يا ذهب مين يشتريك
صلاح حميدة
هي الأعراس التي تكثر في صيف كل سنة في فلسطين وبقيّة أنحاء العالم العربي، ويستغل النّاس فترة الصيف لما فيها من وقت فراغ وعطلة المدارس والجامعات وعودة المغتربين من الخارج، لضمان أوسع مشاركة من الأحباب والأقارب في هذه المناسبات السّعيدة.
تتميّز الأعراس الفلسطينية بفعاليات كثيرة تتشارك فيها مع مثيلاتها في بلدان أخرى، بينما تختلف في بعض تفاصيلها مع أصحاب الثّقافات والبلاد المختلفة جغرافياً ودينياً وثقافياً، وتتميّز الأعراس الفلسطينية بفعاليات جميلة كالحنّاء والسّهرات الشّبابية التي تتخلّلها الدّبكة الشّعبية الفلسطينية التي أعيد تفعيلها بشكل واسع مع الزّجل الشّعبي الذي يستحضر الفروسية والفتوحات والبطولات ويحضّ على مكارم الأخلاق العربية، يضاف إلى ذلك الزّفة للعروسين التي يجلس فيها العريس على ظهر حصان مزيّن ويسير برفقة المحتفلين في الشوارع المحيطة بمنزله، بينما يردد الحاضرون الأهازيج الشّعبية التي تشيع أجواء من الفرح والمودّة بين الحاضرين، ولا ننسى الحفلات التي يتخللّها ولائم الطّعام التي ينشئها أهل العريس للمدعووين، والتي يقدّم فيها المأكولات الشّعبية الفلسطينية كالمنسف والعصيدة والقدر، والتي أضيف إليها - أو استعيض عنها - بحفلات في صالات الأفراح التي لم تكن معروفة من قبل، والتي أصبح غالبية العرسان لا يتزوّجون إلا بها لأسباب موضوعية كضيق منازلهم وعدم قدرتها على استيعاب العدد الكبير من المدعوّيين، والتي يقدّم فيها الحلويات والمشروبات والعصائر وربّما الغذاء للمدعوّين، والتي لم تعد الأفراح تقام بها في أيّام الجمعة فقط - كما كان قديماً- بل أصبحت الأعراس تقام فيها في جميع أيّام الأسبوع.
يترافق مع التّجهيز للعرس الفلسطيني ما يعرف ب (كسوة) العروس، ومن خلالها يقوم العريس بشراء (جهاز) للعروس لكل ما يلزمها من ملابس وأدوات لبيت الزّوجية ومن ضمنها بدلات الفرح والمكياج وخلافه، إضافةً لما يتّفق عليه من أثاث و مصاغ ذهبي يسجّل عادةً في عقد الزّواج عند المأذون أو في المحكمة الشّرعية، وكمّية الذهب التي تشترى للعروس تختلف من منطقة إلى أخرى، أوحسب الإمكانيات المادّية للعريس، أو حسب ما يطلبه أهل العروس وعادات أهل المنطقة.
ولذلك يعتبر صيف كل سنة بمثابة موسم بيع الذّهب للصنّاع والتّجار الذين يعملون في مجال صياغة الذّهب والمجوهرات، وتزدحم محال الصّاغة بالزّبائن أو ما يتعارف عليه تجار الذّهب ب ( الكساوي) وهي جمع ( كسوة)، ولذلك فتجّار وصنّاع الذّهب يعتبرون أنّ مهنتهم وتجارتهم موسمية وتأتي ذروتها في فترة محدودة في السنة وهي فترة فصل الصّيف.
ولكن في هذه السّنة يتذّمر الكثير الصّاغة من كساد كبير في تجارتهم ويعتبرون أنّ هذه السّنة هي الأسوأ من كل السّنين التي مرّت عليهم في عملهم في هذا المجال، وفي جولة سريعة بين الصّاغة – تجّارهم وصنّاعهم – تخرج بنفس النتيجة التي تخلص بتذمّرهم وقلقهم من أن يستمر الوضع على ما هو عليه، أو أن يكون القادم أسوأ من الحالي حسب الخطّ البياني لتراجع تجارة الذّهب في السنوات القليلة السابقة، التي تخللتها انتفاضة وحصار وقطع رواتب وضيق مصادر رزق وخلافه من المآسي التي عاشها - و لا يزال يعيشها - الشّعب الفلسطيني.
