يقولون إسرائيل أقول فلسطين

هيفاء زنكنة

ذهلت في السبعينات، انا القادمة من بلد يتنفس اهله فلسطين هواء معجونا بالقلب، ان يدهش الانكليز، اذا ما حدث وقلت فلسطين، وكأنني ارتكب خطيئة تستحق الاعتراف. يأتيني التصحيح سريعا. «أتعنيناسرائيل؟». يقولونها، ببرود، أكثر قسوة من صفعة ترج الدماغ . عبر الغاء الاسم الأصلي بكل ما يحمله من تاريخ وجغرافيا وثقافة، واستبداله باسم جديد مصطنع، كانوا يعملون بجد، باستثناء قلة قليلة من المناصرين، على تكريس الاحتلال والغاء وجود فلسطين وأهلها. كانوا يطبقون ما قاله بن غوريون، أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني، في تعليقه على النكبة، بأن الكبار سيموتون والصغار سينسون. هذا ما كان الصهاينة يعولون عليه لبناء مبنى بلا اساس، وليسقطوا عليه ميثولوجيا الارض الموعودة للصهيوني المختار. لكن الراحلين من الكبار لم يموتوا الا بعد ان سلموا مفاتيح بيوتهم المسلوبة الى الصغار . وكبر الصغار ليشكلوا جيلا جديدا من الفلسطينيين الذين لم ولن ينسوا. جيل يحمل بالاضافة الى المفاتيح روح المقاومة المسلحة والثقافة وروح المعرفة. 

جمع الاحتفاء بتوزيع جائزة «راصد الشرق الأوسط MEMO «، لافضل كتاب عن فلسطين باللغة الانكليزية، الذي اقيم بلندن، منذ أيام، ما بين نقل المعرفة وروح المقاومة في كتاب. ان الكتابة ونشر المعرفة وتوثيق ما تحمله الذاكرة الفردية لتستمر رافدا في ينبوع الذاكرة الجماعية هي أفعال مقاومة يحسب لها الكيان الصهيوني ألف حساب، ومحاربته الشرسة لحملة المقاطعة الثقافية والاكاديمية، أفضل دليل على ذلك، كما انه مؤشر على ان مقاومة الشعب الفلسطيني امتدت واتسعت لتحتضن حملات التضامن العالمية، بانواعها . وكما قال كونفوشيوس «من دون ان تعرف قوة الكلمات سيكون من المستحيل ان تعرف أكثر». 

من بين ثلاثين كتابا تم تقديمها للمسابقة، اختارت لجنة التحكيم، برئاسة الكاتبة والصحافية البريطانية فكتوريا بريتن، ثلاثة كتب. حاز كتاب «المعركة من أجل العدالة في فلسطين» لعلي أبو نعمة، الباحث والناشط واحد مؤسسي الانتفاضة الالكترونية، بجائزة أفضل كتاب ضمن التصنيف العام. يعمق أبو نعمة، في كتابه الجديد، محاججته حول قيام دولة واحدة تضم اليهود والفلسطينيين العرب بمساواة كاملة في فلسطين التاريخية، والتي دعا اليها في كتابه «بلد واحد»، الصادر عام 2007، مفندا مهزلة المفاوضات او التجارة التي يستفيد منها الانتهازيون في واشنطن وإسرائيل والأراضي المحتلة التي تبرر، من خلالها، إسرائيل وأمريكا، استمرار الاحتلال وقتله للاطفال.

تحدث أبو نعمة في كلمته المؤثرة، عند تلقيه الجائزة، من الطبيبة أنج سوي تشاي، مؤسسة «المساعدة الطبية للفلسطينيين»، عن حالة العزلة الشاملة التي يتم اخضاع أهل غزة اليها والتي تشمل الجانب الثقافي بالاضافة الى الاقتصادي والطبي. فالكتاب كما الانسان ممنوع من الدخول الىغزة أو مغادرتها، خاصة بعد اغلاق الانفاق والمعابر من قبل السلطة المصرية. ولايمكن ارسال الكتب كملف الكتروني بسبب انقطاع الكهرباء. والى اهل غزة الصامدين أهدى على كتابه، تحية لمقاومة حية ضد سياسة التطهير العرقي وتبرير الإبادة الجماعية للمواطنين الفلسطينيين.

