ربيع الشعوب

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

إذا كان رمضان المبارك ربيع القلوب على المستوى الشخصي أو الفردي ، فإنه أيضا ربيع الشعوب المسلمة ، يستنهض همتها الروحية ، ويستخرج أنقى ما فيها من عطاء وجود وكرم وتواصل ، وقد كانت الغاية التي أشارت إليها الآية الكريمة التي شرّعت للصيام متمثلة في قوله تعالى : " لعلكم تتقون " ، دليلا للمسلمين ، على أن تكون التقوى ، أكثر اتساعا وحضورا في السياق الاجتماعي ..

إن التقوى تخرج في رمضان من الدائرة الخاصة أو الشخصية ، إلى الدائرة الاجتماعية ، ولعل أول معالم هذا الخروج تتمثل في أداء التراويح في جماعة ، حيث يتلاقي أبناء الحارة وأبناء القرية وأبناء الحي في صلاة جامعة ، فيقابل بعضهم بعضا ، ويتزايد الرباط الاجتماعي ، من خلال زيادة التواصل ومعرفة الأخبار ، والمشاركة الإنسانية في المناسبات السارة ، وغير السارة .

ولعل أهم تواصل اجتماعي بعد الصلاة الجامعة في التراويح ، هو التكافل العام لأهل القرية أو المنطقة حيث يستحضرون نعمة ربهم عليهم ، فيعطفون على إخوانهم من الفقراء والمساكين ، والمحتاجين ، ويكون العطاء والجود التزاما بتوجيهات الإسلام والنبي- صلى الله عليه وسلم – وتنفيذا لغايات الإسلام الكبرى في إعطاء السائل والمحروم ،ونحمد الله سبحانه أن العطاء امتد ليشمل صورا متعددة ، يتحقق من خلالها تكريم المحتاجين دون إهدار كرامتهم ، أو إشعارهم بالحرج ، حيث يقوم أهل الخير وما أكثرهم ؛ بتوصيل حقائب رمضان المعبأة ببعض العطاء ؛ إلى أصحابها في بيوتهم ومقار إقامتهم ، دون أن يذهبوا أو يطلبوا أو يسألوا  الناس إلحافا ، وهو الأمر الذي دفع السلطة عن طريق المنافسة ، أن تقدم حقائب مماثلة من أموال الشعب وبكميات كبيرة ، عن طريق مندوبيها من النواب او أعضاء الحزب ، ولكنها للأسف فشلت في التوزيع بطريقة كريمة تحفظ للناس كرامتهم وحياءهم ، فرأينا ها توزع في الأماكن العامة ، وملاعب الكرة ، ويتقاتل الناس للحصول على بعض ما يوزع ، وهنا يكون الأقدر على الوصول إلى الموزع هو من يأخذ ، ولو كان لا يستحق . ولعل السبب في هذا يرجع إلى عدم الإخلاص ، وعدم التوجه إلى الله ، خاصة أن القصد من العطاء الحكومي هو المنافسة مع أهل الخير الطيبين البسطاء ، ومراءاة الناس .

ثم إن هناك ظاهرة طيبة ازدهرت في العقود الأخيرة ، وهي إقامة الموائد العامة عند المساجد ، وفي الشوارع والحارات ، لتقديم الإفطار إلى الصائمين العابرين والمحتاجين ، وقد امتدت الظاهرة من المدن الكبرى إلى المدن الصغرى ، بل إن بعض القرى تقيم هذه الموائد في بعض أيام رمضان ، أو في رمضان كله ، وهذا يعني أن الخير مركوز في الفطرة الشعبية ، وأن المسلمين لديهم استعداد للتكافل العام في صورته الأبعد والأشمل.

وما أكثر الخير حين نرى شبابا يقفون في إشارات المرور ، وعلى الطرقات العامة يحملون الماء وبعض التمور ونحوها لإطعام الصائمين المسافرين في السيارات الذين لا يتمكنون من تحضير إفطار لسبب وآخر .

وفي الحرمين الشريفين يغدق كثير من الفضلاء على المعتمرين وزوار البيت الحرام ، والمسجد النبوي ، من الطعام والشراب ما يكفي الألوف المؤلفة قربة لله سبحانه ..

