الاعتدال في فهم الابتداع والاختلاف 23
الثالث والعشرون:
الاعتدال في فهم الابتداع والاختلاف
د. موسى الإبراهيم
أولاً: الاعتدال والوسطية ضرورة دعوية تربوية.
ثانياً: معنى البدعة.
ثالثاً: مواقف أئمة أعلام من بعض ما شاع أنه بدع منكرة.
1- الاحتفال بالمولد النبوي.
2- التبرك بآثار الرسول %.
3- التوسل بالرسول %.
4- تقليد المذاهب الفقهية.
رابعاً: مذاهب العلماء في تأثيم المبتدعة وتكفيرهم.
خامساً: الرواية عن أهل البدع والأهواء.
سادساً: الاختلاف بين العلماء وأدب الإفتاء فيما فيه خلاف بين الفقهاء.
سابعاً: تغيّر الأحكام بتغير الأزمان.
ثامناً: صفات المفتي الداعية.
أولاً : الاعتدال والوسطية ضرورة دعوية تربوية
إن من أهم ما ينبغي لطالب العلم وللداعية إلى الله تعالى أن يتحلى به الاعتدال وسعة الفهم واحترام الرأي والآخر فيما يحتمل تعدد الاجتهاد. وتلك سمة العلماء الربانيين من أئمة الإسلام وأعلام السنة في القديم والحديث. أما التغالي والتنطع وضيق النظر والصدر بالرأي المخالف وسوء الظن بالآخرين فهذا من سمات الجهل وأخلاق الجاهلين. وإن قضية الاعتدال في فهم الابتداع لهي من أهم ما ينبغي التأكيد عليه وبين أوساط الدعاة خاصة وذلك كي نحسن فهم من حولنا ونحسن التعامل مع نتفق معه أو نختلف طالما الجميع ضمن الدائرة الإسلامية الواسعة. ولنا في أئمتنا الأعلام أسوة حسنة في هذا الشأن لولا أن كثيراً من المتشددين في هذا الباب قد أغلقوا عقولهم وجهلوا أو تجاهلوا مواقف أئمة السلف والخلف وسيرتهم ومنهجهم في الاعتدال وحسن الظن والموقف من المخالف في الرأي والاجتهاد. وسوف أسوق هنا طرفاً من تلك المواقف الحكيمة المسددة لعلها تجتمع حولها مواقف طلاب العلم والدعاة إلى الله في هذه الأيام التي يحتاج فيها المسلمون أكثر من أي وقت مضى للاجتماع ووحدة الكلمة والموقف والصف في وجه التيارات المعادية التي تألب فيها العالم كله على الإسلام والمسلمين باسم العولمة والديمقرااطة والحداثة والتنوير وباسم محاربة الإرهاب والأصولية وبغير ذلك من مسميات وشعارات خادعة كاذبة، ونحن مع جميع ذلك كلمتنا متفرقة واتجاهاتنا متخاصمة، نسينا العدو وشُغلنا ببعضنا، وتركنا الأصول والتفتنا إلى الفروع.
ولو أننا أتقنا منهج أئمتنا وعلمائنا وعرفنا أخلاق سلفنا الصالح واقتفينا آثارهم لكان حالنا أحسن وهيبتنا في عيون أعدائنا أقوى ولكنا على غير ما نحن عليه الآن في سائر أحوالنا وخاصة في مواقع الصراع الحضاري وسنة التدافع بين الحق والباطل..
فإلى تلك المواقف والمعالم الهادية من أئمة أعلام هم محل الرضا والقبول من سائر طبقات الأمة قديماً وحديثاً.
ثانياً: معنى البدعة
البدعة في اللغة: قال صاحب القاموس: البِدع بكسر الأمر الذي يكون أولاً.. والبدعة بالكسرة الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما استحدث بعد النبي % من الأهواء والأعمال([1]) (واصطلاحاً): قال الإمام الشاطبي رحمه الله : البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى([2]).
وقال الشيخ الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: المحدثات بفتح الدال جمع محدثة والمراد بها ما أحدث وليس له أصل في الشرع ويسمى في عرف الشرع بدعة. وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة.
