المرأة المصرية .. بين قاسم أمين وفتحي نجيب
المرأة المصرية ..
بين قاسم أمين وفتحي نجيب
القاضي الدكتور خالد القاضي
قرابة مائة عام تفصل بين رجلين مصريين يشكلان عتبتين فارقتين في نضال المرأة المصرية نحو الذود عن حقوقها العادلة ، ومطالبها المشروعة ، وإعطائها فرصًا متساوية مع الرجل في حركة المجتمع : الأول هو قاسم أمين الذي كان قاضيًا وكاتبًا وأديبًا ومصلحًا اجتماعيًا وزعيمًا للحركة النسائية حتى أوائل القرن الماضي حيث وافته المنية في شهر إبريل عام 1908 ، والآخر هو فتحي نجيب الذي كان كذلك قاضيًا ومفكرًا وكاتبًا وساعيًا لإصلاح الأوضاع الاجتماعية للمرأة حتى أوائل هذا القرن ، إذ باغته الموت في شهر أغسطس عام 2003 ، أي منذ سبع سنوات خلت.
وكلا الرجلين امتاز باستقلال الفكر ، ونصاعة الرأي ، وصفاء الذهن ، وسعَة الخيال ، وقوة الإرادة ، وقطعية الحُجة ، وكان كلا منهما من مولع بعلوم القانون والاجتماع والفلسفة والتاريخ ، و لا أجاوز الحقيقة في شئ أن كلا منهما كان يكمل الآخر ، مثال ذلك أنه ولئن كانت القيمة الكبرى للكتاب الأشهر لقاسم أمين " تحرير المرأة " هو ما طالب به من تعليم للمرأة حتي سن الابتدائي أو تعديل بعض قوانين الزواج بحيث يتم تقييد حق الرجل في تطليق زوجته وتشريد الأسرة ، إلا أن ذروة سنام ذلك الكتاب تتبدى جليًا في تحليله الجريء والجديد لطبيعة العلاقة بين المرأة والرجل ، وذلك في تبيان ما كانت تعانيه تلك العلاقة من استقرار مزيف !
هذا ما نبه إليه قاسم أمين ، وهو ذاته ما فطن إليه فتحي نجيب من ذلك الاستقرار المزيف للعلاقة الزوجية ، فولّى جهوده الدؤوبة – إبان عمله مساعدًا لوزير العدل لشئون لتشريع – شطر استحداث حق المرأة في طلب الخلع وإنهاء حياة زوجية تتسم بهذا الاستقرار المزيف ، فصدر القانون رقم ( 1 ) لسنة 2000 بتنظيم بعض أوضاع وإجراءات التقاضى في مسائل الأحوال الشخصية ، و قد قضت المادة ( 20 ) منه بأن :" للزوجين أن يتراضيا فيما بينهما على الخلع ، فإن لم يتراضيا عليه وأقامت الزوجة دعواها بطلبه وافتدت نفسها وخالعت زوجها بالتنازل عن جميع حقوقها المالية و الشرعية وردت عليه الصداق الذى أعطاه لها ، حكمت المحكمة بتطليقها عليه" .
وفي أحد لقاءاتي مع المرحوم المستشار الدكتور فتحي نجيب قصّ لى واقعة تعود أحداثها إلي عام1979 وقد كان وقتها – رحمه الله – قاضيًا بمحكمة دمنهور للأحوال الشخصية - عندما جاءته سيدة من إحدي قري دمنهورتشكو إليه زوجها ، وحاصل شكايتها أن هذا الزوج لا ينفق لا عليها ولا على أبنائه ، وأنها لا تملك حتى نفقات العودة إلى قريتها !! واحتار الرجل - القاضي الذى يحكم بنصوص القانون القائم - لأمر تلك المرأة الضعيفة المغلوبة على أمرها ، ووقف عاجزًا عن القضاء لها إذ لا مناص لها من العودة لمنزلها والرضا بهذا الهوان وذاك الاستقرار المزيف ، وما كان منه إلا أن أعطاها مالاً من جيبه الخاص يُعينها على العودة لمسكن الزوجية ، والبقاء فيه ذليلة مهانة !! وظلت تلك الواقعة تؤرق مضجعه ، حتى حانت فرصة تخويل المرأة حق إنهاء العلاقة الزوجية متى استحالت تلك العلاقة عن الاستمرار كما ارتضاها طرفاها. ومن بعد أصدر كتابه – إبان رئاسته لمحكمة النقض ولمجلس القضاء الأعلى – عام 2001 شارحًا ومفسرًا ومفندًا ومحللاً أحكام هذا القانون ، وشاركه في تأليفه الزميل المستشار محمود غنيم نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا الآن.
