سنة التدافع وعوامل النصر (14)

سنة التدافع وعوامل النصر (14)

عمر حيمري

لقد عبر القرآن الكريم عن هذا النوع من القيادة التي مارسها الرسول صلى الله عليه وسلم ب " الأسوة الحسنة " كما هو ثابت في أكثر من آية  : [ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ] ( سورة  الأحزاب آية 21   )  : [ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ] (سورة الممتحنة آية 4 ) [ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك ممن المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ] ( النحل  آية 120-121-122  ) . إن إبراهيم عليه السلام ، كان  قائدا وإماما بمنزلة أمة كاملة ، فهو نموذج في الإيمان يهدي إلى الخير والطاعة والشكر والفضل والكمال واستعمال الحجة والعقل والمنطق ، وحده واجه الحرق بشجاعة وتوكل على الله  وكأنه أمة ولذلك استحق أن يكون أسوة . إلا أن في الحديث وردت كلمة قائد في قوله صلى الله عليه وسلم { أنا قائد المرسلين ولا فخر } ( حديث جابر عن عبد الله )  . والقرآن الكريم يقر نبي الله صلى الله عليه وسلم على هذا ، حينما يقول [ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ] ( الأحزاب آية 21  )  وفي تقديري ، أن مفهوم الأسوة أبلغ وأقوى من مفهوم القيادة ، لأن هذا المفهوم الأخير يشترك فيه الإنسان مع  الحيوان ، فالقائد قد يكون متسلطا ديكتاتوريا ظالما متفسخا أخلاقيا وهذا النوع من القيادات لا يصلح للتأسي ولا للاقتداء ، والإطاحة به والثورة عليه واردة في أي فرصة تتاح لأتباعه المجبرين على السير في ركابه ، لأن القيادة في ظل الرتب العسكرية والممارسات أللإنسانية واللأخلاقية والتمييز العنصري  ، تأتي دائما بنتائج عكس الأهداف والإستراتيجية التي ترسمها  ، وتحدث جوا مشحونا بالحذر وعدم الثقة بين القائد وأتباعه ، يتطور مع الزمن إلى  حقد وكراهية . لهذا أمر الحق سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم مع أنه معصوم من الخطأ ، بالين مع أصحبه ، والرحمة بهم ،  وبممارسة الشورى معهم   [ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين  ] ( سورة آل عمران آية 159 ) على أساس أن هذه العناصر ( اللين ، الرحمة ، الشورى ) هي  مفتاح النجاح في القيادة ، لذلك  ذكر الله سبحانه وتعالى حسن الخلق والمشاورة  قبل التوكل على الله ، فاللين والرحمة والاستغفار لمن تحت إمرة القائد ، هي من مقومات التوكل على الله وأساسه . لأن الله  يحب المتوكلين عليه ولا يجوز ولا يمكن أن يكون المتوكل الذي يحبه الله سبحانه وتعالى إلا على خلق عظيم  ، زيادة على هذا فالأخلاق الحميدة تيسر التواصل مع الآخر سواء كان من الأتباع أو الخصوم ، والابتسامة في وجه الآخر تؤثر على عقله الباطن أو ما يسمى باللاشعور فتجعله قريبا من القائد ، ولذلك كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس على أن لا تفارقه الابتسامة في وجه أصحابه حتى صارت له شعارا . يقول عبد الله بن الحارث: "" ما رأيت أحدا أكثر ابتسامة من رسول الله "" . فبالابتسامة والحب والتقدير لمن حوله ملك الرسول صلى الله عليه وسلم، أسوة الأمة وقائدها، القلوب وخاض بهم الحروب فحقق الانتصارات. يقول محمد قطب : "" لا يكفي المال وحده لتأليف القلوب ولا تكفي التنظيمات الاقتصادية والأوضاع المادية ، لا بد أن بشملها ويغلفها ذلك الروح الشفيف المستمد من روح الله ألا وهو الحب ، الحب الذي يطلق البسمة من القلوب فينشرح لها الصدر وتنفرج القسمات فيلقى الإنسان أخاه بوجه طليق "" . والإمام ابن عيينة يقول : "" والبشاشة مصيدة المودة ، والبر شيء هين : وجه طليق وكلام لين ""  . ولكن مع كل هذه الصفات الحميدة التي يجب أن يتسم بها  القائد يبقى عدم التردد وصفة الحزم والعزم مطلوبة في القائد ، باعتبارها حصن متين يقي القائد من الوقوع  في الضعف والفشل ، ثم التراجع عن  تحقيق  مهمة  قيادة  الأتباع إلى تحقيق الهدف والمرمى المنشود ألا وهو النصر . يقول صلى الله عليه وسلم { لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل  } ( رواه ابن عباس عن أحمد والنسائي والطبراني ) . وهنا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد أغلق باب التردد والتراخي وفتح باب الحزم والعزم . لأن أي تأخير أو تردد أو تراخي ، قد تكون له انعكاسات ضارة على مستوى الثقة بالنفس والجرأة على اتخاذ القرار الصائب والمناسب في الوقت المناسب ، كما يتسبب في  تضييع الظرف المواتي وتفويته . وقديما قيل " إذا هبت رياحك فاغتنمها " وأي خسران لاغتنام الفرصة ، معناه خسران مصير المواجهة ونتيجة الاقتتال وحصد الهزيمة . يقول السيد قطب في الظلال "" ... وألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك على صحابته درسا نبويا عاليا فللشورى وقتها حتى إذا انتهت جاء وقت العزم والمضي والتوكل على الله . ولم يعد مجال للتردد وإعادة الشورى والتأرجح بين الآراء . إنما تمضي الأمور لغايتها ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء . وهو بذلك يربي أمة ، والأمم تتربى بالأحداث . ففي الوقت الذي كان يمضي فيه نظام الشورى ونظام الحرمة بعد الشورى و لا بد أن يمضي الأمر الذي استقر عليه قلبه ومشاعره حتى يمضي قدر الله ... ""  ( الظلال  الصفحة  460  المجلد الثاني ) . ويضيف السد قطب قائلا : "" ...  إن مهمة الشورى هي تقليب أوجه الرأي ، واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة ، فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد ، انتهى دور الشورى وجاء دور التنفيذ ... في عزم وحسم  ، وفي توكل على الله ، يصل الأمر بقدر الله ويدعه لمشيئته تصوغ العواقب كما تشاء ""  ( المرجع السابق )                     