قال الشافعي: البدعة بدعتان محمودة ومذمومة، فما وافق السنة فهو محمود وما خالفها فهو مذموم.
وجاء عن الشافعي أيضاً ما أخرجه البيهقي في مناقبه قال: المحدثات ضربان ما أحدث يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً فهذه بدعة الضلال، وما أحدث من الخير لا يخالف شيئاً من ذلك فهو محدثة غير مذمومة.
وقال ابن عبد السلام في أواخر القواعد: البدعة خمسة أقسام... وعدد الأحكام الخمسة الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح ومثّل لكل منها([3]). ولم يعترض ابن حجر رحمه الله على شيء من هذه الأقسام.
ثالثاً: مواقف أئمة أعلام من بعض ما شاع أنه بدع منكرة
1- الاحتفال بالمولد النبوي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن مقصده وتعظيمه لرسول الله % كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد([4]). إنه الاعتدال حقاً في فهم مقاصد الشريعة وإدراك مقاصد الخلق من أعمالهم وتصرفاتهم، وما أجمل أن يدرك الناس جميعاً هذه المقاصد ويفقهوها.
2- التبرك بآثار الرسول %.
قال الإمام الذهبي رحمه الله: أين المتنطع المنكر على أحمد وقد ثبت أن عبد الله سأل أباه عمن يلمس رمانة قبر النبي % ويمس الحجرة النبوية فقال: لا أرى بذلك بأساً. أعاذنا الله وإياكم من الخوارج والبدع([5]).
3- التوسل بالرسول % وبالصالحين من المؤمنين.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : لم يقل أحد أن التوسل بالنبي استغاثة به، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، فإن المستغيث بالنبي % طالب منه وسائل له والمتوسل به لا يدعو ولا يطلب منه ولا يسأل وإنما يطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به.
وقال رحمه الله: وأما قول القائل: اللهم إني أتوسل إليك به فللعلماء فيه قولان كمالهم في الحلف به قولان.. وبالجملة فقد نقل بعض السلف والعلماء السؤال به بخلاف دعاء الموتى والغائبين والاستغاثة بهم.
وقال رحمه الله: ولهذا لم ينقل دعاء أحد من الموتى والغائبين لا الأنبياء ولا غيرهم عن أحد من السلف وأئمة العلم.. بخلاف قولهم: أسألك بجاه نبينا وبحقه فإن هذا مما نقل عن بعض المتقدمين فعله، ولم يكن مشهوراً بينهم ولا فيه سنة عن النبي % بل السنة تدل على النهي عنه([6]).
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: قولهم في الاستسقاء: لا بأس بالتوسل بالصالحين وقول أحمد: يتوسل بالنبي خاصة، مع قولهم: لا يستغاث بمخلوق، فالفرق ظاهر جداً وليس الكلام مما نحن فيه، فكون بعضٍ يرخص بالتوسل بالصالحين وبعضهم يخصه بالنبي % وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ويكرهه فهذه المسألة من مسائل الفقه ولو كان الصواب عندنا قول الجمهور أنه مكروه فلا ننكر على من فعله ولا إنكار في مسائل الاجتهاد([7]). إنه الفقه والحكمة في فهم الخلافات بين العلماء.
4- تقليد المذاهب الفقهية.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: التقليد هو قبول قول المقلَد بغير حجة فيلزم المقلِّد ما كان في ذلك القول من خير وشر.
وقال أيضاً: لا ينبغي للعامي أن يطالب المفتي بالحجج فيما أفتاه ولا يقول له لِمَ؟ ولا كيف([8])؟.
رابعاً: مذاهب العلماء في تأثيم المبتدعة أو تكفيرهم
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: ذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقولٍ قاله في اعتقاد أو فتيا وإن كان مجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه مأجور على كل حال إن أصاب الحق فأجران وإن أخطأ فأجر واحد. وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداوود بن علي رضي الله عنهم جميعاً، وهو قول كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة رضي الله عنهم لا نعلم عنهم في ذلك خلافاً وأصلاً([9]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: ولهذا كنت أقول للجية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال. وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم(([10]).
