عصر العجائب
عصر العجائب
أحمد الجمّال الحموي
عصرنا هذا عصر التخصّص الدقيق، فبعد أن كان الطبيبُ مثلاً طبيبًا للرأس والقلب والرّئتين والمعدة والأمعاء والكبد والكليتين وأجهزة الجسم وأعضائه كلّها، صار الطبيب لا يتجاوز موضوع دراسته التي قد تكون في جانبِ واحدٍ من أحدِ أجهزةِ الجسم وليس الجهاز كلَّه !
أمّا الإسلامُ فإنّه كلأٌ مباحٌ لكلِّ من يريدُ الحديثَ فيه وعنه، ولكلّ متطاولٍ يهرفُ بما لا يعرف، قائلاً: (ليس في الإسلام كهنوتٌ، ولا رجال دين!).
نعم، ليس في الإسلام كهنوتٌ ولا رجال دين، لكن فيه علماء، درسوا وتعلّموا، وهناك متعلّمون لم يدرسوا وليسوا أهلاً للفتوى ولا للحديث عن الإسلام، ولا للحديث فيه.
وآيات القرآن شاهدةٌ بهذا، يقول تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) وقال عزّ من قائلٍ: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) وقال أيضًا: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ).
فالقرآن الكريم يُقرّر بجلاءٍ أنّ من المسلمين علماء يسألهم الناس، وأنّ منهم جهلةً في علوم الشرع عليهم أن يسألوا غيرهم ممّن أكرمهم الله بالعلم ويسّره لهم.
وليس تلقّي العلم حكرًا على أسرةٍ أو فئةٍ؛ بل يجبُ على كلّ مسلمٍ أن يتعلّم ما لا بدّ منه من علوم الإسلام وأحكامه، ويجب كذلك على سبيل الكفاية أن يكون في الأمّة علماء متفرّغون مختصّون ليعلّموا غيرهم وليدفعوا عن الإسلام إفك الأفّاكين وشُبهات الحاقدين وسفه السفهاء المفسدين.
وإذن ليس من حقّ كلّ من هبّ ودبّ أن يُقيمَ نفسَهَ متحدّثًا عن الإسلام ومتحدّثًا نيابةً عن المسلمين، حتّى لو حمل أعلى درجة علميّة أو رتبة عسكريّة.
تخيّل أخي القارئ عاملاً لا يعرفُ سوى القراءة والكتابة، يقفُ في جمعٍ من الناس محاضرًا في الفيزياء النوويّة أو في طبّ الأعصاب والدماغ، وهو لم يدرس من هذين شيئًا في يومٍ من الأيّام.
ولو أجرينا في أيّامنا هذه امتحانًا بمبادئ الإسلام والمعلوم من الدين بالضرورة لبعض المسؤولين المتحدّثين عن الإسلام والمنظّرين فيه والناطقين باسم الأمّة الإسلاميّة فإنّي على يقينٍ أنّ الإخفاقَ المدوّي سيكون حليفهم بجدارة ! وربّما لم تبلغ الدرجة التي يستحقّها كلٌّ منهم عشرة من المائة على أحسن تقدير.
فلماذا يكونُ لكلّ علمٍ حرمتُهُ، ويُمنعُ من ليس من أهله من الكلام فيه؟ ولا يكون للإسلام وعلومه حُرمةٌ تمنع المتطاولين والعابثين من الاقتراب من أسواره والتعدّي على حصونه؟
ومن عجائبِ هذا العصر أنّ حاكمًا نصّب نفسَهُ بانتخاباتٍ مزوّرةٍ بعد انقلابٍ غادرٍ؛ جمعَ السياسيّين وكبار الضبّاط والعلماء ووقف محاضرًا فيهم، داعيًا إلى تصحيح الإسلام بثورةٍ جريئةٍ؛ لتخليصِ الإسلامِ من الأفكار والمبادئ التي لا تُعجبُهُ ولا تُعجبُ أمثالَهُ، ولا يرضى عنها الغرب الذي لن يرضى عنّا إلا أن نتّبع ملّته !
