كنت معهم في الأسر

ثامر سباعنه

سجن مجدو  -  فلسطين

[email protected]

قدّر الله سبحانه وتعالى لي أن ألتقي خلال فترة وجودي في السجون الصهيونية بكوكبة مميزة من رجالات هذا الوطن الكبير وقادته، كوكبة من بُناة هذا الوطن وحُماته، كوكبة من ممثلي الشرعية الفلسطينية من وزراء وأعضاء في المجلس التشريعي ورؤساء وأعضاء مجالس محلية وبلديات وجمعيات خيرية ومؤسسات مجتمع مدني، حيث كنت أراهم سابقا عبر شاشات التلفاز ببدلاتهم الرسميه ووسط الإجراءات الحكومية والبروتوكولية، لكن الرؤية هذه المرة تختلف كلياً حيث التعامل معهم عن قرب والعيش معهم وبينهم وسط ظروف غاية في القسوة والشدة، لقد جمعني بهم ألم القيد وظلم وغطرسة السجان ومرارة السجن، ظروف تكشف عن معادن الرجال وأنت تعيش معهم على مدار الساعة تتعرف إليهم مع كل يوم جديد أكثر وأكثر وأنت في هذه الظروف اقرب إلى حياتهم وواقعهم وسرائرهم.

بالرغم من  قسوة الأسر وصعوبة حياة السجن، تجد رجال قد وطَّنت نفوسها على كل الظروف والأحوال، فبالأمس بدلة وربطة عنق، ومقعد تحت قبة البرلمان أو في مجلس الوزراء أو في ردهات الفنادق وقاعات الاجتماعات، أو في أحد استوديوهات الفضائيات، واليوم ملابس السجن الخشنة  (ملابس الشاباص ) بلونها البني والنوم على البرش (مكان نوم الأسير)، وجدران نخرتها الرطوبة، وأرضيات ومرافق تفوح منها الروائح الكريهة وفورة وقيود حديدية، يعيشون حياتهم، وتراهم صابرين صامدين محتسبين الأجر والثواب عند الله سبحانه وتعالى، فلا تسمع على السنتهم شكوى وتألم أو كلمة ضجر وتأفف، إنما ألسنة تلهج بالدعاء وذكر الله سبحانه وتعالى، حيث أنهم بأفعالهم وممارساتهم  وبمواقفهم يجسدون قدوات لمن حولهم، فلا يتوان أحدهم عن المسارعة إلى رفع معنويات بقيه الأسرى ومن كل الفصائل الفلسطينية، حيث الدعوة للصبر والثبات والتحمل ومراغمة أعداء الله، حتى ودون أن تسمع منهم ما يصبرك ويثبتك يكفيك أن ترى الشيخ حامد البيتاوي  وقد تجاوز عمره السبعين يتعالى على آلام القيد والجسد فيبعث الروح والحيوية في نفوس الشباب وهو يشجعهم على ممارسة الرياضة الصباحية ويشاركهم بعض التمارين من أجل تشجيعهم، كما أن ذلك لم يُنسه دوره كداعيه حتى في السجن يناقش من يتكلم العربية من الجنود الصهاينة وهم ينقلوه مكبل اليدين إلى العيادة الصحية يوميا لأخذ حقنة الأنسولين، بل ويحذرهم  من عقاب الآخرة إذا لم يلحق الواحد نفسه ويعتنق الإسلام وينطق بالشهادتين قبل أن يأتيه اجله المحتوم، أما  رئيس الشرعية الفلسطينية ورمزها الدكتور عزيز الدويك وهو العقلية الأكاديمية أيضاً حيث أنه محاضراً في جامعة النجاح الوطنية، فإن تلك المكانة المجتمعية والمواقع الرسمية قد جعلت منه شخصية أكثر تواضعاً، وقرباً وحباً لأخوانه الأسرى وخاصة الشباب منهم حيث يمازح الجميع ويرفع من معنويات الجميع ويجلس ويتحدث مع الجميع، وقد تراه يحمل قطعة حلوى أو بسكويت يقدمها للشباب بروح طاهرة وبريئة، وحنان متدفق يغمر كل الأسرى من كل الفصائل الفلسطينية، أما قمة التواضع والسعي في حاجة الأسرى وروعة المبادرة إلى خدمة الأسرى فقد جسده  رئيس بلديه نابلس المهندس عدلي يعيش، وتجلى ذلك من خلال ذلك الحب الذي يكنه الجميع للحاج عدلي الذي كان على وشك إنهاء عقده السادس من عمره المديد والمبارك،  هذا الرجل الذي عرفته نابلس ومخيماتها وقراها وريفها بل عرفته كل فلسطين بمواقفه الوطنية والوحدوية وبإدارته، وكرمه ومساعدته للمحتاج تتجلى خصاله وتواضعه فتراه  يبادر للعمل مهما كان ذلك العمل فتجده يطبخ ويكنس ويغسل أواني الطبخ والصحون دون تردد، أما عضو المجلس التشريعي الأستاذ حسني البوريني " أبو أنس " إبن عصيرة الشمالية وبالرغم من أن المرض قد أعياه إلا أنه كان يأبى أن يجلس طوال الوقت على الكرسي خلال فترة الانتظار في ملحق الانتظار التابع للعيادة حيث يتم تجميع المراجعين في