وقال شيخ الإسلام في كتابه المسائل الماردينية: مسألة تكفير أهل الأهواء الناس مضطربون فيها: فقد حكي عن مالك فيها روايتان وعن الشافعي فيها قولان وعن الإمام أحمد أيضاً فيها روايتان وكذلك أهل الكلام فذكروا للأشعري فيها قولين، وغالب مذاهب الأئمة فيها تفصيل.
وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول قد يكون كفراً فيطلق القول في تكفير صاحبه فيقال: من قال كذا فهو كافر، ولكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها،؟ وهكذا كما في نصوص الوعيد فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً}([11]). فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق ولكن الشخص المعين لا يشهد عليه الوعيد. فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم. وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شافع مطاع.
وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله تعالى بها.
فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ فإن الله سبحانه وتعالى يغفر له خطأه كائناً ما كان سواء في المسائل النظرية أو العملية. هذا الذي عليه أصحاب النبي % وجماهير أئمة الإسلام([12]).
أما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول يكفر بإنكارها وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع لا يكفر بنكارها فهذا الفرق ليس له اصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا عند أئمة الإسلام وإنما هو مأخوذ من المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع. وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض، فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد الأصول التي يكفر المخطئئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين الفروع([13])؟
رحم الله الشيخ ابن تيميه فإنه أشبع هذه المسائل بحثاً وفي مواضع متفرقة من كتبه وفتاواه ويشعر المتابع لفكره رحمه الله أنه كان كمن هو في جبهة ينافح عن هذا الدين عقائده ومبادئه أصولها وفروعها يؤصل ويدلل ويقيم الحجج المختلفة على ضرورة احترام الرأي الحر والفكر الصادر عن اجتهاد مهما كانت نتائجه مع اعتقاد سلامة المجتهد من الحرج والإثم حتى لو كان مخطئاً بل هو مأجور أيضاً!!
ما أحوج علمائنا ورجال الفكر والدعوة الإسلامية هذه الأيام إلى استيعاب مثل هذه الأفكار والمبادئ والقيم التي تجعل الساحة واسعة تستوعب الجميع وتؤلف بينهم في إطار الإسلام الواسع ويبقى للحوار والجدل بالحسنى مكانه وموقعه دون تشنج ولا اتهام ولا إقصاء ولا احتكار للحق من أي احد كان.
وتأكيداً لهذا المعنى يقول الشيخ ابن تيميه رحمه الله:
فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومناظر ومفتٍ وغير ذلك إذا اجتهد واستدل واتقى الله ما استطاع كان هو الذي كلفه الله إياه، وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع ولا يعاقبه الله البتة خلافاً للجهمية المجبرة، وهو مصيب بمعنى أنه مطيع لله لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه خلافاً للقدرية والمعتزلة في قولهم: كل من استفرغ وسعه علم الحق. فإن هذا باطل كما تقدم. بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب([14]).
وقال رحمه الله في معرض رده على أهل البدع:
وأنه يجب أن يقصد به بيان الحق وهدي الخلق لا التشفي والانتقام.
إلى قال: وهذا مبني على مسألتين:
إحداهما: أن الذنب لا يوجب كفر صاحبه كما تقول الخوارج بل ولا تخليده في النار ومنع الشفاعة فيه كما يقول المعتزلة.
الثانية: أن المتأول الذي قصد متابعة الرسول % لا يكفر ولا يفسّق إذا اجتهد فأخطأ. وهذا مشهور عند الناس في المسائل العلمية.
أما مسائل العقائد فكثير من الناس كفروا المخطئين فيها وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا يعرف عن احد من المسلمين. وإنما هي في الأصل أقوال أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم كالخوارج والمعتزلة والجهمية([15]).
خامساً: الرواية عن أهل البدع والأهواء
- الرواية عند علماء المسلمين وأهل الحديث خاصة لها أصولها وضوابطها ومنهجها الذي يُضمن من خلاله أن لا يؤخذ هذا الدين إلا عن أهل العدالة والصدق والضبط. حرصاً على دين الله أن تعبث بع أفكار المنحرفين وأهل الزيغ والضلال.