.  لقد نفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه ومارس الشورى في كل غزواته ، في بدر وفي أحد وفي قضية الأسرى ... وحث عليها في قوله : { ما خاب من استخار ولا ندم من استشار } ( المعجم الأوسط للطبراني ) . كما نفذ تعاليم  ربه في مسألة العزم والتوكل على الله ، دون أن يميز نفسه عن أصحابه وبدأ بنفسه صلى الله عليه وسلم ، إذ  لبس لأمته ودرعه واستعد للحرب على رأس جيشه ، فأعطى بذلك النموذج والمثال من نفسه لأتباعه في العزم والمضي على ما ستقر عليه الرأي والقلب والتوكل على الله . لقد كان يربي أصحابه على القيادة الرشيدة ، وذلك  بالاستقامة  والتحلي بالأخلاق العظيمة وعدم الاستئثار بشيء لنفسه  ، فلم يسمح لنفسه  بالتميز عن أصحابه   بلباس أو أكل أو جلوس بمكان مميز، أو حمل شارة معينة  أو وسام ، يشير إلى قدره العظيم ومكانته بين أصحابه -  كما يفعل قادة الجيش اليوم الذين يرصعون أكتافهم بالنجوم والأوسمة وهم الأغبياء المتطفلين على فنون الحرب والنزال -  وإن الأعرابي كان يدخل على النبي  صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه فيسأل "  أيكم محمد ؟ "  أما إذا  تعلق الأمر بالعدل ، وحدود الله ، فإنه  صلى الله عليه وسلم كان لا يجادل عن أحد ، ولو كان من آل بيته  ، ولا يقبل تشفع أحد ولو كان أسامة بن زيد ، عندما يتعلق الأمر  بحد من حدود الله  . ولما فعلها زيد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم  وخطب في الناس قائلا : { أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم ، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد وإني والذي نفسي بيده  لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها } ( مسند بن حنبل – صحيح البخاري ومسلم ) . بمثل هذه القيادة الرشيدة العادلة يجب التأسي والاقتداء  ، لأن الظالم لا تستقيم له القيادة ، التي اغتصبها بالقوة وأعانه عليها طغاة آخرون . بل تعود عليه بالخزي وتحول حياته  إلى جحيم بفعل دسائس ومؤامرات  أتباعه وعدم إخلاصهم له ، إذ تجدهم يتربصون به الدوائر لينقضوا عليه ، أو يفروا من ساحة الوغى ويتركوه ليواجه مصيره وحده انتقاما منه وليذيقوه مصيبة الهزيمة وكذلك يفعل معه شعبه  ( نموذج : قيادات العراق ، وسوريا ، وليبيا ، واليمن  ألمانيا النازية (هتلر ) إيطاليا الفاشية  (ميسلوني) وكل القيادات العسكرية الديكتاتورية   ...) .

إن القائد الظالم ، المتبجح ، المتعجرف المزهو بأكتافه المرصعة بالنجوم ، ولو كان ذو كفاءة إدارية وتدريب عال ويتبع أسلوبا حديثا  في القيادة  ، لا يمكن أن تكتمل له  أسباب النصر ، لأنه عاص لله   والنصر لا يؤتيه الله للعاصي . ثم إن هذا النوع من القيادات المتسلطة على الشعوب والمذلة لأتبعها غالبا ما تستأثر لنفسها وتنفرد بالخيرات والامتيازات وتستغل سلطتها في تحقيق مآربها المادية والسياسية ومذلة أتباعها  وتعطي صورة مقيتة  مشوهة لخصومها ، فتكون النتيجة تنامي الحقد والحسد والبغضاء والاختلاف والفرقة  وعدم الثقة بين الناس ، وهذا ما  يدفعهم دفعا إلى العنف والانتقام  والتعاون مع الخصوم  ومساندتهم في أول فرصة تتاح لهم . يقوا الإمام علي رضي الله عنه ""  الاستئثار يوجب الحسد والحسد يوجب البغضة ، والبغضة توجب الاختلاف  والاختلاف يوجب الفرقة  والفرقة توجب الضعف والضعف يوجب الذل والذل يوجب زوال الدولة وذهاب النعمة ""

أما القائد المسلم الأسوة ، يجب أن يربط  جهاده  وما يحققه من انتصارات ومكاسب دنيوية وغنائم مادية بنية التقرب إلى الله  والعبادة وأن يحتسب أجره عند الله ، لأنه طالب للآخرة لا للفخر والوسام والنجمة . يقول خالد بن الوليد  يوم معركة اليرموك : "" إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي ، اخلصوا جهادكم ، وأريدوا الله بأعمالكم  "". كما يجب أن يضع إستراتيجية واضحة لمواجهة العدو تقوم على الأسس التالية :

أولا التحريض على القتال تماشيا مع أمر الله : [ يا أيها النبي  حرض المومنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ] ( سورة الأنفال آية 65)  . ( يتبع )