نحو إجازة ممتعة مفيدة

رامي بن أحمد ذو الغنى

ما إن هبَّ نسيمُ الصَّيف مُؤذِنًا باقتراب الإجازة حتَّى أسرعتُ إلى جدول أعمالي مُتفحِّصًا ومُتدبِّرًا؛ لأُعِدَّ بَرنامجًا متميِّزًا لأول عُطلة سأقضيها مع أهلي، بعد أشهُرٍ من الغربة مرَّت كأنَّها سنوات!

بدأتُ بترتيب الأولويَّات، وكتابة المهمَّات والمشروعات: مقالاتٌ يجب أن تُكتبَ، ومسائلُ ينبغي أن تبحثَ، وكتبٌ لا بدَّ من دراستها، ودوراتٌ تأهيليَّةٌ ضروريَّةٌ لا تحتمل التأخير، وبحوثٌ تنتظر التدقيقَ والتصحيح، وواجباتٌ أسريَّةٌ واجتماعيَّةٌ.. وما زلت أكتبُ وأكتبُ حتَّى سوَّدتُ صفحةً كاملةً دون أن يبقى فيها مِساحةٌ بيضاءُ للترفيه أو الاسترخاء.

ألقيتُ القلم من يدي، وابتسامةٌ ساخرةٌ قد ارتسمَتْ على شفتيَّ، يا لها من إجازةٍ حافلةٍ بالأعمال والأعباء! رحم الله أيام كنَّا طلابًا لا نُسألُ إلا عن نتائج الدراسة، نستقبلُ عطلةَ الصَّيف بالفرح لا بالهمّ، ونقضيها بالمتعة لا بالتعب والغمّ.

فإلى إخواني وطلاَّبي أُهديها نصيحةً من مُجرِّبٍ: أنْ اغتنموا أوقاتَكم، واستمتعوا بإجازتكم، وأطلقوها صيحةً مدوِّيةً: أهلاً بالصَّيف.

إنَّه والله نِعْمَ الضَّيف، فأحسنُوا استقباله، واستغلُّوا أيامه، واجعَلوه سببًا موصلاً إلى المعالي، "فإنَّ اللهَ يحبُّ معاليَ الأمورِ، ويكرَهُ سَفْسافَها".

فيا بؤسَ من يَهدُرُ إجازتَهُ بتافِه الأمور مُنحدِرًا في أودية الخَبال! وطوبى ونُعْمى لمن يُعمِلُ عقلَه، ويُلهِبُ هِمَّته؛ ليستمتعَ مرتقيًا نحو الكمال.

وحرصًا على طاقات الشباب أن تُهدَرَ، وعلى أوقاتهم أن تضيعَ، ولكي لا يكونَ للغافل أو المتغافل حجةٌ؛ أُقدِّم بعضَ النصائح ونحن على عتبة إجازة الصَّيف.

أولاً: أحسِنُوا التَّخطيطَ وحدِّدُوا الأهدافَ:

العبثيَّةُ والفوضويَّةُ والارتجالُ في الأعمال من أهمِّ أسباب الإخفاق في حياة المرء، وقد تفشَّت هذه الأدواءُ الثلاثةُ بين أبناء أُمَّتنا حتَّى صارت خُلُقًا مُتأصِّلاً، وطبعًا مُستَحْكِمًا، والعاقلُ الحَصيفُ يجاهد نفسَه ليُخرِجَها من ضيق العبثيَّة والارتجال إلى سَعَة التَّخطيط والتَّنظيم. فكم يشتكي الشبابُ من عدم اتِّساع أوقاتهم لإنجاز مشروعاتهم ونشاطاتهم، وكم يتذمَّرون من تراكُم الأعمال، وتزاحُم الواجبات، ولو أنَّهم نظَّموا أوقاتَهم، ورتَّبوا أعمالهم، وساروا على خُطَّةٍ واضحةٍ مفصَّلةٍ نحو أهدافٍ محدَّدةٍ لوجدوا أوقاتَ فراغٍ متطاولةً يستثمرونها بما يعودُ عليهم بالنفع.

