الأستاذ علي صدر الدين البيانوني

د. منير محمد الغضبان

قيادة تاريخية

علي صدر الدين البيانوني

د. منير محمد الغضبان

[email protected]

أكتب هذا ونحن نودّع الأخ الحبيب أبا أنس ونسلّم الأخ الحبيب أبا حازم رياض الشقفة الراية لمتابعة المسيرة، ونبارك له قيادته للمرحلة القادمة.

أجدني مساقاً لأستعيد حقبة تاريخية عشناها مع الأستاذ البيانوني وبجواره مع وافر احترامي وتقديري لكل قيادات الجماعة، فأحسّ أن الرائد الأول الدكتور مصطفى السباعي، وخلفه الأستاذ عصام العطار والأستاذ علي صدر الدين البيانوني، قد تجاوزوا الإطار المحلّي ليتصدّروا موقعهم بين القيادات التاريخية للجماعة وللأمّة.

فقد أمضى الأستاذ البيانوني عمره كلّه في صفّ الإخوان المسلمين جندياً وقدّمه إخوانه إلى مواقع قيادية متدرّجة، وانتهى المسار به قائداً للجماعة لعشر سنوات صعبة أثبت فيها كفاءته التي يعترف بها إخوانه القريبون منه والبعيدون عنه.

1- وكانت أول انطلاقة خارج هذه الأطر هي دعوة طبقة السياسيين والمثقفين في الأردن لشرح القضيّة السورية في بعدها الإنساني، ولقي هذا اللقاء قبولاً وترحيباً دون أن يحرج أحد، وقامت فيه جهود مكثّفة من الجماعة في عرض الجانب الإنساني الذي يلقاه الشعب السوري عامّة والإخوان المسلمون خاصة من ظلم وتشريد وسجن وقيد على الحرّيات.

2- وكانت الخطوة الثانية هي في التركيز على الجانب الإعلامي والسياسي من الصراع مع النظام السوري، وأنه ليس صراعاً عقائدياً بمقدار ما هو صراع ضد الظلم والطغيان الجاثم على الأمّة من خلال حكم الحزب الواحد، والذي ينصّ دستوره في المادة الثامنة منه على أنّ حزب البعث العربي الاشتراكي هو القائد للدولة والمجتمع، فهو نظام شمولي يختصر الأمّة كلّها في حزب واحد، فهو صراع بين شعب مضطهد وحاكم مستبدّ.

ولتحقيق هذا الهدف تأسّست أول مؤسّسة إعلامية رسميّة يدعمها الإخوان المسلمون دون أن تكون ناطقة باسمهم.

أحرص على عرض عنصر المبادرة التي تقوم على هدف واضح والتي مثّلها الأستاذ البيانوني، بعد أن كان ردّ الفعل هو الذي يحكم سياسة الجماعة.

وبدأت الاتصالات من خلالها بالشخصيات السورية المعارضة، لتكون منبراً للتعبير عن رأيهم.

3- ولكي يأخذ هذا الصراع البعد الإنساني المطلوب تمّ الانفتاح على جمعيات حقوق الإنسان للوصول إلى لجنة سورية لحقوق الإنسان تختصّ بمعاناة الشعب السوري، وبرزت لجنة مستقلّة سورية لا تحمل البعد الحزبي، ولا الطائفي، فاستفاد الإخوان المسلمون السوريون منها لتكون منبراً لعرض المعاناة للشعب السوري كافة.

4- في ظلّ قيادة الأستاذ البيانوني أمكن تشكيل لجنة لوضع خطّة علمية عشرية للجماعة تحدّد الأهداف والوسائل واضحة يمكن قياسها وتحليلها دون أن تكون كلمات إنشائية مبهمة.

ووضعت ثلاث مشاريع خطط، دعي لمناقشتها ما لا يقل عن أربعين أخاً من مفكّري الجماعة، حيث تمّ وضع الخطّة العامة للجماعة من هذه الخطط الثلاث، وتمّ تحديد الهدف خلال هذه المرحلة بـ(العمل لاستئناف الجماعة دورها الفاعل على الساحة السورية).

وأقرّ مجلس شورى الجماعة الخطّة، وأصبح العمل الإخواني واضح المعالم، فأصبحت سورية هي الهدف، وأصبح العمل في الداخل السوري وفي الخارج هو موضع اهتمام واتّجاه الجماعة.

