النيروز الفارسي في تاريخ العرب وأدبهم
النيروز الفارسي في تاريخ العرب وأدبهم
د. نعيم محمد عبد الغني
للفرس أعياد صنف فيها الأصفهاني كتاباً مستقلاً، وأشهرها النيروز والمهرجان، ويفصل بينهما مئة وتسعون يوما، وتفتح السنة الفارسية التي تضبط شهورها على ثلاثين يوما بيوم يسمى النيروز.
ولكل عيد قصته، فالنيروز له روايات عديدة، منها ما رواه صاحب تاريخ دمشق عن أبي هريرة بأنه اليوم الذي رد الله تعالى إلى سليمان بن داود خاتمه، فجاءت الشياطين بالتحف، ومنها تحفة الخطاطيف التي جاءت بالماء في مناقيرها فرشته بين يدي سليمان فاتخذ البعض رش الماء من ذلك اليوم.
ومنها أنه اليوم الذي تمت فيه المناظرة بين موسى وسحرة فرعون، ذلك اليوم الذي أشار إليه القرآن بقوله: (قَالَ مَوْعِدُكُم يَومُ الزِّينَةِ) وقالوا إنه وافق يوم السبت وهو أول أيام السنة.
ويزعم بعضهم بأن النيروز هو اليوم الذي خلق الله عز وجل فيه النور، وزعم آخرون بأنه أول الزمان الذي ابتدأ فيه الفلك في الدوران.
وروي أن سبب اتخاذ الفرس للنيروز عيدا أن أحد ملوكهم المسمى طهومرت لما هلك، ملك بعد جمشاد. فسمى اليوم الذي ملك فيه نوروز، أي اليوم الجديد.
والمهرجان يرجع إلى ملك فارسي في قديم الزمان، عم ظلمه خواصَ الناس وعوامهم، وكان يسمى مهر، وكانت الشهور تسِمى بأسماء الملوك، فقيل مهرماه، ومعنى ماه: هو الشهر، وأن ذلك الملك طال عمره واشتدت وطأته؛ فمات في النصف من هذا الشهر، وهو مهرماه، فسمي ذلك اليوم الذي مات فيه مهرجان.
وقد حاول كثير من المؤرخين تفضيل النيروز على المهرجان فذكروا أن النيروز أفضل من المهرجان؛ فرغم أن المهرجان يؤذن بدخول الشتاء وفصل البرد، والنيروز يؤذن بدخول الصيف والحر. إلا أن في النيروز أحوالاً ليست في المهرجان؛ فمنها استقبال السنة، وافتتاح الخراج، وتولية العمال، والاستبدال، وضرب الدراهم والدنانير، وتذكية بيوت النيران، وصب الماء، وتقريب القربان، وإشادة البنيان، وما أشبه ذلك. وقال آخرون بأن النيروز دليل على النماء والمهرجان دليل على القيامة والانتهاء.
ومدة النيروز ستة أيام، واليوم السادس اسمه النيروز الكبير؛ لأن الأكاسرة كانوا يقضون في الأيام الخمسة حوائج الناس ثم ينتقلون إلى مجالس أنسهم مع خواصهم.
وعلى هذه العادة صار أهل العرب في الجاهلية؛ حيث كان الملك – كما يروي العسكري في كتاب الأوائل - يجلس للعامة، في النيروز مرة، وفي المهرجان مرة فيأتونه بمظالمهم، فإن تظلم منه متظلم، جاء حتى جلس مع خصمه عند المربد، فإذا نظر بينه وبينه لبس تاجه، وانتصب للنظر في أمور الناس، فلم يطمع أحد في ظلم أحد بعد ما رأى من إعطاء الملك الحق من نفسه.
ويكاد يجمع المؤرخون على أن أول من اتخذ النيروز عيداً ملك اسمه جم من ملوك الفرس الذي جعل تعظيمه ديناً، وهو الذي بنى مدينة طوس وقال النسابون: في زمانه بعث الله تعالى هوداً إلى عاد، وصالحاً إلى ثمود..
ومن طقوس الفرس في الاحتفال بالنيروز إشعال النيران؛ لتحليل العفونة واللزوجة التي يتركها الشتاء ورش الماء لتطهير الأبدان من دخان هذه النيران.
ثم يهدى فيه السكر؛ حيث إن الملك جم لما أهدي له قصب السكر في يوم النيروز أعجب به واحتال لاستخلاص السكر منه فطبخه وانتهى منه في يوم النيروز فصار من طقوس الاحتفال بهذا اليوم.
