الدكتور خالد الكركي

رجل في وقت شح فيه الرجال!

د. صلاح عودة الله- القدس المحتلة

[email protected]

انه أردني عربي إنسان, ثلاث صفات كاملة متكاملة اجتمعت فيه وبامتياز, انه الدكتور خالد الكركي خريج الجامعة الأردنية ورئيسها الحالي..انه ابن الكرك التي يفتخر كل أردني أن يكون منتسبا إليها, وبدورها تفخر هذه القلعة الصامدة بأبنائها, ويزداد فخرها ويعظم بابنها البار الدكتور خالد الكركي.

إذا تحدثنا عن الانتماء للأردن فالدكتور خالد هو أردني من الطراز الأول, وإذا تطرقنا للعروبة فهو عروبي بلا منازع, وإذا تناولنا الإنسانية فهي تفخر بأنها مدرسة هو مؤسسها, وأما الأخلاق فهي قلعة هو بانيها.

لم يحصل لي الشرف أن أكون أحد خريجي الجامعة الأردنية, أقدم وأول جامعة في الأردن الغالي, بل إنها أم الجامعات الأردنية, ولم يحصل لي الشرف أيضا أن ألتقي بالدكتور الكركي, ولكن كنت أتشوق إلى الاستماع إلى خطاباته وكلماته عندما كان رئيسا للديوان الملكي, إنها خطابات تجعلك على يقين تام بأن اللغة العربية الأصيلة لا تزال بخير, خطابات كل كلمة فيها لها معانيها ومفاهيمها, وفي بعض الأحيان يتوجب عليك إعادة سماعها وقراءتها مرات ومرات.

"أبدأ بسلام يمتد من عمّان إلى القدس، ومن الكرك إلى الخليل، ومن السلط إلى نابلس، أبدأ بالسلام على روح محمود درويش ، وعلى أهلنا الأحياء والشهداء على أرض فلسطين، وقد اجتاحنا حزن نبيل منذ اللحظات الأولى لنبأ الرحيل، وأسى فاض حتى عبر النهر نحو دروب الجليل، وأبدأ بالسلام من شرفات عماّن، ومن كتّاب الوطن ومثقفيه، وطلابه، ومفكريه، وسائر الذين ظلوا يستعيدون قصائد محمود درويش وهم يغذون الخطى نحو فلسطين، مدنها، وبيوتها، وشهدائها من البحر إلى النهر، وانتظارها ليوم التحرير العظيم"..هذه افتتاحية كلمة الدكتور الكركي الذي ألقاها في عمان في تأبين وتوديع شاعرنا العربي الفلسطيني محمود درويش وهو في طريقه إلى أرض فلسطين الطاهرة ليدفن فيها, إنها كلمات تثبت بشكل قاطع لا يقبل الشك بأن صاحبها عروبي قومي, فلا فرق بين عمان والقدس ودمشق والقاهرة وصنعاء, كلمات صادرة من القلب والعقل تؤبن شاعرا فلسطينيا عربيا بثوب يدعو إلى الوحدة العربية ولم شمل الصف العربي المتشرذم, هذا الصف إن تم توحيده هو الذي سيحرر فلسطين, ولكن فلسطين الذي يريدها الكركي كما كانت من البحر إلى النهر, وليست فلسطين"الدايتونية".

ويمضي قائلا في كلمته مخاطبا الراحل درويش( فانهض, فهذا زمان خروج الأمة قبل غروبها الأخير، وقبل أن تنحني كل زيتونة على كبدها "من خشية أن تصدّعا")..كلمات كأنها تقول:انهض أيها"المسيح" وهب الحياة لمن يظنون أنهم أحياء ولكنهم في قبورهم يقبعون, كلمات عظيمة يلفها ثوب الحب والحنين, الحنين للوطن ووحدة الصف ولم الشمل, ومقاومة عناصر الفرقة بكافة صورها وأشكالها, تماما كما فرق جشع والد "ريا" محبوبة الشاعر الأموي الصمة القشيري ووالده بينهما مغالاة في مهرها, فيقول:بكت عيني اليسرى فلما زجرتها**عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا..لمغتصب قد عزه القوم أمره**حباء يكف الدمع أن يتطلعا..تلفت نحو الحي حتى وجدتني**و جعت من الإصغاء ليتا و أخدعا..وأذكر أيام الحمى ثم أنثني**عل كبدي من خشية أن تصدعا.

