قضية فلسطين في فجر حياتي

قضية فلسطين في فجر حياتي

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

من أربعة وسبعين عاما ولدت فى مدينة المنزلة بأقصى شمال دلتا النيل . وفى مجال التعليم كان هناك الكّتاب لتحفيظ القرآن ... ثم تَعَلم بعض معالم القراءة والكتابة فيما يسمي " المرحلة الإلزامية " أو الأولية " ، ويبدأ التعليم الجاد بالمرحلة الابتدائية ( أربع سنوات ) ، ثم المرحلة الثانوية ( خمس سنوات ) منها أربع للثقافة العامة . أما السنة الخامسة فهى للتخصص الأدبى أو العلمي .

**********

 التحقت بالمرحلة الابتدائية فى قرابة العاشرة من عمري ، وكانت المدرسة تضم عددا طيبا من الأساتذة الإخوان .. منهم عباس عاشور أستاذ اللغة العربية ، وإبراهيم العزبى : استاذ اللغة الإنجليزية ، والمهدى قورة أستاذ التربية الفنية ( الرسم والأشغال ) .

 وكانت بوادر القضية الفلسطينية تلوح فى الآفاق المصرية ، وذلك فى منتصف الأربعينيات ، ويتولى الإخوان المسلمون الدعاية للقضية ، وعملية الشحن المعنوي، وقد قاد الإخوان مظاهرة بلغت مليونين من المصريين سنة 1947 وخطب فيها الإمام الشهيد قائلا " إن كان ينقصنا السلاح ، فسننتزعه من أعدائنا ونلقي بهم فى قاع البحار "

**********

وقد استطاع الأستاذ ابراهيم العزبى – استاذ اللغة الإنجليزية ، أن يشدنى إلى الإخوان لأكون شبلا من أشبالهم ، مؤمنا إيمانا صادقا بفكرهم ، وذلك لما وجدت فيه من أبوة حانية وحسن معاملة ، وتشجيع فى المجال العلمى .

 وكان الأستاذ إبراهيم العزبي يشحن نفوسنا دائما بحب فلسطين . ويقتطع جزءا من حصة اللغة الإنجليزية للحديث عن فلسطين والتوعية بقضيتها . وكثيرا ما كان يوظف اسم " فلسطين " Palestine في الأمثلة التي يستعين بها في الشرح .وأذكر من كلماته :

  علينا أن نحب فلسطين ؛ لأن حب الوطن من الإيمان .

 فقال له التلميذ عبده عافية : لكننا تعلمنا أن وطننا هو مصر لا فلسطين . ومما حفظناه من الأناشيد نشيد : مصر أرضنا = زي أمنا

 هذا صحيح . ولكن من قواعد ديننا : أن كل أرض فيها مسلم يؤمن بالله ورسوله تعتبر وطنا لكل المسلمين , وعليهم جميعا الدفاع عنه .

**********

 كانت فلسطين بطوابعها الدينية ، وأصالتها التاريخية تهيمن على مشاعرنا من الصغر ، وثمة عدد من المواقف مرت بي ، والتقيتها فى سني الباكرة , منها أن من بواكير مانظمت من الشعر كان في فلسطين ... والقصيدة طويلة اتذكر منها الأبيات الآتية :

 فلسطينُ أمي ... وحقِّ اليقينْ

وحقِّ الشهيدِ غدا تسمعين

غدا تسمعين بأنا نسودْ

وأنا حصدنا فلولَ اليهود

غدا تسمعين بأنا نعود

حشودا قوارعَ تتلو حشود

كمثلِ المنايا...كمثل الأسود

نهزُّ الجبال , ونُدمي الرعود

غدا تسمعين بأن الخلودْ

ينادى لِقانا وراءَ الحدود

وأنَّا حطَمْنا حديدَ القيود

وأنا بعثنا كفاحَ الجدود

غدا تسمعين لصوتِ الشهيد

يفوح عبيرا كعطرِ الورود

إذا ما رآنا نعودُ...نسودْ

وروحُ السلام إليك تعود

فلسطينُ مهدَ الهدى واليقين

وحق الشهيد غدا تسمعين

غدا تسمعين بأنا نسود

وأنا حصدنا فلول اليهود

 وقد نشر القصيدة بعد ذلك الأستاذ " على الغاياتى - رحمه الله- فى صحيفة منبر الشرق .

**********

 وتأخذني الحماسة وأنا تلميذ في أواخر المرحلة الإبتدائية ، وأتحدث إلي أستاذنا عبد الرحمن جبر رئيس منطقة الإخوان – منطقة المنزلة بمحافظة الدقهلية ، وكان الإخوان قد بدءوا فى التطوع للجهاد فى فلسطين .

قلت له : أريد أن أتطوع لأداء ضريبة الجهاد ، وإنقاذ فلسطين .

 لكنك صغير السن .. فأنت لاتتعدى الثالثة عشرة من عمرك .