بل إن بعض الأفراد والجهات التي لا تعبأ بالعبادات ، أو تشريعات الإسلام ، تجد نفسها في رمضان داخلة في السياق العام للشهر الكريم ؛ فتقيم الموائد الرمضانية لإطعام الناس ، ساعة الإفطار ، وخدمتهم ، لعل الله يغفر لهم ، ويهديهم إلى الطريق الصواب ..

وفي رمضان بدا الوعي بإخراج الزكاة المفروضة ، وخاصة زكاة المال على مستحقيها ، وهي ظاهرة لم تكن واضحة في عقود مضت ، وإخراج الزكاة المفروضة ، مع زكاة الفطر في آخر رمضان ، له تأثيره الكبير في حياة الفقراء والمحتاجين ، في ظل الغلاء وصعوبة الحياة ، وهو ما يعني أن الشعوب الإسلامية تعيش في هذا الشهر الكريم ربيعا غير مسبوق ، أو لا تعرفه في الشهور الأخرى .

ولا يؤثر في هذا الربيع ما يقوم به بعض أصحاب النفوس الضعيفة ، من شياطين الإنس الذين يسعون إلى الكسب الحرام في هذا الشهر الكريم أو محاولة تسويد الصفحة البيضاء ، التي ينعم بها المسلمون بحكم  ما يتفضل به المولى الكريم على عباده .

عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم :

" أتاكم رمضان شهر مبارك ، فرض الله عليكم صيامه ، تفتح فيه أبواب السماء ، وتغلق فيه أبواب الجحيم ، وتُغل فيه مردة الشياطين ، لله فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم " رواه النسائي والبيهقي ، وصححه الألباني . 

إن شياطين الإنس من الساعين إلى الكسب وكثير منه حرام ، وبعضهم يتحرك بالعداوة والخصومة للإسلام ، لإفساد صوم الناس ، بل إفساد عقولهم وأفئدتهم ، وربط رمضان الكريم بما يخالف غاية هذا الشهر الكريم ، وهي التقوى .

أينما تلفت حولك ، تجد حصارا إعلاميا وثقافيا ، بالمسلسلات الهابطة ، والبرامج التي تنتهك أخلاق المجتمع وقيمه وحرمته ، وتسيل فيها الألفاظ العارية ، والحكايات التي لا تليق بمنابر يفترض أن تكون راقية وسامية ، وبعيدة عن الإسفاف والابتذال .

ولا ريب أن تجار المسلسلات والبرامج وأصحاب القنوات يهدرون كل قيمة طيبة من أجل الإعلانات وأموالها التي تدخل إلى جيوبهم ، فلا يبالون بقيمة ، ولا خلق ، ولا فضيلة ..

ثم إن هناك بعض تجار المسلسلات ، اكتفوا بالأموال الكثيرة  التي تدفعها إليهم السلطة البوليسية الفاشية ،بطريقة غير مباشرة ؛ من عرق  الشعب البائس المسكين ، وذلك لتشويه التاريخ الإسلامي ،  أو إلغائه ، أو خدمة مخططات إجرامية ، تصنعها دول الشر الكبرى المتربصة بالإسلام والمسلمين .

ومن شياطين الإنس من يروجون للسهرات والحفلات الماجنة في الفنادق الكبرى ، والذين يفتحون المقاهي والمطاعم في نهار رمضان ، دون مراعاة لشعور ، أو خوفا من الله ، بالإضافة إلى ما يطلقون عليه اسم " الخيام الرمضانية " ،واستمرار المصايف على شواطئ العراة والذين يكسبون بلا جهد ولا عرق،  وبالطبع لا تنتظر من هذه السهرات أو تلك الحفلات والسلوكيات  ، أثرا لشهر رمضان ، أو تتوقع أن يتذكر أحدهم صوما او صلاة أو قياما أو زكاة أو تكافلا . إنهم مردة الإنس الذين لم تغل فيه جوارحهم ، وشهواتهم ..

والحمد لله رب العالمين ، فإن التيار الاجتماعي العام ، يرفض هذه الممارسات الشيطانية ، ويكرهها ، ويحاصرها ، ولا شك أن هذا التيار سيقضي عليها في يوم ما بإذنه تعالى ,

إن النفس البشرية تعشق الطهارة والنضارة ، وهي إلى ربها أقرب ، وإلى الخير أميل ، وإلى الصالحات أسرع ، ولذا فإن رمضان هو ربيع الشعوب ، وهو الحصن الذي يجمعها في الصيام والقيام ، ويدفعها إلى التكافل والتراحم ، ومطاردة شياطين الإنس .