لكن الصمة يعاوده الحنين بين الحين والحين إلى الأرض التي كانت تجمعه وتضمه مع ريا، وإلى مرابع الصبا والشباب، وذكريات الطفولة البعيدة وتفيض نفسه هياما وتعلقا وحسرة، إلى نجد وساكنيها، في لغة شعرية عذبة، وعاطفة عميقة صادقة، ونفس شعري آسر, فيقول:"قفا ودعا نجدا ومن هل بالحمى**وقل لنجد عندنا أن يودعا..بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربا**وما أحسن المصطاف والمتربعا".

وفي هذه الأجواء ومن وحي معاناة الصمة وإصراره على العودة الى التراب الذي جمعه مع محبوبته, يختتم الدكتور الكركي كلمته التأبينية الرائعة قائلا:(فيا فلسطين، ويا محمود، أيها المرهف والشاهق والرائع والنبيل، أيها المبدع والحاضر أبدا، والمناضل والإنسان، نقف شكراً وامتنانا عميقا لأنك كنت يوما بيننا، وأعطيتنا، من بغداد إلى قرطاج، كلاما جميلا، وحنينا طويلا إلى القدس وعكا وحيفا ويافا وسائر المدن القديمة. وكلّها ستفتقد شاعرها وعاشقها، كما سيبحث عنه زهر اللوز، وعصافير الجليل، واللغة العربية، وفراشات المدى في كل مكان..سلام لروحك، وسلام لإخوتنا في الحركة الثقافيّة في فلسطين، سلام من الأردن، أهله وكتّابه وشهدائه، ومن سائر الذين يناضلون حتى يزول الاحتلال البغيض، في اللطرون وباب الواد، يتذكرون محمد الحنيطي وشيوخ الثورة والمقاومة على ثرى فلسطين..محمود، كم سنفتقدك حيا هنا وهناك, وكم ستبقى حيا بيننا أبدا تغنّي: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة")..نعم يا دكتورنا, ما دمت أنت وأمثالك تعيشون بيننا وتحملون هذا الفكر النير, سنبقى أبد الدهر نغني على هذه الأرض, سيدة الأرض ما يستحق الحياة, فتحرير فلسطين كل فلسطين بات قاب قوسين أو أدنى, وما بعد الليل إلا بزوغ الفجر, وكما قال الراحل العظيم درويش:"يا دامى العينين والكفين, إن الليل زائل..لا غرفة التوقيف باقية, ولا زرد السلاسل..نيرون مات, ولم تمت روما بعينيها تقاتل..وحبوب سنبلة تموت, ستملأ الوادى سنابل".

الدكتور الكركي والوصايا السبع:تعتبر كلمة الدكتور خالد الكركي التي القاها في حفل تخريج الفوج الأخير من طلبة الدراسات العليا في الجامعة الأردنية بمثابة"دستور" يجب الأخذ به وتنفيذه بصورة متكاملة, فهي وثيقة ان قمنا باحترامها فلن نضل أبدا, انها كلمة يندر أن يكون لها مثيلا.

لقد دعا الدكتور الطلبة الخريجين الى التمسك بالحرية ورفض سائر أشكال التحكم والوصاية, ولكنه وفي نفس الوقت شدد على أن الحرية التي لا تكون وسيلة لسعادة الناس واستكمالهم فضائل الفكر والأخلاق لا قيمة لها بل يجب نبذها, فالحرية الحقيقية هي تلك النابعة عن المعرفة والعقل والرؤية, ولا وجود لثقافة السيد والعبد في مجال العلم, داعيا الى نسيان الدرس القديم الخاطىء القائل"من علمني حرفا صرت له عبدا".

ودعا الخريجين الى تقييم أنفسهم ومعرفة من هم, فالحصول على الشهادة الجامعية وان كان هو الهدف المرجو لكنه ليس نهاية المطاف, مطالبهم بعدم العيش داخل فقاعة الأسرة والوطن الضيق, ولا خير في شهادات علمية لا تعمل على محاربة المرض والفقر والأمية والطمع والاحتلال ولا تناصر المستضعفين, داعيا الخريجين في هذا السياق الى الانضمام الى الحملة العالمية لمقاطعة الكيان الصهيوني أكاديميا, فجرائمه واضحة وضوح الشمس بحق الاخوة الفلسطينيين.