وإجازة الصَّيف فرصةٌ مناسبةٌ ليتدرَّب أبناؤنا على حسن التَّخطيط؛ لذلك ينبغي لهم أن يُحدِّدوا منذ اليوم الأول أهدافَهم في كلِّ مجال سيخوضون فيه، وأن يحاولوا وضعَ الخُطَط الموصلة إلى تلك الأهداف، على أن يُقسِّموا الإجازةَ إلى مراحلَ، ويجعلوا لكلِّ مرحلةٍ خُطةً عمليَّةً وهدفًا مرحليًّا، وعند انتهاء كلِّ مرحلةٍ تجري محاسبةٌ للنفس وتقويمٌ للعمل؛ ليرى كلُّ واحدٍ مَدى قربه وبعده من هدفه، ومقدارَ التزامه بخُطَّته، ليتجنَّب في المرحلة المُقبِلة أخطاءه السابقة، ويضعَ الحلولَ للمشكلات والعَقَبات الطارئة، ولا بأسَ أن يستشيرَ أصحابَ الخبرة كلاًّ في مجاله واختصاصه؛ ليختصرَ على نفسه الطريقَ مستفيدًا من حكمتهم وتجرِبتهم، فلا حكيمَ إلا ذو تجرِبة.

ثانيًا: احْذَرُوا الإدمانَ الإلكترونيَّ:

حديث حدَّثَنيه أحدُ طلابي أصابني بالذهول، ودفعَني إلى كتابةِ هذه النصائح، فلم أكن أتوقَّع أنَّ من شبابنا من يقضي أمام الشَّاشة مُنهمِكًا في الألعاب الإلكترونيَّة عشرَ ساعاتٍ إلى خمسَ عشرةَ ساعةً يوميًّا، وباستقراء أحوالِ الكثيرين من أبناء الجيل الصاعد وجدتُ أنَّ البلاء قد عمَّ وطمَّ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.

إنَّها واللهِ لإحدى الكُبَر؛ أن يغفُلَ الأولياء عن خطر هذا الإدمان وآثاره السيِّئة في أبنائهم من الناحية العقليَّة والنفسيَّة والسلوكيَّة، وقد رَصَدَتْ كثيرٌ من الدراسات العلميَّة تلك الآثارَ والأخطارَ، وبيَّنتْها بالدليل القاطع، والبُرهان الساطع. فما على شبابنا ومن قَبْلِهِمُ الآباء والأمَّهات إلا أنْ يطَّلعوا عليها، ليُدركوا حقيقةَ الأمر، فيسلُكوا سُبُلَ الخلاص من هذا الشَّرِّ المُستَطير.

لقد سرقَتْ هذه الألعاب مِنَّا أبناءنا، واستحوَذَت على مشاعرهم وتفكيرهم واهتمامهم، وشغلتهم عن محيطهم الأسريِّ والاجتماعيِّ، بل شغلتهم عن أنفسهم أيضًا.

أذكر أنِّي تَلطَّفْتُ إلى أحد طلابي سائلاً عن سبب شُروده في أثناء الدَّرس، وقد كان في حالةٍ من الغياب الكامل وكأنَّه في عالمٍ آخرَ. فابتسم خَجِلاً، وقال: أستاذي، لقد قطعتُ أربعَ مراحلَ من لعبةٍ مثيرةٍ جدًّا، وكنتُ أفكِّر؛ كيف سأجتازُ المرحلةَ الخامسة؟!

وآخرُ أخبرني أنَّه لا يجتمعُ مع أسرته على طعام الغداء والعشاء، بل يأكلُ وحيدًا وهو مُتَسَمِّرٌ أمام الشَّاشة، وبين اللُّقمة واللُّقمة ينهمك في ضغط الأزرار!

وثالثٌ أعرفه، قد طَرَّ شاربُه، وتجاوز مرحلةَ اللعب، يدرس في جامعةٍ مرموقة، وينتمي إلى أسرة فاضلة رَفَدَتِ الأُمَّةَ بإخوانٍ له متميِّزين، كان يعاني فقرًا لغويًّا، وعجزًا تعبيريًّا، ومشكلةً حقيقيَّةً في التواصلِ الاجتماعيِّ! فحَصْتُ عن أسباب حالته الغريبة، فاكتشفتُ أنَّه من ضحايا الإدمانِ الإلكترونيِّ.

حدَّثني أخوه وهو من أخلص أصحابي، فقال:

لقد قضى أخي طفولتَه والسنواتِ الأولى من شبابه مأخوذًا بالألعاب الإلكترونيَّة، معتزلاً الحياةَ الاجتماعيَّة؛ إذ جُلُّ وقته كان يُمضيه أمام الشَّاشة، ولم نكن نتوقَّع أن يؤولَ حالُه إلى ما تراه، أسأل الله له العافية، وأحمَدُه سبحانه على نجاتي مما ابتلاه.