وقد تسرب هذا الاحتفال إلى عرب الجاهلية؛ فأهل يثرب كانوا يحتفلون بالنيروز والمهرجان فأبدلهما الرسول – صلى الله عليه وسلم- بعيد الفطر والأضحى، وقد كان هذا العيد معروفًا في الحجاز أيضًا، وورد في الحديث - الذي لا ندري مدى صحته - قول النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الحجاز: "إنّ الله تعالى أبدلكم بيوم السَبَاسِبِ يوم العيد". وإذا صح هذا الحديث فإنه يكون دليلًا على معرفة أهل مكة بهذا العيد الذي ربما أخذوه عن النصرانية؛ فالنيروز أول السنة القبطية وبه يحتفل الروم كما تحتفل فارس، وكانت للعرب صلات بهاتين الدولتين كما هو معروف.
واحتفل المصريون بالنيروز فكانوا يشعلون النار ويرشون الماء ويقدمون الهدايا والطعام والشراب وهي طقوس لم تختلف عن مثيلاتها في الفرس أو الجاهلية، غير أنه من الجدير بالذكر أن أهل مصر –وخاصة الريف- ما زالوا في أيام عيد الفطر والأضحى ينظفون الشوارع ويوقدون النار في القمامة ويرشون الماء في صباح يوم العيد، وربما توارثوا هذه العادة من أيام النيروز فنسي السبب وبقيت العادة؛ بغرض النظافة والظهور في أيام العيد بمظهر حسن. ولكنها بدأت تنقرض برصف الطرق ودخول المدنية إلى الريف المصري.
وأما احتفال العرب بالنيروز بعد النبي صلى الله عليه وسلم فيذكر عدد من المؤرخين ومنهم العسكري بأن الحجاج بن يوسف الثقفي أول من رسم هدايا النيروز والمهرجان وأن وأول من رفع ذلك عمر بن عبد العزيز. ثم عادت مرة أخرى فنهى المعتضد الناس أن يحتفلوا في يوم النيروز ومنع إيقاد النيران وصب الماء وغير ذلك من الأفعال المشابهة لأفعال المجوس، ومنع من حمل هدايا الفلاحين إلى المنقطعين في هذا اليوم وأخر في توقيت الهدايا؛ فسمي بالنيروز المعتضدي كما يذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية.
والمناسبات غالبا ما تكون دافعا للأدباء والشعراء للكتابة والإبداع؛ فيقال إن أول من افتتح المكاتبة في تهنئة النيروز والمهرجان أحمد بن يوسف الكاتب الذي أهدى إلى المأمون سفط ذهب، فيه قطعة عود هندي، وكتب معها: هذا يوم جرت فيه العادة بألطاف العيد والسعادة، وقد قلت:
على العبد حق فهو لا بد فاعله ... وإن عظم المولى وجلت فضائله
ألم ترنا نهدي إلى الله ماله ... وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله
ولو كان يهدى للجليل بقدره ... لقصر عل البحر عنه وناهله
ولكننا نهدي إلى من نجله ... وإن لم يكن في وسعنا ما يشاكله
وقد تناوله كثير من شعراء العربية ذاكرين فيه ما يحدث من لعب ولهو واقترن غناء الشعر بالحديث عن الخمر والنساء ..إلى غير ذلك من مظاهر الاحتفالات، ويعتبر بيت البحتري أشهر بيت قيل في النيروز حيث قال:
أتاك الربيعُ الطلقُ يختالُ ضاحكاً
من الحسنِ حتى كادَ أن يتكلما
وقد نَبّه النيروزُ في غَلَس الدُّجَى
أوائلَ وَرْدٍ كُنّ بالأمس نُوَّمَا
يُفَتِّقها بَرْدُ الندى فكأنه
يَبثُّ حديثاً كان قبلُ مكَتَّما
وعن طقس الهدية يقول أحدهم:
وهدايا النيروز ما يفعل النا ... س ولكن هديتي ما أقول
أما ذكرها مقرونة بالخمر والغزل فنذكر مثلا:
لقد أقبل النيروز جذلان فاسعد ... وإن كنت مسعوداً كما أنت فازدد
وزف كؤوس الراح خمراً تسلياً ... عن الدم في حد الحسام المهند
أما ابن الهبارية في خريدة القصر وفريدة العصر فيقول:
بدت غُرّةُ النّيروزِ باللهوِ والأنسِ ... فقُمْ نجْلُ بنتَ الدّنِّ حمراءَ كالورْسِ
وهكذا كان الاحتفال بالنيروز الذي يأتي في منتصف شهر مارس حيث يبدأ في الرابع عشر منه وينتهي في العشرين من مارس تاريخا يروى وأدبا يقص.