وتطرق الكركي الى  وجع ما أصبح يسمّى "الوِحدة الوطنيّة" بين من يصنَّفون أردنيّين فقط وبين من يصنَّفون فلسطينيّين فقط, معتبرا انّ الكلام عن وحدة وطنيّة يوحي بأنّ هناك اثنين، كما نجح سايكس وبيكو في فصلِهما وسلخِهما عن بعض، وكم هما مرتاحان في قبريهما حين تُفصَل الهُوّية بهذا الشكل المتعسّف المتخلّف، وكم يسعدان حين يريان بعضَنا يصرّ على الفصل بدعوى أنّ تطابقَ الهويّة هو بالضرورة قبولٌ بمبدأ الوطن البديل، لا محاولةٌ لإعادة الصراع إلى أصله: عربيّ "إسرائيلي" لا فلسطينيّ "إسرائيليّ", وقد أثبت التاريخ مواقف الأبطال الأردنيين في الدفاع عن فلسطين جنبا الى جنب مع اخوانهم الفلسطينيين مذكرا الطلبة بأننا كلنا فلسطينيون.

وطالب الخريجين بمحاربة كل ظواهر العولمة والتقليد الأعمى لقوى الغرب والاستعمار ومقاومة من هم من بني جلدتنا الذين يدعون بأنهم ديموقراطيين وجل همهم هو الحصول على الجوائز العالمية متسلقين على ظهورنا التي كسرها التخلف والبعد عن الانتماء, داعيا الخريجين الى اصلاح أحوالنا بالعقل والعمل, لكن من غير أن يدفعوا انتمائهم العربي ثمنا لتقدير أسياد العالم لهم كما يفعل"المتسلقون".

ودعا الكركي الخريجين الى المنافسة الشريفة فهي أهم سبيل للتقدم والرقي و مطالبهم بعدم التحول الى فئة من الشاكين المتشاكين الذين يغطّون على فشلهم حتّى في المحاولة، بالانتقاد المستمّر للآخرين الذين يحاولون, وعليهم أن يدركوا أن من لا يعملْ ويتعبْ من أجل نفسه والآخرين فإنّ نقده أوانتقاده لا يحمل شرعيّة أبدا.

واخر وصاياه, فذكر فيها الخريجين بضرورة اخلاصهم للعقل والمعرفة والبحث, داعيا اياهم ومهما تعددت بهم السبل وانخرطوا في مشاغل الحياة أو ابتعدوا عن العالم الأكاديمي, أن يبقوا أبناء أمة"اقرأ", وأن يعيدوا للكتاب حضوره كحضور رغيف الخبز,  وأن يعيدوا للعربيّة الفصيحة ألقَها. وذكرهم أن قيم التسامح واحترام الآخر مرتبطة بالمعرفة بالضرورة، مطالبا اياهم بعدم مهاجمة شيئاً لم يفهموه بعدُ تماما، فلطالما كان العلم أساسا للأخلاق والنبل والسلوك المتحضّر.

واختتم الدكتور الكركي كلمته الرائعة سائلا الخريجين:من سيغيّر كلّ الذي بنا سواكم ومن سيحملنا في هذا الطريق الطويل؟, أما تذكرون قصيدة محمود درويش، التي فيها يسأل الأب ابنه: "يا ابني تعبت..أتحملني؟ فيجيب:مثلما كنتَ تحملني يا أبي، وسأحمل هذا الحنين إلى أوّلي وإلى أوّلهْ, وسأقطع هذا الطريق إلى آخري..وإلى آخرهْ".

وأختتم بهذه الكلمات الرائعة التي قالها دكتورنا ومعلمنا خالد الكركي العظيم في مناسبة أخرى:"أننا نتوق إلى زمان جديد، لا تصبح فيه السياسة رقاً، ولا التعليم تلقيناً، ولا العمل سخرية، ولا الحديث عن الحقوق خروجاً..إنه زمن وفضاء من الحلم يشرق في نفوس الناس وهم يعرفون أنفسهم وأمتهم ومواقعهم، ويتقدمون نحو فكرة الأمة والدولة، يعطونها وحدتها وشرعيتها، وأول شروط هذا التحول أن ينادي المثقفون على الناس بالحرية، وأن يطرحوا عليهم اسئلتها، وأن يوقدوا في أرض هذه الأمة منارات للصعاليك، والخوارج على سائر أشكال الأستبداد، والخوف، والقهر، والظلم، وأن يعلموهم أن باب الحرية “بكل يدٍ مضرجة يدق” وأن الألم العبقري الذي يتحملون هو بشأن الخلاص الجديد".

دكتورنا الغالي, أنت رجل والرجال قليل, أنت متعلم ومثقف في وقت شح فيه المثقفون..نفتخر بك ونعتز, ونفخر أكثر وأنت تقف على رأس أم الجامعات في الأردن الغالي والحبيب..لمحمود درويش الرحمة ولك طول العمر والبقاء.