5- وبدأ الظهور الإعلامي لقيادات الإخوان المسلمين، حيث كان نقطة الاتصال الكبرى مع شعبنا السوري، وصار يعرف الجماعة تاريخاً وهدفاً ومستقبلاً وتحرّكت الحياة الراكدة، ليصبح الحديث عن الجماعة واضحاً في معظم القنوات والإذاعات، وذلك منذ اللقاء التاريخي الأوّل على قناة الجزيرة الذي كان معلماً من معالم الحركة المقبلة للأستاذ البيانوني.

6- وكانت المرحلة الجديدة من تاريخ سورية بعد وفاة الأسد واستلام ابنه بشار للسلطة، ورغم اعتراض الجماعة على طريقة وصول بشار إلى السلطة، إلا أنّهم حاولوا أن يفتحوا صفحة جديدة معه، حيث لم يكن جزءاً من الصراع الدامي المجرم ضدّ الإخوان المسلمين، وتحرّك أمل ضعيف من خلال خطاب استلام السلطة في الحديث عن الحرّية، وكان ربيع دمشق الذي فتح المجال لتنفّس الشعب السوري المختنق.

وبرزت المنتديات التي يتكلّم الناس فيها صراحة، وينتقدون ولا يخافون السجن أو الموت، ممّا شجّعهم على ذلك، ما صرّح به الرئيس أنّ لأجهزة الأمن أن تراقب وليس لها أن تمنع.

وكان الإعلان الأوّل في بيان التسع والتسعين ثم بيان الألف.

7- وأقف هنا لأتحدّث عن انتقال الجماعة إلى مرحلة جديدة بجهود الأستاذ البيانوني وإخوانه، وهي انتقال مطالب الإخوان المسلمين من النظام إلى مطالب للشعب السوري كلّه، من خلال بيان التسع والتسعين وبيان الألف، وتحوّل الأمر من صراع دامٍ بين طائفتين من الشعب السوري إلى صراع بين الشعب السوري بكافّة أطيافه ضدّ الظلم والاستبداد وإعادة الحرّية للشعب المكبّل، ولم يعد للإخوان المسلمين مطالب خاصة فقد تكفّلت المعارضة غير الإسلامية بكلّ أطيافها، بالمطالبة بإلغاء القانون 49، الذي يحكم بالإعدام على كلّ من ينتمي للإخوان المسلمين، وإلغاء حالة الطوارئ وتبييض السجون، والدعوة إلى انتخابات حرّة نزيهة.

8- وبقيادة البيانوني تمّت مبادرة الإخوان إلى الشعب السوري والذي أعلن فيه ميثاقه على الشعب لكي يتوحّد كلّه في المطالبة بالحرّيات، تحت عنوان ميثاق الشرف الوطني، واستجاب العديد من الشخصيات السورية المعارضة لهذا النداء، وتمّ عقد المؤتمر الذي صدر عنه الميثاق الوطني من كلّ الأطياف (ليكون عتبة للحياة السياسية السورية في طموح عودة العافية للوطن والكرامة للمواطن في جمهورية وديمقراطية تعيد السيادة للشعب وحق المشاركة لكلّ إنسان في ظلّ روح التسامح والحوار والتعاون على نهضة الوطن وتحرير أرضه).

والتي التقى فيه هؤلاء مع الإخوان المسلمين في توصيف حالة الاستبداد السياسي بـ(غياب الديمقراطية واستمرار قانون الطوارئ والأحكام العرفية ما يقرب من أربعين عاماً واحتكار السلطة، وفرض الوصاية على الشعب وقواه الحيّة، قد جسّدت حالاً من القهر والظلم والاستئثار بالقرار الوطني وتغييب الآخر وإقصائه وإلغائه. أدّى إلى انهيار شامل تمثّل في ضياع الجولان وضرب قيم السيادة الشعبية والمواطنة وتغييب الحوار وصيرورة الفساد منظومة معمّمة وغياب الشرعية السياسية).

9- وفي عهد الأستاذ البيانوني تمّت تظاهرة كبرى في الداخل السوري، حيث ألقيت كلمة الأستاذ البيانوني في منتدى الأتاسي، وتحدّث الإعلام عن البيانوني في دمشق وكلمته التي ألقاها عنه الأستاذ علي العبد الله، ممّا أقضّ مضجع السلطة في سورية، فقاموا بإغلاق المنتدى واعتقال الأستاذ الذي ألقى الكلمة.