ومن هنا تعرض علماء الحديث ومصطلحه إلى قضية الرواية عن أهل البدع والأهواء ومدى قبولها، وهل يعتبر فكرهم الذي خالفوا فيه غيرهم من جماهير العلماء مانعاً من قبول ما يروونه من السنة النبوية أو غيرها من أحكام هذا الدين؟ أم لا يعتبر ذلك مانعاً؟ وما هي ضوابط هذا الأمر قبولاً ورداً؟
- قال الإمام الحافظ الذهبي رحمه الله: والكلام في الرواة يحتاج إلى ورع تام وبراءة من الهوى والميل وخبرة كاملة بالحديث وعلله ورجاله([16]).
- قال رحمه الله: والذي تقرر عندنا أنه لا تعتبر المذاهب في الرواية ولا نكفر أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة: فإذا اعتبرنا ذلك وانضم إليه الورع والتقوى فقد حصل معتمد الرواية: وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه حيث يقول: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الروافض([17]]).
وقال الذهبي أيضاً في السياق إياه: قال شيخنا ابن وهب رحمه الله: ومن ذلك الاختلاف الواقع بين المتصوفة وأهل العلم الظاهر فقد وقع بينهم تنافر أوجب كلام بعضهم في بعض. وهذه غمزة لا يخلص منها إلا العالم الوافي بشواهد الشريعة. ولا أحصر ذلك في العلم بالفروع فإن كثيراً من أحوال المحقين من الصوفية لا يفي بتميز حقه من باطله علم الفروع بل لابد من معرفة القواعد الأصولية والتمييز بين الواجب والجائز والمستحيل عقلاً والمستحيل عادة وهو مقام خطر إذا القادح في محق الصوفية داخل في حديث >من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب<([18]) >والتارك لإنكار الباطل مما سمعه من أهله تارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر<([19]).
وقال الذهبي أيضاً: فكل من خُرّج له في الصحيحين فقد قفز القنطرة فلا معدل عنه إلا ببرهان بيّن([20]).
- هذا وقد ذكر الإمام السيوطي رحمه الله في كتابه >التدريب في مصطلح الحديث< ما يلي:
فائدة: أردت أن أسرد هنا من رمي ببدعة ممن أخرج لهم البخاري ومسلم أو أحدهما ثم ذكرهم وسماهم فبلغ عددهم تسعة وسبعون متهماً موزعون على الفرق كالتالي:
- من رمي منهم بالإرجاء |
13 |
- من رمي منهم بالتشيع |
24 |
- من رمي منهم بالقدر |
30 |
- من رمي منهم بالنصب |
07 |
- من رمي منهم برأي جهم |
01 |
- من رمي منهم بالخوارج الحرورية |
02 |
- من رمي منهم بالقدرية |
01 |
- من رمي منهم بالتوقف |
01 |
المجموع |
79([21]) |
وأصل هذا الإحصاء للحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه هدي الساري([22]).
سادساً: الاختلاف بين العلماء وأدب الإفتاء فيما فيه خلاف بين الفقهاء
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: وصنّف رجل كتاباً في الاختلاف فقال أحمد: لا تسمه كتاب الاختلاف ولكن سمه كتاب السنة. ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما سرني أن أصحاب رسول الله % لم يختلفوا لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة([23]).
وقال الإمام القرافي رحمه الله: لا ينبغي للمفتي إذا كان في المسألة قولان أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين ودليل فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق نعوذ بالله من صفات الغافلين([24]).
وقال رحمه الله: لا ينبغي للمفتي أن يحكي خلافاً في المسألة لئلا يشوش على المستفتي فلا يدري بأي القولين يأخذ([25])
سابعاً: تغيّر الأأحكام بتغير الأزمان
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل.
وقال الإمام القرافي رحمه الله: إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغيّر تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة.