ولئن كانت دعوة قاسم أمين منذ نيف ومائة عام لتحرير المرأة قد قوبلت بهجوم شرس ورفض حاسم ، وكانت سببًا في إخفاقات وإحباطات جمة أخمدت جذوتها في حينها ،فقد وجد فتحى نجيب البيئة القانونية والفكرية والثقافية الملائمة لترجمة أفكاره ورؤاه بما تتواكب مع ما تصبو المرأة إلى تحقيقه ، فكان عضوًا في أول تشكيل للمجلس القومي للمرأة عام 2000 ، ذلك المجلس الذي أنشئ بقرار جمهوري تكون له الشخصية الاعتبارية و يتبع السيد رئيس الجمهورية ، وترأسه السيدة الفاضلة سوزان مبارك، والذي يعد البوتقة الفعالة التي تنصهر فيها آمال المرأة وطموحاتها المشروعة في تمكينها اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا وقانونيًا وبرلمانيا ؛ فهو يختص بوضع مشروع لخطة قومية للنهوض بالمرأة وحل مشكلاتها واقتراح السياسة العامة للمجتمع ومؤسساته الدستورية فى مجال تنمية شئون المرأة، وإبداء الرأي فى مشروعات القوانين المتعلقة بالمرأة، والتوصية باقتراح مشروعات للقوانين والقرارات التى تلزم للنهوض بأوضاع المرأة وغيرها ، وتشهد محاضر جلسات هذا المجلس أن أراء فتحي نجيب كانت علي مستوي أحكامه في عُمق التحليل وبُعد الرؤية إلى حد الإجماع على مواقفه العملية الداعمة للمرأة ، وليس أدل على ذلك من تعيين المستشارة تهاني الجبالي كأول قاضية مصرية تجلس على منصة المحكمة الدستورية العليا وقت أن كان – رحمه الله – رئيسًا لتلك المحكمة .
ومن عجائب القدر أن كلا من قاسم أمين وفتحى نجيب لم ير بعيني رأسه حصاد ما غرسه وثمار ما زرعه فقد غافل الموت الأول ولم يتجاوز عمره خمسًا وأربعين عامًا والآخر وهو في الخامسة والستين ، وإنما كانت دعوة كليهما لتحرير المرأة ومنحها حقوقها الدستورية والقانونية بمثابة الوقود الدافق الذي ألهب حماسة المرأة المصرية فطفقت تحقق كيانها ومكانتها في المجتمع المصري ، فقد تبرعت الأميرة فاطمة بنت الخديوي إسماعيل بأرض كانت تملكها لإقامة مبنى للجامعة الأهلية (القاهرة الآن)، كماحرصت المرأة المصرية على المشاركة في المؤتمرات السياسية داخل مصر وخارجها، حيث حضرت السيدة انشراح شوقي مؤتمر بروكسل عام 1910 ، وشاركت هدى شعراوي في المؤتمر النسائي الدولي بروما سنة 1923 ، وفي عام 1928 التحقت المرأة بالجامعة المصرية ، وبعد قيام ثورة 23 يوليو عام 1952 ترسخ مفهوم مشاركة المرأة في كافة مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، فقد حصلت على حق الانتخاب والترشيح ودخلت البرلمان وتقلدت الوزارة ، وشاركت في الحياة الحزبية والنقابات العمالية والمهنية والمنظمات غير الحكومية ، وتقلدت الوظائف العليا في مختلف مجالاتها ، كما عُيّنت المرأة قاضية في المحاكم الابتدائية والاستئناف و مؤخرًا تم تعيينها رئيس جامعة و مأذونة ورئيس حي وغيرها.
ويموت الرجل فيبكيه الأهل ويندبه النساء ، ولكن قاسم أمين وفتحي نجيب أبكيا عظماء الرجال وأقدرهم على التجلد والاحتمال ، فكلاهما كان حالة استثنائية في حياة الوطن ... الأول قرأتُ عنه مليّا ، والآخر تتلمذتُ على يديه علميًا وقضائيًا وإنسانيًا ، رحمة الله على كل منهما وأسكنه فسيح جناته .