وقد أدّى هذا الخطابُ العجيبُ الصادرُ من حاكمٍ لا يعرفُ من الإسلام شيئًا إلى اندفاعِ أذنابِهِ والمتربّصين بالإسلام من نصارى وعلمانيين وفسقة، على زيادة بذاءاتهم وإبراز مكنون عداوتهم؛ متخفّيًا كلّ منهم وراءَ دعوى الحرصِ على تنقيةِ الدين، منافسًا أئمّة الإسلام العظماء وهو لا يصلحُ تلميذا لتلاميذ تلاميذهم، ولا أريدُ أن أقول أكثر من هذا!
وقد شنّ أحدُ الأذناب بعد أن شطح رئيسُهُ تلك الشطحات هجومًا على صحيح البخاريّ، وشنّ آخر هجومًا على الفتح الإسلاميّ لمصر معتبرًا إيّاه احتلالاً، وكأنّ مصر ملكيّةٌ حصريّةٌ له ولأجدادِهِ سلبها الإسلام منه، ونسي هذا القميئُ أنّه واحدٌ من مليارات عاشوا على أرض مصر خلال القرون المنصرمة، وقد أحبّت هذه الملياراتُ الإسلامَ واعتنقتهُ عن فهمٍ واقتناع، وهؤلاء هم الذين يحقّ لهم أن يتكلّموا باسم مصر، وهم روحُها وقلبُها النابض، وهم أهلُها وأربابُها، أمّا من يحيا بعقل الفراعنة الأقباط فهو غريبٌ عنها لا يُمثّلها ولا يُمثّل أهلها، بل هو عدوٌّ للأمّة ولدينِها وفكرِها ومبادئها.
كما اندفع آخر من أذناب ذلك الحاكم مُبديًا ضجرَهُ من الأدعية النبويّة قائلاً: يُريدون تقييدنا بدعاءٍ عندما نصحو وعندما نلبس وعندما ندخل وعندما نخرج ... بل وصل الأمر إلى غرفة النوم فتدخّل الإسلام بعلاقة الرجل بزوجه وكيف ينام معها !
وهكذا فقد أصبح الهجوم على الإسلام - وليس على جماعةٍ إسلاميّة أو جماعاتٍ إسلاميّة - وظهر على الألسنة ما كانت تُخفيهِ القلوبُ المريضةُ والنفوسُ الخبيثة.
ولكن من الذي يفرضُ على هذا الجاهل الفاجرُ أن يدعو بتلك الأدعية أو بواحدٍ منها حتّى لو عاش عقودًا كثيرةً، بل لو لم يذكر ربّه مرّةً واحدةً في حياتِه فلن يجد مسلمًا يفهمُ الإسلام الفهمَ الصحيح يُحاسبُهُ أو يُعاقبُهُ أو يتعرّضُ لهُ، لكنّ هذا الذي ضَجَرَ من الأدعية التي ما أظنّ أنّه دعا بها في حياتِهِ، لا يملّ من التسبيح بحمدِ سيّدِهِ ووليّ نعمتِهِ صباحَ مساء، وصدق الله: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).
وتمادى بعض الأذناب في الغيّ والغباء فقال: إنّ بعض آيات القرآن صادمةٌ وفيها تحريضٌ على القتل، فكشفَ عن جهل عميقٍ بالإسلام، دينِ الرحمة والإنسانيّة، الذي شهدَ لهُ المنصفونَ من الغربيّين وتنكّر له هو وأمثاله من المحسوبين على أمّتنا، والعجب أنّ هذا الغبيّ أصيبَ بالعمى والصمم، فلم يُبصر ولم يسمع علماء السلطان ورجال سياسة المتغلّب وهم يُنادونَ بلا حياءٍ في فضائيّات الردح والتهريج بقتل المخالفين وسحقهم، وأنّه طوبى لمن قتلهم وطوبى لمن قتلوه، فلم يصدمهُ هذا، لكنّه صُدِمَ بآيات القرآن التي لم يفهمها وعمِيَ عن آلافِ المعارضين السلميين الذين قُتِلوا في المساجد والساحات، وعن عشرات الآلاف الذين غيّبتهم السجون وعمّن قُتل تحتَ التعذيب، وعَمِيَ عن اغتصاب الطاهرات العفيفات من قِبَلِ وُحوش الحُرّاس والسجّانين.