والعاقل من يتَّعظُ بغيره، فيهتدي في سيره، ويزنُ الأمورَ بميزانٍ عادلٍ من دون إفراط أو تفريط، والعاجزُ من يُتبِعُ نفسَه هواها، ويتمنَّى من بعد ذلك الأماني!

ثالثًا: لا تُهمِلُوا تثقيفَ اللِّسانِ:

إنَّ عزوفَ هذا الجيل عن القراءة الجادَّة المثمرة لهوَ من أكبر نُذُرِ الشَّرِّ الذي يلوح في أُفُقِ    مستقبلِ الأُمَّةِ الحضاريِّ، وإنَّ من أهمِّ أسباب هذا العزوف تلك الوَحشَةَ التي يجدُها أبناؤنا من اللُّغة العربيَّة، حتَّى إنَّهم انصرفوا عنها إلى دراسة اللُّغات الأجنبيَّة، والحرص على إتقانها، ناسين أو مُتناسين لُغتَهم الأُمَّ؛ اللُّغةَ المقدَّسةَ التي اختارها الله ليُنزِّلَ بها القرآن العظيم! {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمينُ، على قلبِكَ لتكونَ مِنَ المُنذِرينَ، بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ}.

ولقد آنَ لنا أن نصطلحَ مع هذه اللُّغة، ونتعرَّفَ أسرارَها، ونتذوَّقَ جَمالهَا؛ لنرتقيَ بمعارج تدبُّر القرآن إلى عزِّ الدنيا والآخرة.

وأسهل الطُّرُق لاكتساب الفصاحة والبيان هو حفظُ مختاراتٍ من النصوص البليغة، كأبيات الشِّعر السائرة، والأمثال العربيَّة، والخطب المنبريَّة، والمقامات الأدبيَّة. فلو حفظ أبناؤنا في كلِّ يومٍ من أيام الإجازة بيتًا ومثلاً، وفي كلِّ أسبوعٍ مقامةً وخطبةً، لحازوا في نهايةِ الإجازة ثروةً لفظيَّة، ولأَلِفُوا لغتَهم العربيَّة، وبهذا الإلْفِ سيُقْبِلون على القرآن ويتلذَّذون بتلاوته، وسينهَلون من مَعين العلم؛ ليكون تثقيفُ اللسان سبيلَ تثقيفِ العقلِ وإصلاحِ الجَنان.

رابعًا: أدُّوا حقوقَ اللهِ ولا تُهمِلوها:

إنَّ من أكبر الظُّلم أنْ يُقصِّرَ الإنسانُ في أداء حقوق ربِّه الذي ربَّاه بنِعَمٍ لا تُعَدُّ ولا تُحصى {وآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَألْتُمُوه وإنْ تَعُدُّوا نِعمةَ اللهِ لا تُحْصُوها إنَّ الإنسانَ لَظَلومٌ كَفَّارٌ} يظلمُ نفسَه بكفره تلك النِّعَم، وعدم شُكر المُنْعِمِ جَلَّ شأنُه؛ باستعمالها في معصيته.  

فيا أيُّها الأريب كن لله شاكرًا، واحرِصْ على طاعتِه بإقامة الفرائض، وازدَدْ منه قُربًا بأداء     النوافل، واجعَلْ لسانَك رطبًا بذكره آناءَ الليلِ وأطرافَ النهارِ، تَنَلِ السعادةَ في دنياك والجنَّةَ في أُخْرَاك {فأمَّا الذين سُعِدُوا ففي الجَنَّةِ}.

واحذرْ أن تُلْهيَكَ النشاطاتُ الرياضيَّةُ والاجتماعيَّةُ والثقافيَّةُ، فتُعرِضَ عن ربِّك، وتخسرَ خُسرانًا مبينًا {ومَنْ أعرض عن ذِكرِي فإنَّ لهُ مَعيشَةً ضَنْكًا ونَحْشُرُهُ يومَ القيامةِ أَعْمَى}.

أسأل الله أن يجعل شباب أُمَّتنا من الذاكرين الشاكرين، و ألاَّ يكونوا من الغافلين اللاَّهين، وأن يُوفِّقَهم لاستثمار هذه الإجازة فيما يُرضيه، اللَّهُمَّ آمين.