 لكنى أعلم أن من الأطفال من قاتل فى " بدر" مثل ( ابنَيْ عفراء).

 كان الاستاذ عبد الرحمن يعرف أنني وحيد والدي , ابتسم وقال : إن شاء الله قد نحتاجك مستقبلا ، فنطلب منك التطوع والتقدم للجهاد ...

 أرجوك ... فاليوم خير من غد .... اسمحوا لى بالتطوع ، ولو جعلتم مهمتي أن أقدم للمجاهدين " الشاى والقهوة " . فقال وهو يبتسم مستحيل ، فعندهم أمر بعدم التدخين .. وشرب الشاى والقهوة .

 وبت ليلتها ، وأنا فى بكاء متواصل .

**********

 ثم وانا تلميذ في آخر المرحلة الابتدائية قامت مدرستنا برحلة إلى معالم القاهرة ، ومن ضمن هذه المعالم " المتحف الزراعي " بالدقي ، تقدم منا احد السعاة المسئولين عن قسم من أقسام المتحف ، وقدم إلينا نفسه دون أن نطلب منه ذلك :

  أخوكم عبد السميع قنديل ، من إخوان " إمبابة " وقد تطوعت للجهاد فى فلسطين . وإن شاء الله سيكون اسمي فى أول قائمة من قوائم الشهداء .

وحقق الله ماتمنى وقرأت اسمه فى أول قائمة من قوائم شهداء الإخوان فى فلسطين .

وإنصافا للحقيقة التاريخية أعرض على القارىء ما علمته بعد ذلك ، وخلاصته أنه اختلف مع شقيقه عبد المنعم اختلافا شديدا :كل منهما مصر على التطوع للجهاد فى سبيل فلسطين ، وأبوهما شيخ كبير . وأمام إصرارهما أجاز الأب تطوعهما .... وجاهدا فى الله حق جهاده . واستشهد عبد السميع ، وعاد عبد المنعم ... بعد تآمر حكامنا ، والقبض على الإخوان المجاهدين ،وعاش عبد المنعم بعدها سنوات صاحبا ومديرا لمحل ساعاتى بورسعيد بميدان الدقى بالجيزة .

**********

 وتطوع من إخوان المنزلة العامل عبد الحميد الزهرة للجهاد في فلسطين ضمن كتائب الإخوان، وأصيبت قدمه برصاصة.. وعاد إلى مصر، ثم المنزلة. وحكى  على استحياء وبمصداقية كاملة  ما قام به، وسبب إصابته.

 وبهذه المناسبة أذكر موقف (فتحي. ط)، وهو عضو في أحد الأحزاب الأخرى. تطوع من أجل فلسطين  أو هكذا قال  وغاب عن المنزلة قرابة شهرين، ثم عاد بغترة وعقال، وأخذ يروي قصة الملاحم التي قام بها في فلسطين، وعدد اليهود الذين لقوا مصرعهم على يديه.

سأله واحد من أهل المنزلة:

 فلماذا عدت يا فتحي، ولم يتمسك بك الجيش، أو كتائب المتطوعين؟

 أنا راجع هربان... لأن هناك فلسطينية ... ملكة جمال ... من أسرة كبيرة جدًّا أحبتني، وتعلقت بي، وحرص أبوها وأسرتها على أن أتزوجها، ولكني بصراحة لم أجد في نفسي استعدادًا لأن أبقى في فلسطين مع زوجتي هذه، أو أصحبها إلى مصر... ظروفي لا تسمح، هذا هو السر في أني تركت فلسطين وعدت مرة أخرى.

سأله أحدهم: إيه هيَّ أنواع الأسلحة للي أنت ادربت عليها يا فتحي؟

 أسلحه كثيرة، أنا حقول إيه ولا إيه، كان هناك أسلحة أشكال وألوان، المهم موش السلاح، ولكن المهم الإيد اللي بتشيل السلاح، وأنا والحمد لله شهد لي الكل بالقوة اللي مافيش زيها.

وكان الناس يستدعون فتحي للتسلية بمثل هذه الحكايات الخرافية التي يقصها.

وهذا النموذج يوضح الفرق الشاسع بين متطوع الإخوان عبد الحميد الزهرة، وأمثال "فتحي. ط". إن الفرق بينهما هو كالفرق بين السماء والأرض. واعتذر للأخ عبد الحميد عن هذه الموازنة. وهذا يذكرني بقول الشاعر:

ألم تر أن السيفَ ينقص قدرُهُ                    إذا قيل: إن السيف أمْضى من العصا

**********

 إنه حديث ذو شجون ... أوردتُه عفو الخاطر ، من قبيل التذكرة , حتى يبقى الارتباط النفسي بيننا ، وبين فلسطين والمسجد الأقصى ، والقدس ... أرضا , وتراثا , وجهادا, ومعاناة , وواقعا..وقيما ...حيا ... حيا لايموت .