, ولولا وجود هذه المآخذ لما كانت أحوالنا على ما هي عليه الآن من الفرقة والضعف .. ولكني أؤمن بأن للبدايات أحكامها, وللطريق تجاربها, وواجبنا نحو جميع إخواننا أن ننصح ولا نفضح, وأن نسدد ونقارب، لا أن نسد الطرق  أو نغرق القوارب, لأننا جميعاً في سفينة واحدة تلاطمها الأمواج من كل جانب، ونحن نعيش ظرفا استثنائيا طويلا منذ أن فقدت الأمة التمكين، وغابت قيادتها الواحدة, فصرنا في ظرف لا يوجد فيه من يلزم الجميع بخط واحد, خال من الأخطاء, أو اجتهاد واحد مناسب من كل الوجوه, ولهذا فلا مناص من إعمال عقيدة الولاء فيما بيننا , كما نعمل عقيدة البراء مع أعدائنا, وليطالب كل فريق منا إخوانه بحقه الشرعي في الولاء , فلكل مسلم الحق في الموالاة بقدر ما عنده من إسلام , كما قرر ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله .

 وسواء كان هؤلاء الذين ذكرتهم  ذراعاً عسكرياً للسلفيين أو لسائر المسلمين, فمن ينكر حاجة الأمة إلى "ذراع " عسكرية, لمواجهة عشرات الأذرع الأخطبوطية للكيانات الشركية والإلحادية والبدعية, التي لا تواجهنا اليوم بالفيلم والقلم والميكروفون فحسب, بل تصمم على إخضاعنا بالميركافا وصواريخ  الكروز, والتوماهوك, وغير ذلك من المدمرات والغواصات والقواعد العسًكرية الثابتة والمتنقلة.

إن هذه الاتجاهات المقاومة والمدافعة عن حرمات ومقدرات الأمة, لم تصطنع صراعاً أو تنشئه, وإنما الصراع كان ولم يزل موجوداً ومفروضاً منذ أن اجتمعوا علينا وأسقطوا خلافتنا , وزرعوا أعدى أعدائنا بين ظهورنا . وكل ما أراده هؤلاء المجاهدون هو أن ينتدبوا بدمائهم وأرواحهم, لمواجهة القدر المستطاع من إدارة هذا الصراع, وكل المطلوب منا أن نساهم في ترشيد أدائهم, وتقويم مسيرتهم, فكلنا جميعا محتاجون إلى النصيحة في الدين, والنصر سيكون نصرنا جميعا , والهزيمة تصيبنا جميعا .

 عندما تحكم السلفية أسألوها كيف ستتعامل مع العالم

 كيف يتعاطى السلفيون مع المفاهيم الحديثة التي تحكم علاقات العالم؛ كالتعددية الدينية وقبول الآخر، والحوار والتعايش؟

 دعنا نكون واقعيين, هل أصبح للسلفية أو غيرها كيان واقع تحكم من خلاله, حتى يسألها الناس عن كيفية تعاملها وعلاقاتها مع العالم من خلال المفاهيم التي ذكرت ؟.. تعالوا نشق الطريق إلى التمكين أولاً , حيث تظلل الجميع راية الشريعة, وعندها ستتكفل تلك الشريعة ويتكفل حملتها وحماتها, بأن يبينوا ويطبقوا السبيل الأمثل في التعامل مع العالم بجميع أصنافه من المسالمين والمحاربين والمحايدين, فالإسلام ليس منهاجاً نظرياً بكراً لم يخضع للتجربة بعد؛ بل إنه منهج عملي, حكم العالم وأشاع  فيه العدل طوال قرون عديدة... ولاشك أن البشرية تنتظر عودته الحتمية لإنقاذ الإنسانية بعدله ورحمته, والحكمة المكنوزة في شريعته.

 كما لا ينبغي أن ننسى أن النموذج الإسلامي الصحيح الذي يفترض أن يطبق المفاهيم الإسلامية في الممارسة السياسية الداخلية والخارجية, هذا النموذج لم يُسمح لأي تجربة منه أن تنشأ وتتبلور, فضلا عن تنجح وتبقى حتى تتمكن من تصويب مسيرتها , وضبط تحركاتها, وتطوير أدائها مثلما أتيحت الفرص للتجارب الشيوعية والرأسمالية وغيرها من التجارب العلمانية حتى في بلادنا، فكل التجارب تبدأ مضطربة, حتى تستقر بطول المكث, وتتابع التقويم والتعديل.

 بالنسبة لإشكالية العلاقة بين السلفية والأنظمة الحاكمة في بلدانها، هل ثمة منهجية محددة للتعاطي؟ أم يظل أهل مكة ـ على الدوام ـ أدرى بشعابها؟ بمعنى أن كل تيار سلفي يتعامل بشكل مختلف مع النظام الحاكم في البلد الموجود فيها؟

 التعامل بين السلفية وغيرها من الجماعات وبين الأنظمة الحاكمة , ينبغي أن تحكمه ظروف كل بلد من الناحية الواقعية على الأرض, فلا شك أن لكل بلد ظروفه وأحوال حكامه, ولكل نظام طريقته في التعامل مع الإسلاميين ومع مطالبهم, فليست هناك ـ على ما أعتقد - طريقة واحدة للتعامل مع الحكومات, لأنه ليست لهم طريقة واحدة في التعامل معنا.

والإسلاميون لا ينبغي أن يتعاملوا مع قضايا الأمة على أنهم غرباء دخلاء مفتئتون على (ولاة الأمر), فالأصل في ولاية الأمر, أنها ولاية الدين ورعاية مصالح المسلمين به, فإذا لم يكن هؤلاء الولاة أهلا لذلك, فعلى الإسلاميين أن يفهموهم ذلك. بل ويتعاملوا معهم على أساس ذلك , على أننا ينبغي أن نستثمر الايجابيات إن وجدت لصالح الأمة قدر المستطاع, وننأى عن المواجهات غير المحسوبة التي تعطل مسيرة الدعوة.

 وفي كل الأحوال هناك أصول منهجية في القضايا المتعلقة بالحكم والتحاكم, لا يسع أي اتجاه إسلامي من السلفيين أو غيرهم أن يتجاهلها، وبخاصة تلك المرتبطة بالجانب العقدي,فالخلط العقدي هو المسئول الأول عن التخبط السياسي, فهما وتحليلا وممارسة, ولو أحكمنا فهم الجوانب العقدية المتعلقة بالأمور السياسية؛ لانعكس ذلك على موقفنا السياسي, فهما وتحليلا وممارسة. لكن الإشكال أن هذا الموضوع الكبير يلقى من الاهتمام أقل القليل. فقد ترى أحيانا بعض الأطروحات التي تحاول الانتساب للسلفية تتحدث عن بعض القضايا  المتعلقة  بالتحاكم إلى الشريعة  بجهل مخجل, لا يليق بالعوام، فضلاً عن طلبة العلم أو الراسخين في العلم ، ومع هذا ينسب ذلك للسلفية.