ولم ينته الأمر إلا بأكبر تظاهرة على الإطلاق بين أربعة عشر حزباً معارضاً، إضافة إلى شخصيات مستقلّة، وكان الإخوان المسلمون من أوّل الموقعين على إعلان دمشق. والذي أعلن في العاصمة السورية، وجنّ جنون السلطة، واعتقلت المعلنين وكسرت الكاميرات، لكن الذي فات فات.

وجاء إعلان دمشق بمثابة دستور شامل لتوافقات قوى المعارضة في كلّ مكان، من حيث الأفكار والمنطلقات والأهداف التي يطمح شعبنا إليها، ومن حيث الوسائل والأساليب المعلنة في التغيير، فأهمّ ما ورد في المنطلقات والأهداف:

(اعتماد الديمقراطية وبناء الدولة الحديثة والتوجّه إلى جميع مكوّنات الشعب السوري وإلى جميع تيّاراته الفكرية وطبقاته الاجتماعية، وعلى رأسها الإسلام الذي هو دين الأكثرية، الذي يعتبر المكوّن الثقافي الأبرز في حياة الأمّة والشعب والذي تشكّلت حضارتنا العربية في إطار قيمه وأفكاره وأخلاقه، وإيجاد حلّ للقضية الكردية، والالتزام بسلامة المتحدي الوطني السوري، وإلغاء كلّ أشكال الاستثناءات من الحياة العامة مثل قانون الطوارئ والأحكام العرفية وجميع القوانين ذات العلاقة بها مثل قانون 49، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، وعودة جميع الملاحقين والمنفيين قسراً أو طوعاً عودة كريمة آمنة، وإطلاق الحرّيات العامّة وضمان حقّ العمل السياسي لجميع مكوّنات الشعب السوري على اختلاف الانتماءات الدينية والقومية والاجتماعية، والتأكيد على انضمام سورية إلى المنظومة العربية التي تؤدي بالأمة إلى طريق التوحّد والالتزام بجميع المعاهدات والمواثيق الدولية وشرعة حقوق الإنسان).

كان ذلك في السادس عشر من تشرين الأول عام 2005.

10- وعلى أثر إعلان دمشق تمّت تداعيات كبرى في النظام السوري، حيث تمّ انتحار غازي كنعان الذي غدا المركز الثاني من مراكز القوى في السلطة، وأشارت أصابع الاتهام للنظام السوري من المحكمة الدولية في قتل الحريري رئيس وزراء لبنان وتوّج ذلك بانشقاق عبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية، وإعلانه الحرب ضد النظام حتى يسقط، وقام الإخوان المسلمون بأخذ زمام المبادرة، وتكوين جبهة الخلاص مع الأستاذ عبد الحليم خدام ليكون حافزاً لانشقاق قوى أخرى عن النظام السوري ومن داخله. وكانت تجربة جبهة الخلاص مثار خلاف في صفوف القواعد وكانت مؤسّسات الجماعة تدرس سلبيات وإيجابيات الاستمرار في هذه الجبهة إلى أن رأت أنّ الانسحاب منها يحقّق دفع مضرّة، ودفع المضرّة مقدّم على جلب المنفعة.

وبغضّ النظر عن الاختلاف في الرّأي فقد كان البيانوني شجاعاً في الدخول في هذا التحالف بعد أن أيّدته أكثرية الجماعة فيه، وكان شجاعاً في الخروج منها بعد أن أيّدته أكثرية الجماعة فيه.

وكانت عبقريته تتجلّى في ثلاثة أمور:

1- قدرته أن يوحّد كلّ قوى الجماعة خاصّة الفريق الذي يعمل معه لهدف واحد هو نقل دور الجماعة الفاعل إلى الداخل السوري، وكان له من المهابة والاحترام ما يساعده على أن تخضع الأعناق له، وإصرار الجماعة عليه لثلاث دورات متتالية.

2- قدرته الديناميكية الحركية، وسرعة المبادرة، والحرص على الاستشارة للمؤسسات بحيث يحافظ دائماً على المشروعية الإدارية، البعيدة عن الاستبداد والاستئثار بالرأي من دون الآخرين لكن سحر شخصيته وقدرته على إقناع الآخرين جعله قادراً على تحقيق الأهداف المطلوبة.