والسؤال الآن هل يجرؤ واحدٌ من هذه الأبواق أن يتكلّم عمّا في التوراة من تحريضٍ على القتل ودعوةٍ إلى إبادةِ الآخرين، وتدميرِ بيوتهم وقتل نسائهم ورجالهم وأطفالهم، أم أنّه ينتظرُ الإذنَ من سيّده كي يبدأ بالنباح، ولعلّه لجهله لا يعرفُ شيئًا عن هذا، أم هل يجرؤ واحدٌ منهم أن يتكلّم عمّا في كُتبِ الروافض من استباحةٍ لدماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وما لقي المسلمون منهم من غدرٍ وعدوان.
نقول بالفم الملآن أنّه لا يحقّ لأيّ واحدٍ من هؤلاء، بل ولا لكبيرهم أن يتكلّموا عن الإسلام فضلاً عن أن يُصبحوا منظّرين وآمرين علماءَهُ الأحرار الذين لا يأكلون من موائد السلطان أن يقوموا بثورةٍ تنسف دين الله ليوافقَ أهواء الطغاة المستبدّين الذين تقطُرُ أيديهم من دماء الأبرياءِ دون توقّف.
إنّهم غير مؤهّلين للحديث في هذا، ولم يُفوّضهم أحدٌ بهذه المهمّة التي لا تصلحُ لهم ولا يصلحون لها، وكيف يصلحون وجلُّ ما يعرفُهُ هؤلاء عن الإسلام هو ما يُثيرُهُ أعداؤُهُ من شُبُهات، وما يُلفّقونه من أكاذيب ومفتريات، أمّا الأذناب فليسوا أكثر من صدى يُردّد صيحات الحاقدين ويبثّ ما تنفثُه الأفاعي من سموم.
إنّنا في عصر العجائب ! إذ يبرز الثعلبُ لنا في ثيابِ الواعظين، وينبري السكّيرون والزناةُ والمثليّون والعلمانيّون ليُقدّموا لنا إسلامًا لا يمتُّ إلى الإسلام بأدنى صلةٍ من غير أن يردعَهُم رادعٌ أو يُلجِمَهم قانون، لكن يجبُنُ كلّ واحدٍ من هؤلاءِ أن ينتقدَ أيَّ مسؤولٍ لأنّه يخشى عقاب النّاس ولا يخشى عقابَ الله تعالى.
إنّ دين الله وحُرُمات الله لا بواكيَ لها، لذا أصبحت غرضًا لكلّ منافقٍ متملّقٍ دنيء، وإنّني أنصحُ هؤلاء الجَهَلَة أن يُصحّحوا عقولهم وأن يُداووا نُفوسَهم المريضة بدلاً من أن يتكلّموا في الإسلام.
ونصيحةٌ أخرى: أن يُقلِعُوا عن هذا الهذيان؛ لأنّه من أعظم أسباب التطرّف، هذا عدا عن أنّهم هم التطرُّفُ ذاتُه.
وأخيرًا هل بلغكم أنّ حاكمًا من حكّام (إسرائيل) طالب الحاخامات بثورةٍ دينيّةٍ تُصحّح ما عندهم من طامّات؟
أقول للذي وقف مُحاضرًا يُطالبُ العلماء بثورةٍ جريئةٍ هي في حقيقتِها تلاعبٌ بدين الله ليروقَ للطغلاة وساداتهم: إنّكم تطلبون المستحيل ! فالإسلام عصيٌّ على العبث والتحريفِ.
وأقول للأبواق غوصوا في مستنقعِ شهواتِكم ومطامعكم، واتركوا الإسلام لأهله فلستُم من أهلِه، إلاّ أن تتوبوا وتتعلّموا لتتخلّصوا من عِماية جهلكُم.
وصلّى الله على سيّدنا محمّد النبيّ الأمّي وعلى آله وصحبه وسلّم
والحمد لله ربّ العالمين.
أحمد الجمّال الحموي
نائب رئيس هيئة علماء حماة سابقًا.
عضو مؤسّس في رابطة أدباء الشام.
عضو مؤسّس في رابطة العلماء السوريّين.
عضو الاتّحاد العالميّ لعلماء المسلمين.