التحبب (14)

من أساليب التربية في القرآن الكريم

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

 يقول الله تعالى : (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا . . . . ))(1) .

 هكذا تفعل الكلمة الطيبة في نفوس السامعين ، تدخل القلوب دون استئذان ، ويتبوأ صاحبها المكانة المقبولة في نفوسهم ، ويستمعون له ، ويحبونه ، أما الكلمة الخبيثة ، فعلى العكس من ذلك تنفـّر الناس من صاحبها ، ويجدونه ثقيلاً على أنفسهم ، ثقيلاً على قلوبهم .

 فحين عاتب الله عزّ وجلّ نبيّه وحبيبه محمداً عليه الصلاة والسلام حين أذن للمنافقين أن لا يخرجوا معه في غزوة تبوك بدأه بكلمة خفيفة على النفس ، محببة لدى المخاطَب ، فقال سبحانه : (( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) ))(2) فكان العفو قبل العتاب .

 وحين عاتبه في أمر ابن أم مكتوم ، لم يخاطبه مباشرة بل حدّثه بضمير الغائب ، فقال : (( عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) ))(3) ، ولم يقل عبستَ وتوليتَ أن جاءك الأعمى . . . فإذا كان رب العزّة يتحبب إلى خلقه ، ويتودد إليهم ـ وهو الودود الرحيم ـ أفلا ينبغي لنا أن نسلك هذا الطريق الذلول لنصل إلى قلوب الناس ؟ ، والمؤمن ألوف مألوف .

 والله سبحانه رؤوف بعباده حريص على إيمانهم ، يتحبب إليهم برفقٍ قائلاً : (( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) ))(4) .

 ويقول : (( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) ))(5) .

 ويخاطب رسوله الكريم : (( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) ))(6) ، (( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ))(7) . وهل أروع من تحبب المولى إلى عباده؟!

ويخاطب موسى عليه السلام حين أمره أن يترك مصر إلى سيناء بالمؤمنين (( فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) ))(8) . فتجيب إلينا بكلمة (( عبادي )) .

 وهذا لقمان الحكيم الذي أكرمه الله سبحانه وتعالى بالهداية ، فشكره على نعمته ، فزاده منها ، يقول لولده متحبباً متقرباً ينصحه : (( يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ))(9) ،

(( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) ))(10) ،

 (( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) ))(11) .

 فكرَّرَ كلمة (( يا بُنَيَّ )) وهي كلمة لطيفة أنيسةٌ تدخل القلوب وتستقرّ بها .

 وحين يأمرنا الله تعالى ببرّ الوالدين ، يتلطف معنا ، فلا يستعمل صيغة الأمر كي لا يستثقله الإنسان فينفر منه ، بل يأتي بصيغة الماضي والتذكير بالفضل : (( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ . . . ))(12) ،

 (( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا . . . . ))(13) .

 (( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا . . . . ))(14) .

 وتراه سبحانه وتعالى كثيراً ما يستعيض عن الأمر بالوصية :

 [ (( ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )) ،

 (( ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )) ،

(( ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) ](15) .

 ـ هذا يوسف عليه السلام يخاطب أباه بأدب ولطف وتحبب ، فيستعمل كلمة (( أَبَتِ )) (( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا . . . ))(16) .

 (( وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ . . . )))(17) .

 ـ وإبراهيم الخليل يتلفظ بالكلمة نفسها لأبيه الكافر ، متقرباً إليه ، يدعوه إلى الإيمان ويتحبب مكرراً هذه الكلمة التي يعشقها الآباء ، ناصحاً وواعظاً :

 (( إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ

أ ـ (( يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا )) ؟!

ب ـ (( يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) )) .

جـ ـ (( يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) )) .

د ـ (( يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) ))(18) .

 ـ وهذا ابنه إسماعيل الذبيح يخفف عن أبيه لواعجه ، ويساعده على الاستسلام لأمر الله ، وطاعته .

 (( يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ))(19) .

 وهذه البنت الواعية ، الموقّرة لأبيها تعرض عليه بأدب أن يستأجر موسى عليه السلام بالكلمة نفسها .

 (( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ))(20) .

 والأمثلة في هذا الباب كثيرة .

 كما أن الأنبياء عليهم الصلوات والسلام جميعاً ، على الرغم من أذى أقوامهم لهم ، وسوء معاملتهم إياهم ، تجدهم حين يخاطبونهم ، يتوددون إليهم ويتقربون بقولهم : (( يا قوم )) ، وفي القرآن عشرات الأمثلة من هذا التودد منها :

أ ـ قول موسى عليه السلام : (( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ

 فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) ))(21) .

ب ـ قول إبراهيم عليه السلام : (( فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ))(22) .

جـ ـ قول نوح عليه السلام : (( فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ))(23) .

د ـ قول هود عليه السلام : (( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ))(24) .

هـ ـ قول صالح عليه السلام : (( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ

 رَبِّكُمْ ))(25) .

و ـ قول شعيب عليه السلام : (( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ

 رَبِّكُمْ . . ))(26) .

ز ـ الرجل الصالح في سورة يس : (( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا

 الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) ))(27) .

ح ـ مؤمن آل فرعون : (( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ

 (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) ))(28) .

 حتى إنَّ فرعون ذلك المتكبر المتغطرس ، حين أراد أن يتقرب إلى الغوغاء من شعبه ليضلهم (( قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ))(29) .

 فحريٌّ بنا أن نكون من أتباع الأنبياء ، محبين لقومنا ، ندعوهم إلى العودة إلى الله سبحانه وتعالى بلطف وتحبب .

 وهذا ربُّ العزة يمدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلاً : (( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ))(30) ، (( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ))(31) .

 ولنا فيه عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة ، وفي إخوانه عليهم الصلوات جميعاً .

               

(1) سورة إبراهيم ، الآيتان : 24 ، 25 .

(2) سورة التوبة ، الآية : 43 .

(3) سورة عبس ، الآيتان : 1 ، 2 .

(4) سورة الزمر ، الآية : 53 .

(5) سورة العنكبوت ، الآية : 56 .

(6) سورة الحجر ، الآية : 49 .

(7) سورة الإسراء ، الآية : 53 .

(8) سورة الدخان ، الآية : 23 .

(9) سورة لقمان ، الآية : 13 .

(10) سورة لقمان ، الآية : 16 .

(11) سورة لقمان ، الآية : 17 .

(12) سورة لقمان ، الآية : 14 .

(13) سورة الأحقاف ، الآية : 15 .

(14) سورة العنكبوت ، الآية : 8 .

(15) سورة الأنعام ، الآيات : 151 ـ 153 .

(16) سورة يوسف ، الآية : 4 .

(17) سورة يوسف ، الآية : 100 .

(18) سورة مريم ، الآيات : 42 ـ 45 .

(19) سورة الصافات ، الآية : 102 .

(20) سورة القصص ، الآية : 26 .

(21) سورة المائدة ، الآية : 20 .

(22) سورة الأنعام ، الآية : 78 .

(23) سورة الأعراف ، الآية : 59 .

(24) سوسورة الأعراف ، الأية : 65 .

(25)span> سورة الأعراف ، الآية : 73 .

(26) سورة الأعراف ، الآية : 85 .

(27) سورة يس ، الآيتان : 20 ، 21 .

(28) سورة غافر ، الآية : 30 .

(29) سورة الزخرف ، الآية : 51 .

(30) سورة القلم ، الآية : 4 .

(31) سورة آل عمران ، الآية : 159 .