3- استعداده للرضوخ إلى قرار المؤسسات في الجماعة والقدرة النفسية على تغيير الرأي للمصلحة دون تعصّب مقيت لرأيه واحترامه لإخوانه جميعاً، وحرصه على البلورة الشرعية الإسلامية للمواقف.

11- ولا ننسى وراء ذلك أكبر مشروع سياسي تقدّمت به جماعة الإخوان المسلمين في سورية إلى العالم الذي يحدّد نظرتهم إلى مستقبل سورية المنشود، والتي شاركت كلّ أطياف مفكّري الجماعة فيه، واستغرق من الزمن ما يقرب من عشر سنوات، ليتمّ تعديل كلّ فقراته من قبل فقهاء الجماعة ومفكّريها، وشعرت الحركة الإسلامية في العالم أنّ النضج السياسي الذي وصل له الإخوان المسلمون قد بلغ ذروته من خلال المشروع السياسي للجماعة والذي قرظه قيادات الجماعات الإسلامية في العالم. أمثال الدكتور القرضاوي والشيخ العالم الكبير فيصل مولوي، وأمير الجماعة في تونس راشد الغنوشي، وأمير الجماعة في الجزائر أبو جرّة سلطاني وأمثالهم.

12- كما لا بدّ أن نشير إلى شخصية البيانوني التي تملك القدرة على العمل في جميع الاتجاهات في وقت واحد مع القيادات الإخوانية المحلّية والعالمية، المعارضة والمؤيّدة، ومع قواعد إخوانه الذين كان يتّصل بهم في كلّ شهر من خلال رسالته الشهرية لهم، وقد استفاد من خبرة أخيه القائد عصام العطار أجلّ الفائدة. وصلاته بكلّ أطياف المعارضة دون أن يكون شيء على حساب شيء، والعلاقات الدولية، والمؤتمرات الصحفية والظهور المستمرّ على القنوات الفضائية، والمشاركة في كلّ نشاط بصورة متوازية بلا طغيان جانب على آخر، لقد كان أخوه أبو الطيّب يحمل عبئاً كبيراً عنه في المجال السياسي والبروز الإعلامي وكان نائباه أبا بشير وأبا حسّان يحملان أعباء الداخل والخارج معه، وبقية إخوانه في القيادة وفي مجلس الشورى.

ولا شكّ أن إخوانه الذين سبقوه في القيادة الدكتور حسن هويدي والأخ عدنان سعد الدين والشيخ عبد الفتاح أبي غدة رحمهم الله، ذلّلوا الأمور له قبل وصوله إلى موقع القيادة فلهم وافر الشكر والتقدير.

13- لقد حقّق كل هذا بعون إخوانه له نقلة ضخمة للجماعة من الانزواء والانكفاء على الذات إلى الصدارة في المجتمع والمعارضة السورية، بحيث أضحى الجميع يشعرون أنّ قطب الرّحى هم الإخوان المسلمون في المعارضة ومع ذلك فلا ضير عنده أبداً من الاشتراك مع كلّ الأطياف إذا اقتضت المصلحة ذلك.

وأعود لأقرّر وجهة نظر قد يشاركني فيها البعض من إخواني ويعارضني الآخر. أنّ الأستاذ الدكتور السباعي رحمه الله هو القائد المؤسّس، والعلم الأعلى في سورية وعلى مصاف الإمام الشهيد البنّا.

والأستاذ عصام العطار، الذي تمّ في عهده العهد الذهبي للجماعة من حيث حضورها على الساحة السياسية وتحكّمها في القرار السياسي في سورية، فهو أحد ثلاثة لا بد أن يوافقوا على إبرام القرار وهم العظم رئيس الوزراء والحوراني رئيس الكتلة الاشتراكية والعطار رئيس الكتلة الإسلامية.

والأستاذ البيانوني الذي أعاد للجماعة وجودها الفاعل على الساحة السورية والعربية والعالمية. حتى ليحمل عبء الوساطة بين السلطة والجماعة رؤساء دول ورؤساء وزارات، ووزراء خارجية، وقادة الجماعات الإسلامية في التنظيم العالمي.

ونسأل الله تعالى أن يتوّج هذا الجهد بإزالة الطغيان الجاثم على أرض سورية الحبيبة، ويعود الطائر المهاجر إلى وطنه.

ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم.