دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة دقهلية

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

تقديم :

(ليست هذه الكلمات تاريخًا، ولا مذكرات، ولا ذكريات، ولكنها قطوف من كل ذلك بقدر ما تسعف به الذاكرة تلقائيًا، وقد يعوزها التسلسل التاريخي، ولكن لا يعوزها الصدق والبعد عن الإسراف، والسرف والمغالاة)

بسم الله الرحمن الرحيم , به تستدفع المحنة ,

وتستجلب المنة . وأصلي وأسلم على رسولناالكريم الذي تركنا على المحجة البيضاء , ليلها كنهارها , لايزيغ عنها إلا هالك.

* * * *

أما بعد : فإن الناظر بوعي في الإنسان يكتشف أنه مجموعة من " الأعمال والمواقف : ورجل الدعوة فى إيجاز شديد " هو ذلك الذي يعيش " بماضيه فى حاضره لمستقبله "

وأعني برجل الدعوة وريث النبى فى حمل رسالته ، والإضطلاع بها ، ونشرها على كل المستويات بما تحمل من مباديء وقيم تنفع الإنسان فى دنياه وأخراه . وميراث النبوة ليس مالا, ولكنه علم وقيم ، ومعايشة واعية للتوجيهات الإلهية فى الطبيعة الرسالية للعالِم الداعية , فهو مطالب أن يوظف كل الآليات المشروعة , ويبذل قصاراه لنشر دعوته , والانتصار لها .ولأمر ما أمر الله سبحانه وتعالى نبيه عليه السلام أن يجاهد الكفار بالقرآن . فقال تعالى " فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا " الفرقان 52 . والسورة مكية بلا خلاف . والمقصود أن يكون القرآن بقيمه ومبادئه هو الوسيلة المثلى لمواجهة الكفار , ونشر الدعوة , والانتصار لها .

* * *

فالماضى الحى إذن هو الركيزة والمنطلق ، يعيشه المسلم وخصوصا الداعية " فى حاضره بقيمه ، العقدية والخلقية والإنسانية , وينطلق منه لصنع مستقبل حى مشرق وضىء .

وفى كل أولئك على المسلم أن يفيد وينتفع بكل جديد من معطيات الآخرين حتى لو كانوا من غير المسلمين ؛ فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها .

ومعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ فكرة " حفر الخنادق" للتحصن من الفرس عن طريق سلمان الفارسى . وعنهم أخذ عمر- رضى الله عنه – نظام الدواوين .

 ويهب العلمانيون يتهمون الدعاة الرساليين بالتخلف والانغلاق ، ويجدون أن الحياة المثلى فى الانسلاخ من قيم الماضي ، والانفتاح لمعطيات الغرب . إن مثل هذا العلماني الإنكاري – وقد لقبته بأمير العميان – قلت فيه :

يـا  أميرَ العميان حسبك iiزورا
فـلـتـقل ما تشاء فالحق أبقَى
فـلـقـد عشت منكِرا كل iiحق
غـيـر أنى أقول قولة iiصدق
تـعـست أمة تراخت فصارت
يـدعـي  أنـه البشير ii"بطب"
فـإذا  طـبـه خداع .. iiوزور
يـنـكر الأصلَ iiوالجذورَويُبقي
واذا انـكـر الـجـذورَ iiنباتٌ








قـد  تماديتَ فى هوى iiالتزوير
لستَ فى العير أنت أوفي النفير
وجـهـولا متوجا ... iiبالغرور
لاتـبـالـي  بـسلطة أو iiأمير
مـركـبـا هينا لغِرٍّ... ضرير
قـادر،  نـاجح ، جديد ، iiمثير
يـجعل السهل ألفَ ألفِ iiعسير
فـى حِـماهُ الملعونِ كلَّ iiعقور
مـات فى لفحةِ اللظى iiوالهجير

 ومن معايشتى لدعوة الإخوان فى المنزلة دقهلية مسقط رأسى مايزيد على ستين عاما تعلمت الكثير والكثير ... تجارب ، وعلوما ومعارف ، وتأثرت بتوجيهات أساتذتنا الأجلاء فى هذا الحقل العامر النظيف .

 وقلت فى نفسي : إن على واجبا يتلخص فى تقديم تجاربى ورؤاى – فى منظقة المنزلة – للجيل الجديد من شباب الاخوان . وأنا المؤمن إيمانا وثيقا بأن الداعية هو ذلك الذى يعيش بماضيه فى حاضره لمستقبله .

 وهأنذا أقدم صفحات هذه الحياة " من جهود الإخوان وجهادهم فى منطقة المنزلة دقهلية . مع ملاحظة أن أغلب ما كتبت اعتمدت فيه على الذاكرة ، أو مايسميه بعضهم " الاجترار الذهني ". آملا أن يكون ماكتبته فيه النفع لمن يقرأ , وخصوصا الشباب .

والله وليى التوفيق .

(1)

دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة دقهلية

(ليست هذه الكلمات تاريخًا، ولا مذكرات، ولا ذكريات، ولكنها قطوف من كل ذلك بقدر ما تسعف به الذاكرة تلقائيًا، وقد يعوزها التسلسل التاريخي، ولكن لا يعوزها الصدق والبعد عن الإسراف، والسرف والمغالاة)

الأدبى أو العلمى.

