حكاوي من العالم الآخر !

عبد الواحد محمد

[email protected]

كما هي مدينتنا لم تتغير بل ظلت آسيرة زمن بعيد فيه صورتها القديمة تزين معالمها كأنها حلي نفيسة وثياب عروس بكر تتنهد غزلا بالشعر الحائر بين عامية بيرم التونسي وحداثة محمود درويش لتستوقفني في رحلة الذهاب إلي دار أمي العتيقة وأنا لا أري غيرها دارا تستحق الثناء رغم رحيل كل الأحباب لتبقي هي الحقيقة التي دونتها في مذكراتي يا طالعة من بيت أبوها ؟

وهنا تكمن الحكاية كيف نفارق الزمن ويفارقنا دون معطيات  وكشف حساب يكفل لنا حوارا مفتوحا مع عقل نستوضح منه حقيقة المدينة الكبيرة والتي لم تعد تمنحك سوي البكاء فقد ترملت النساء وأستبدلت المنازل بالخيام وجفت الحدائق وعلق النهر لافته بالبنط العريض عفوا لايوجد ماء ؟

أدركت كم كان شاعرنا محمود درويش حدائيا يلبي نداء الوطن رغم كل الأقنعة التي حاولت أن تمنحه شمسا وهواء وبحرا أصطناعيا ؟ لكنه لم يأبي غير رؤية المدينة بعين شاعر لم يفقد عقله وبصره وأحتفظ بمشاعره النبيلة تجاه قضية كل الشرفاء يعاني من قهر الأسماء المركبة والأناشيد البائسة والحلي الزائفة والتماثيل الشاحبة والأصوات المنفرة

وغير ذلك تكالب الحواة علي أحيائها يروضون الثعابين ويحيون الموتي ويدجلون علي المارة بما يشبه

زواج العانس من أمير أعالي البحار ؟

وللشاعر محمود درويش هذه الكلمات الحبلي بطعم المدينة الكبيرة والوطن الذي لم يفارق من أحبه رغم كل الثياب الممزقة والأوجاع المزمنة  وهو ينقل لنا مشاعره

وطني يعلمني حديد سلاسلي

عنف النسور ورقة المتفائل

ماكنت أعرف ان تحت  جلودنا

ميلاد عاصفة .. وعرس جداول

سدوا علي النور في زنزانتي

فتوهجت في القلب شمس مشاعل

أغمدت في لحم الظلام هزيمتي

وغرزت في شعر الشموس أناملي  

وحكاوينا هي حكاوي مدينتنا القديمة والتي توجهت إليها بعد طول غياب عسي أن أجد صوت أمي من بين الأطلال المنسية في دارنا العتيقه ؟ لكي تعيد إلي الرشد في معترك الحكاية والحكو والحكواتي الذي رحل هو الآخر دون مقدمات !

عجيبة أمر هذه الدار التي كانت تستقبل كل الأفندية والبكاواتية والمأموراتية والباشواتية أين هم الآن رحلوا كما رحلت أمي ولم يبق منها غير الصوت الذي أبحث عنه ليل نهار في لعبة السلم والثعبان ؟ نعم كنت أجيدها في الأيام الخوالي من طفولتي السعيدة والتي ربطتني بعالم الحقيقة وجعلتني منشدا ومتيما بكل المبدعين من أمثال طه حسين .. لطفي السيد .. شيكيب أرسلان .. بشارة خوري .. محمد حسين هيكل.. محمد مهدي الجواهري ..الرصافي ..نازك الملائكة .. بدر شاكر السياب ..علي محمود طه ..إبراهيم ناجي .. قاسم أمين .. نجيب محفوظ .. توفيق الحكيم .. محمود حسن إسماعيل شاعر الكوخ العظيم الخ مرورا بأمير دولة الشعر محمود درويش .

الذي جعلني علي مقربة من دارنا العتيقة رغم صعوبة الوصول إليها نهارا وما أدراك ما  الليل في رحلة الأهوال التي تجعلك تفكر مرارا وتكرارا في الأقدام علي مغبة هذه المغامرة من أقصي الشرق إلي

أقصي الجنوب ؟

فتذكرت قصيدة محمود درويش الرائعة والتي تترجم كثير من معاني  لم تفقد بعد

أحن إلي خبز أمي

وقهوة أمي

ولمسة أمي

وتكبر في الطفولة

يوما علي صدر أمي

وأعشق عمري لأني إذا مت

أخجل من دمع أمي

خذيني إذا عدت يوما وشاحا لهدبك

وغطي عظامي  بعشب .. تعمد من طهر كعبك  

ولايكتب تاريخنا سوي صفحات يتيمة من محنة مدينة لعلها مفارقة تستوجب ألف سؤال ومعها الصوت الذي يخرجك من دوامة كل السجناء ؟

وعندما  نبحث عن ما فهرسانه في لوح يقال أنه محفوظ نجدنا نستعد لرحلة قد لا تنتهي من كل الأقاويل والحواديت التي تنم عن جدل في جدل عقيم !

علامات استفهام يضعها الحكواتي في مدينة حكاوينا التي جف فيها النهر وعلقت لا فته هنا ماء وزرع ووجه حسن لتبقي دارنا عنوان لزمن رغم كل التعاويذ ومعها صدي الصوت العبقي لأمي التي جالستها وجالستني لكي تعرف ما الذي أتي بي إلي هنا رغم قسوة الظروف وفداحة المغامرة لتشهد أنني رجل لا يعرف غير أداء رسالته وقيمتها مهما تغيرت كل الأزمان ليبقي صوتها محفورا في ذاكرتي وقصائد درويشنا عميقة تظلل صحراءها وتروي أشجارها وتمنحنا الأمل في حكاية قادمة.