السياسة من الدِّين
رضوان سلمان حمدان
مسألة (شمول الإسلام) التي ينكرها ويرفضها الحداثيون والعلمانيون والماركسيون بصفة عامة، هي فكرة متفق عليها بين علماء الإسلام ومصلحيه.
وكل المُصلحين الإسلاميين في العصر الحديث، ابتداء بابن عبد الوهاب، والمهدي، وخير الدين التونسي، والسنوسي، والأمير عبد القادر، وجمال الدِّين الأفغاني، مرورا بالكواكبي، ومحمد عبده، وشكيب أرسلان، ورشيد رضا، وحسن البنا في مصر، وابن باديس وإخوانه في الجزائر، وعلال الفاسي في المغرب، والمودودي في باكستان، وغيرهم، كلهم يتبَنَّوْن شمول الإسلام للعقيدة والشريعة، والدعوة والدولة، والدِّين والسياسة. ولم يكتفوا بتقرير ذلك نظريًا، بل خاضوا غمار السياسة عمليًا، وواجهوا مخاطرها ومتاعبها، وعانوا محنها وشدائدها.
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89].
والقرآن الذي يقول:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ...} [البقرة:183]، هو نفسه الذي يقول في نفس السورة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ...} [البقرة:178]، وهو الذي يقول فيها:
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ...} [البقرة:180]، ويقول في ذات السورة:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ...} [البقرة:216]، عبَّر القرآن عن فرضية هذه الأمور كلها بعبارة واحدة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ}.
فهذه الأمور كلها مما كتبه الله على المؤمنين أي فرضه عليهم: الصيام من الأمور التعبدية، والقصاص في القوانين الجنائية، والوصية فيما يسمى (الأحوال الشخصية)، والقتال في العلاقات الدولية.
وكلها تكاليف شرعية يتعبد بتنفيذها المؤمنون، ويتقربون بها إلى الله، فلا يتصور من مسلم قبول فرضية الصيام، ورفض فرضية القصاص أو الوصية أو القتال. وجميعها تقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ}.
إن الشريعة الإسلامية حاكمة على جميع أفعال المكلَّفين، فلا يخلو فعل ولا واقعة من الوقائع إلا ولها فيها حكم من الأحكام الشرعية الخمسة (الوجوب، أو الاستحباب، أو الحرمة، أو الكراهية، أو الإجازة). كما قرَّر ذلك الأصوليون والفقهاء من كل الطوائف والمذاهب المنتسبة إلى المِلَّة.
وقد دل على هذا الشمول القرآن والسنة، فقد قال تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89]. ويقول عن القرآن:
{مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111].
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك أمرا يقربنا من الله إلا وأمرنا به، ولا ترك أمرا يبعدنا عن الله إلا نهانا عنه، حتى تركنا على المحجة البيضاء: "ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك".
فالإسلام هو رسالة الحياة كلها، ورسالة الإنسان كله، كما أنه رسالة العالم كله، ورسالة الزمان كله.