التحقت بالمرحلة الابتدائية فى قرابة العاشرة من عمري , وكانت المدرسة تضم عددا من أربعة وسبعين عاما ولدت فى مدينة المنزلة بأقصى شمال دلتا النيل. وفى مجال التعليم كان هناك الكتاب لتحفيظ القرآن .. ثم تعلمت بعض معالم القراءة والكتابة فيما يسمى " المرحلة الإلزامية أو الأولية". ثم المرحلة الإبتدائية ( أربع سنوات), ثم المرحلة الثانوية ( خمس سنوات) منها أربع للثقافة العامة. أما السنة الخامسة فهى للتخصص طيبا من الأساتذة من الإخوان المسلمين .. منهم عباس عاشور : أستاذ اللغة العربية, وإبراهيم العزبى : أستاذ اللغة الإنجليزية, والمهدى قورة : أستاذ التربية الفنية (الرسم والأشغال ), وكانت بوادر القضية الفلسطينية تلوح فى الآفاق المصرية, وذلك فى منتصف الأربعينيات, ويتولى الإخوان المسلمون الدعاية للقضية, وعملية الشحن المعنوي . وقد قاد الإخوان مظاهرة في القاهرة بلغت مليونين من المصريين سنة 1947 وخطب فيها الإمام الشهيد قائلاً : " إن كان ينقصنا السلاح, فسننتزعه من أعدائنا, ونلقي بهم فى قاع البحار".

وقد استطاع الأستاذ إبراهيم العزبى ـ أستاذ اللغة الإنجليزية, أن يشدنى إلى الإخوان لأكون شبلا من أشبالهم, مؤمنا إيمانا صادقا بفكرهم, وذلك لما وجدت فيه من أبوة حانية وحسن معاملة, وتشجيع فى المجال العلمى. وسنعرف أن شخصيات ومواقف أخرى اشتركت في العوامل التي شدتني للدعوة , سنعرفها فيما بعد .

كانت فلسطين بطوابعها الدينية, وأصالتها التاريخية تهيمن على مشاعرنا من الصغر, وثمة عدد من المواقف مرت بى, والتقيتها فى سني الباكرة منها أن أول ما نظمت من الشعر كان فى فلسطين .. والقصيدة طويلة أتذكر منها أبياتا مطلعها :

فلسطين أمى وحق اليقين         وحق الشهيد غدا تسمعين

وقد نشر القصيدة بعد ذلك الأستاذ علي الغاياتي ـ رحمه الله ـ فى صحيفة منبر الشرق .

وتأخذنى الحماسة وأنا تلميذ فى أواخر المرحلة الابتدائية, وأتحدث إلى أستاذنا عبد الرحمن جبر رئيس منطقة الإخوان ـ  في المنزلة بمحافظة الدقهلية, وكان الإخوان قد بدءوا فى التطوع للجهاد فى فلسطين.

قلت له : أريد أن أتطوع لأداء ضريبة الجهاد, وإنقاذ فلسطين .

فقال : لكنك صغير السن .. فأنت لا تتعدى الثالثة عشرة من عمرك.

قلت : لكنى أعلم أن من الأطفال من قاتل فى "بدر " مثل ( ابنى عفراء )

كان الأستاذ عبد الرحمن يعرف أننى وحيد والدى , فابتسم وقال : إن شاء الله قد نحتاجك مستقبلاً, فنطلب منك التطوع والتقدم للجهاد.

قلت : أرجوك ... فاليوم خير من غد ... اسمحوا لى بالتطوع , ولو جعلتم مهمتى أن أقدم للمجاهدين " الشاى والقهوة "

فقال وهو يبتسم : مستحيل , فعندهم أمر بعدم التدخين .. وشرب الشاى والقهوة . وبت فى ليلتها وأنا فى بكاء متواصل   ,وأذكر أن  مدرستنا – وكنا في آ خر المرحلة الابتدائية - قامت برحلة إلى معالم القاهرة, ومن ضمن هذه المعالم " المتحف الزراعى ", تقدم منا أحد " السعاة " المسئولين عن قسم من أقسام المتحف , وقدم إلينا نفسه دون أن نطلب منه ذلك : أخوكم عبد السميع قنديل, من إخوان إمبابة وقد تطوعت للجهاد فى فلسطين, وإن شاء الله سيكون اسمي فى أول قائمة من قوائم الشهداء .. وحقق الله ما تمنى, وقرأت اسمه فى أول قائمة من قوائم شهداء الإخوان فى فلسطين. إنه حديث ذو شجون, أوردته عفو الخاطر, من قبيل التذكرة حتى يبقى الارتباط النفسى بيننا وبين فلسطين والمسجد الأقصى, أرضا وتراثاً حيا لا يموت.

وإنصافا للحقيقة  التاريخية أعرض على القارىء ما علمته بعد ذلك ،  وخلاصته أنه اختلف مع شقيقه عبد المنعم اختلافا شديدا :كل منهما مصر على التطوع للجهاد فى سبيل فلسطين ، وأبوهما شيخ كبير . وأمام إصرارهما أجاز الأب تطوعمها .... وجاهدا فى الله حق جهاده . واستشهد عبد السميع ، وعاد عبد المنعم ... بعد تآمر حكامنا ، والقبض على الإخوان المجاهدين  ،وعاش عبد المنعم بعدها سنوات صاحبا ومديرا لمحل " ساعاتى بورسعيد " بميدان الدقى بالجيزة .

وللحديث بقية