غرفة من الزينكو فيها عدد محدود من المقاعد لا يكفي لنصف من يتم تجميعهم من المرضى،  فيصر أن يجلس أسير آخر مكانه بالرغم من صغر سنه من المرضى ويتحامل على نفسه مقابل راحة إخوانه من الأسرى بغض النظر عن ألوانهم وانتماءاتهم التنظيمية، أما خادم الأسرى ووزيرهم المهندس وصفي قبها وقد أصبح أسيراً يشاركهم ألم القيد وهو الذي جاء اصلاً من رحم معاناة السجون وقيودها، حيث كان الأسرى يمازحونه قائلين:  وزيرنا في زيارة ميدانية لإخوانه وأبنائه الأسرى، حيث لا زلت اذكر كيف أن الدموع قد انتصرت علينا جميعاً وسالت عندما إلتقى وتقابل مع شقيقه الأسير  الدكتور أمجد قبها الذي لم يرى أي منهم الآخر  يومها منذ  اكثر من سبع سنوات، كما ولا زلت أذكر كيف وقف النائبان الدكتور عمر عبد الرازق والمهندس عبدالرحمن زيدان مع إخوانهم الأسرى في وجه إدارة السجون الصهيونيه حيث رفض الجميع بنقل الشيخ حامد البيتاوي إلى الزنازين، وسمعت أصوات التهديد بحرق السجن إذا أقدمت إدارة القمع على ذلك، فما كان من إدارة السجن إلا قمع أكثر من عشرين أسيراً مجاهداً  وتفريقهم على الأقسام المختلفة والسجون الأخرى، أما رئيس بلدية جنين الدكتور حاتم جرار ما أن يسمع عن أسير يشكو مرضاً أو شعر بضعف حتى تراه يجلس إلى جانبه يستمع إليه ويرشده ويصف له ما يمكن أن يسكن ويخفف من آلامه، وهو صاحب الإبتسامة والنكتة والروح المرحة التي حظيت بحب كل الأسرى، أما إن أردت أن تشعر بالخشوع أكثر وتُشَنِّف أذنيك فما عليك إلا أن تستمع إلى النائب الأستاذ خالد سعيد يحيى وهو يرتل ويجود القرآن بصوته الندي الذي يدخل إلى القلوب من دون حواجز ويبعث على الراحة والطمأنينة بالنفوس وهو الذي يتألق على الدوام بمواعظه وخطبه يوم الجمعة،  لقد رأيت أعضاء التشريعي يتسابقون لخدمة إخوانهم الأسرى، فهذا الشيخ فتحي القرعاوي، والشيخ داود أبو سير، يتسابقون لتوزيع الطعام وغسل الصحون بعد الانتهاء من تناول الطعام، لقد سمعت ورايت الكثير،  الكثير عن رموز الشعب الفلسطيني وقادته من ممثلي الشرعية الفلسطينية الذين استهدفهم الاحتلال بالاختطاف والتغييب خلف قضبان سجونه في محاولة فاشلة منه لكسر إرادة ممثلي الشعب وإخضاعهم لشروطه وشروط الرباعية الدولية، ولكن أنّى له ذلك وهذه النماذج تسطر صفحات فريدة من الانتماء والعطاء والإخلاص والتضحية من أجل فلسطين وشعبها ومقدساتها، هؤلاء النماذج الذي عشت معهم وعايشتهم  يطول بي الحديث عنهم، فرغم رغم القيد والحرمان إلا انك تجدهم قريبين من همّ الشعب وهم خير من يعبر عن آلام وآمال شعبهم، يتابعون أخباره بترقب وانتظار وتحليل، يضعون الحلول والاقتراحات التي – من وجهة نظرهم – تفيد قضية فلسطين وتخفف عن شعبها، فهم كالطبيب الخبير الذي يفحص جسد المريض بحرص تام يقوم بتشخيص المرض، ليجد له السبيل المناسب ويعطيه العلاج الأنجع  للشفاء بعون الله، هم بالرغم من الأسر ومنعهم من القيام بدورهم الذي انتخبوا لأجله، إلا أنهم لا يزالون يحملون عبء  تلك الامانه ولا يفرطون بها رغم قيدهم.

إن كبر أعمارهم وكبر مكانتهم لم تمنعهم من  التواضع ولين القلب لإخوانهم، تجدهم يسارعون  في العطاء والبذل، لا يترددون في خدمة إخوانهم الأسرى، بل تجد أيديهم أول الأيدي المتحركة للعمل، هم فعلا استحقوا تلك المكانة في هذا الشعب، فهم لم يجيئوا للجلوس على الكراسي واستلام المناصب ...إنما جاؤوا للتضحية والعمل والبناء حيثما كانوا ووجدوا، حتى في السجون .

إنها حكاية في الصمود والعطاء والتضحيات  يرويها ويجسدها  هؤلاء القادة الأبطال بعزائمهم التي تنير الظلام وتطلق فيه شهبا من الأمل القادم لفلسطين، فهم القوم الذين رست فيهم العزة وجرت مجرى الدم في العروق، وإن قيدت السلاسل معاصمهم البيضاء ستبقى أرواحهم محلّقة في سماء المجد .. ..  وتطول القائمة وتطول ولا يتسع المجال للتعبير، فهنيئا لهذا الشعب بهؤلاء الرجال.