و باستطلاع العديد من الآراء من النّاس العاديين ومن وزارة الاقتصاد ومن الصّاغة والتّجار والخبراء، يستنتج المتابع أنّ لكساد تجارة الذّهب في فلسطين – وخاصةً هذه السّنة – أسباباً كثيرة بالإمكان حصر أغلبها.
فالوضع السّياسي الذي لا استقرار فيه الذي يعيشه الشّعب الفلسطيني يعدّ أحد الأسباب الرّئيسية التي تؤدّي لتراجع النّشاط التّجاري ومن ضمنه قطاع الصّياغة في فلسطين، فتدخّل الاحتلال في كل تفاصيل حياة الفلسطينيين وتنغيصه عليهم وتقييده لحركة التجارة الخارجية والدّاخلية، وحظره لمواد ومعدّات بعينها تدخل في صناعة الذّهب، وحظره للإستيراد والتّصدير بشكل رّسمي، مما يؤدّي للجوء التّجار إلى السوق السّوداء والتهريب والتي يكون لها انعكاسات سلبية على هذا النّوع من الصّناعة و التّجارة.
تراجع الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين بشكل عام وضيق مصادر الرّزق دفعهم للإهتمام بتقديم أولويات وكمّيات الصّرف في حياتهم، وهذا أدّى لتركيز الاهتمامات على القضايا الأساسية في الصّرف وتقديم الاحتياجات اليومية على الاحتياجات الكمالية ذات الأسعار المرتفعة كالذّهب والمجوهرات. فمعدّل الدّخل للفرد الفلسطيني في تراجع مستمر منذ عقدين من الزّمن - حسب مراكز الإحصاء والاستطلاع المهتمّة - ولذلك فالمأكل والملبس والمسكن لها أولوية على ما يعتبر كماليّات.
و ينظر الفلسطينيون -بشكل عام- للذّهب كسلعة استثمارية يدّخرونها لنوائب الزّمن أكثر من نظرتهم له كزينة تتزيّن بها النّساء، وبالرّغم من حب غالبيّة النّساء للتزيّن بالمشغولات الذّهبية، وسلوك الرجال لكسب قلوب زوجاتهم بتقديم تلك المشغولات لهنّ في مناسبات مختلفة، إلا أنّ ما يمرّ به الفلسطينيون من تقلّبات وانتكاسات وحروب وحصار وثورات يدفعهم دائماً للإحتياط للمستقبل والتّحضير لأي طارىء قد يجعلهم بلا عمل وبلا دخل، ولذلك يجمع تجار المجوهرات بأنّ الغالبية العظمى من الزّبائن تسألهم سؤالاً يتردد على أسماعهم كثيراً كل يوم، وهو ( كم ستخسر هذه القطعة الذّهبية عند البيع؟) فالمشتري يفكّر في لحظة البيع قبل أن يشتري، وهذا يعكس النّظرة الاستثمارية التي ترافق الالتزام بالمهر والزّينة المطلوبة من العريس المشتري لعروسه، وكذلك فالعروس أول من تبادر لبيع ذهبها في أول محاولة لشراء بيت للزوجية أو ضائقة مالية تعاني منها الأسرة التي كوّنتها برفقة عريسها، إضافةً إلى أسباب أخرى، ولذلك فالذّهب يعتبر أحد أشكال الإدّخار، وما أكّد ذلك هو موجة البيع الكبيرة للذّهب من قبل الجمهور الفلسطيني في السّنوات القليلة الماضية التي تخللها الحصار، إضافةّ للجوء الكثيرين للإستفادة من ارتفاع سعر الذّهب عالمياً لاستغلال المال في شراء بيوت أو الاستثمار التّجاري.
الأزمة الاقتصادية العالمية ألقت بظلالها على تجارة الذّهب في فلسطين، ففي كل سنة كان الصّاغة ينتظرون عودة المغتربين من الولايات المتحدة الأمريكية و دول الخليج وأوروبا الذين كانوا يشكّلون غالبية زبائن المشغولات الذّهبية، بل أفضل الزّبائن، وكان هؤلاء يشترون كمّيّات كبيرة من المشغولات الذّهبية في تزويج أبنائهم أو لتقديمها كهدايا أو لأخذها معهم الى بلاد المهجر عند سفرهم، ولكن مع حالة الكساد العالمي وتحطّم الاقتصاد في دول الاغتراب فقد تراجعت أوضاع هؤلاء المغتربين الاقتصادية، وتراجعت أعداد القادمين منهم إلى فلسطين، بل من يأتي لا يشتري إلا القليل – إن اشترى- بل يقول أحد تجار الذّهب أنّ غالبية هؤلاء يأتي لبيع ما يملك من أملاك حتى يسدّ ضائقته الاقتصادية في بلاد المهجر، ثم يسافرون بلا صرف قرش واحد هنا.