ضمن تصنيف، أفضل كتاب أكاديمي، فازت د. ديانا ألان عن كتابها: «لاجئو الثورة: تجارب المنفى». وهو يستند الى اطروحتها البحثية لنيل شهادة الدكتوراة. تناولت فيه منظورا مغايرا لما هو شائع عن سكان المخيمات الفلسطينيين، خاصة من التقت بهم في مخيمات لبنان، عن مفاهيم الوطنية والعودة الى الوطن السليب بالمقارنة مع أولويات الحياة اليومية والآنية. 

وفاز كتاب «حكواتي القدس: حياة وعصر واصف جوهرية 1904 – 1948»، تحرير سليم تماري وعصام نصار، وقامت بترجمة الكتاب « القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية». وهو كتاب رائع في توثيقه لحياة المقدسيين اليومية، ورسمه لجغرافية مدينة القدس المهددة، الآن، بهمجية الاحتلال الصهيوني. ويمنحنا المؤلف تصويرا عن غنى القدس بأديانها، في حقبة تاريخية مهمة، بدءا من نهاية الحكم العثماني وحتى النكبة. توثق المذكرات حياة المؤلف (1879 – 1973)، كضابط في الجيش العثماني، وخدمته العسكرية في البحر الميت، وحبه للموسيقى وأغانيه وعلاقته بشخصيات بارزة في المدينة، مثل حسين الحسيني. ولايزال منزله موجودا، حتى الآن، في حارة السعدية بالقدس القديمة.

ولايمكن الحديث عن التوثيق التاريخي بدون جغرافيا المكان الفلسطيني وملامحه الذي تواصل قوات الاحتلال تخريبه وازالته بكل الطرق الممكنة، في ذات الوقت الذي كرس فيه فلسطينيون حياتهم للمحافظة على ديمومة الارض. من أبرز الفلسطينيين في هذا المجال هو الدكتور سلمان أبو ستة، رئيس هيئة أرض فلسطين، الذي تم أختياره كشخصية لنيل جائزة الانجازات مدى الحياة. من بين انجازات أبو ستة اعداد «أطلس فلسطين 1917- 1966»، كطريقة ضرورية للحفاظ على ذاكرة المكان، أزاء جرائم الاحتلال، التي يلخص بعضها قائلا في احدى المقابلات: «تهجير 900 ألف فلسطيني من 675 مدينة وقرية فلسطينية خلال عام 1948، وتدمير 535 قرية، وارتكاب 351 عملية قتل وطرد وذبح وتدمير ونهب وسلب بحق الفلسطينيين خلال عامي 1947-1956 فقط، فضلاً عن تدمير 300 إلى 500 موقع ديني أو تخريبه أو إهماله عمداً».

في كلمته، اثناء تسلمه الجائزة التقديرية، قال ابو سنة ملخصا جرائم الاحتلال الاستيطاني: «لقد استولوا على جغرافيتنا لكننا حفظناها في ذاكرتنا وحافظنا على تاريخنا». 

لقد انقلبت الآية، في العقدين الأخيرين، تدريجيا، فلم يعد الغربيون يتسابقون لتصحيح جملتك اذا ما حدث وذكرت فلسطين. فلسطين التي كانت مغيبة، في ظلمة قتل المستقبل عبر مسح الذاكرة، التاريخ، الثقافة، ويعيدون صياغتها وفق ما يريدون، باتت حاضرة يوميا. الفضل في ذلك يعود الى استمرارية المقاومة الفلسطينية، على اختلاف مستوياتها، من البندقية الى القلم، من رسم الخريطة الى تأسيس المواقع الالكترونية، من نشر الحكاية الى البحث الاكاديمي، من حملات التضامن ضد الاحتلال والعنصرية الى بناء جسور السلام العادل بين الشعوب. آخذين بنظر الاعتبار ان هذه السيرورة لم تعد ضرورية للشعب الفلسطيني واللاجئين منه وحقهم بالعودة فحسب بل باتت تشمل، أيضا، موجات اللاجئين الجدد من عراقيين وسوريين المشردين بالملايين على وجه الأرض.