وقال رحمه الله: تراعي الفتاوى على طول الأيام مهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه. ولا تحمل على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجبه على عرف بلدك والمقرر في كتابك فهذا هو الحق الواضح، والجري على المنقولات أبداً ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، وهكذا فالأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت وتبطل معها إذا بطلت، وكل من له عرف يحمل كلامه على عرفه([26]).
ثامناً: صفات المفتي الداعية
كثيراً ما يتمايز المفتي عن الداعية في الواقع فيكون لكلٍ منهما ميدانه وساحاته ولا غرابة في ذلك، أما عندما يكون المفتي داعية أو الداعية مفتياً فهنا لابد من توفر صفات تليق بهذا المقام الرفيع وتتناسب مع هذه المكانة الريادية الفذة. ولابن القيم رحمه الله تميزه في استبطان الحقائق والغوص وراء الدقائق. وانتقاء ما يناسب الحال والمقام فلله دره من عالم رباني قدوة. وفي هذا الباب يقول رحمه الله: ذكر أبو عبد الله بن بطة في كتابه الخلع عن الإمام احمد أنه قال: لا ينبغي لرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
أولها: أن تكون له نية فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا يكون على
كلامه نور.
الثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.
الثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه ومعرفته.
الرابعة: الكفاية وإلا مضغة الناس.
الخامسة: معرفته الناس.
وبعد ذكر هذه الصفات عن الإمام أحمد رحمه الله قال الشيخ ابن القيم معقباً عليها:
([27]).ثم تابع يقول بعد كلام طويل: فالعالم إذا منح غناء فقد أعين على تنفيذ علمه وإذا احتاج إلى الناس فقد مات علمه وهو ينظر([28]).
وأكتفي بهذا القدر من السياحة في أفكار هؤلاء الأئمة الأعلام الذين لهم فضلهم وفقههم وسبقهم راجياً من أبناء جيلنا المعاصر أن يأخذوا عن هؤلاء الأأ
([1]) القاموس المحيط ج3 ص3.
([2]) الاعتصام للإمام الشاطبي ج1 ص30.
([3]) فتح الباري باب الاعتصام بالكتاب والسنة ج13 ص253- 254.
([4]) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص297 طبعة أنصار السنة لاهور.
([5]) سير أعلام النبلاء ج11 ص212.
([6]) التوسل والوسيلة لابن تيمية ص147.
([7]) مجموعة فتاوى الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص6926 والقسم الثالث مختصر السيرة والفتاوى ص68.
([8]) المسودة في أصول الفقه ص553 - 554 نقلاً عن أصول مذهب الإِمام أحمد للدكتور عبد الله التركي ص679.
([9]) انظر الملل والنحل ج3 ص247 نقلاً عن كتاب الجرح والتعديل للشيخ جمال الدين القاسمي ص13.
([10]) انظر الموقظة في أصول الحديث للإِمام الذهبي تعليق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ص156.
([11]) سورة النساء الآية 11.
([12]) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية ج23 ص346.
([13]) انظر الموقظة في أصول الحديث للإِمام الذهبي بتعليق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ص158.
([14]) منهاج السنة ج3 ص27 طبعة دار الكتب العلمية.
([15]) منهاج السنة ج3 ص60.
([16]) الموقظة في أصول الحديث ص82.
([17]) المرجع السابق ص82.
([18]) رواه البخاري.
([19]) الموقظة للإمام الذهبي ص88.
([20]) المرجع السابق ص80.
([21]) تدريب الراوي ص219.
([22]) هدي الساري ج2 ص179.
([23]) مجموع الفتاوى ج30 ص79-80.
([24]) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للإِمام القرافي ص270.
([25]) المرجع السابق ص268 (4) إعلام الموقعين ج3 ص89 (5) الإحكام للقرافي ص231.
([26]) تبصرة الحكام ج2 ص636-665-674 بتصرف والفروق ج1 ص44ـ47 نقلاً عن أصول مذهب الإِمام أحمد للدكتور عبد الله التركي ص665.
([27]) إعلام الموقعين ج4 ص199.
([28]) المرجع السابق ج4 ص204.