إرتفاع أسعار الذّهب عالمياً لمستويات خيالية لعب دوراً أساسياً في كساد وتراجع صناعة وتجارة الذّهب، فمن ناحية دفع الكثيرين لبيع ذهبهم لجني الأرباح واستثمار المال النّاتج عن البيع، ولكنّه من ناحية أخرى دفع النّاس إلى تجنّب شراء الذّهب إلا في حالات قليلة، فالإرتفاع السّريع قد يلحقه انهيار سريع في الأسعار بعد كساد التّجارة، وبالتالي سينطوي شراء والاحتفاظ بالذّهب على مخاطرة كبيرة حسب وجهة نظر بعض المستثمرين والتّجار وعامّة النّاس. أمّا بالنّسبة للعروس فهي تعتبر أنّ مهرها مهما غلا فهو في النّهاية لن يمنحها فرصة شراء إلا القليل من الذّهب، وهذا أدّى إلى نشوء ظواهر لم تكن معروفة في المجتمع الفلسطيني من قبل في هذا الجانب تحديداً، فقد أصبح بعض العرسان يعطي زوجته مهرها نقداً وتضعه في البنك ويستأجرون الذّهب من بعض التّجار ليوم العرس ثم يعيدونه له، ويلجأ بعضهم للتحايل لعدم مقدرته على شراء الذّهب بشراء إكسسوارات يسمّيها البعض بالذّهب الصّيني أوالرّوسي وهي لا تمتّ للذّهب بصلة، إضافةً إلى اتفاق بين العروسين على أن تلبس العروس ذهب أخته أو أمّه أو أحد قريباتها أمام النّاس ثمّ يعاد إلى أصحابه، ووسائل أخرى كثيرة تتحايل على شراء الذّهب في ظل سعره الحالي، وتبعاً لذلك واجهت تجارة الذّهب كساداً لا مثيل له من قبل.
صنّاع وتجّار الذّهب لجأوا لوسائل عديدة للتّحايل على الغلاء الفاحش للذّهب لجلب الزّبائن للشّراء، فقد لجأوا لتخفيف أوزان المشغولات الذّهبية لمستويات قياسية كان أغلبها على حساب جودة التّصنيع، إضافةً إلى تصنيع الذّهب بعيار منخفض كعياري ( 14 و18) ولكن كل هذه الوسائل لم تفلح في ترغيب النّاس في الشّراء لأسباب اقتصادية وثقافية، فالعيارات المنخفضة للذّهب غير مرغوبة في فلسطين بشكل عام، والأوضاع الاقتصادية للنّاس وتقلّب الأحوال السياسية والاقتصادية والتّخوّف من المستقبل تقيّد تصرّفات النّاس فيما يخصّ النّفقات المالية، وبالرّغم من الجهود الكبيرة التي تقودها مديرية دمغ ومراقبة المعادن الثمينة في وقف الغش ومراقبة الأوزان وتسعير البيع والتّفتيش إلا أنّ الكثير من تجّار الذّهب يؤكّدون أنّ هذه الجهود مشكورة وجيّدة، ولكنّها لم تفلح في إحياء وتنشيط هذه التّجارة للظّروف الآنفة الذّكر، إضافة إلى بعض سلوكيات بعض التّجار الذين يلجأون للغش عبر البيع والتلاعب في الفواتير والأوزان والأسعار بطرق خبيثة لا يمكن ضبطها عبر التفتيش الرّسمي، وتفقد بقيّة التّجار القدرة على إقناع الزّبائن بصدقهم واستقامتهم أمام تلاعب التاجر المخادع.
كثيرة هي هموم تجار وصنّاع الذّهب في فلسطين، ويكادون يجمعون على أنّ تراجع هذا القطاع الاقتصادي له أسباب كثيرة، يعتبر ارتفاع سعر الذّهب و التراجع الاقتصادي في العالم والمنطقة وخصوصية الحالة الفلسطينية أحد أهم مسبّباتها، ويتندّر بعضهم قائلاً ( يا ذهب مين يشتريك؟).