الإسراء والمعراج : الواقعة والآفاق
بمناسبة إسراء الرسول -صلى الله عليه وسلم-
ومعراجه في نهاية شهر رجب الفرد:
د.غازي التوبة
جاءت واقعة الإسراء والمعراج في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تتويجاً لمرحلة سابقة هي المرحلة المكية، وترسيخاً لبعض القيم والمبادئ المهمة في حياة الأمة ومستقبلها، وقد تحدّث القرآن عن تلك الواقعة فقال سبحانه و تعالى: ]سُبْحانَ الذي أسرى بعَبْدِهِ ليلاً مِنَ المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأَقْصَى الذي بارَكْنا حولَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إنه هو السميعُ البصيرُ[ (الإسراء،1)، فما معالم واقعة الإسراء والمعراج؟ ولم كانت تتويجاً للمرحلة المكية؟ وكيف كانت ترسيخاً لبعض القيم والمبادئ وتنبيهاً على الأمور المستقبلية؟
ذكرت كتب الحديث والسيرة أنّ الإسراء كان قبل الهجرة بسنة وأنه كان في نهاية شهر
رجب الفرد، وأنه كان يقظة لا مناماً من مكة إلى بيت المقدس بواسطة البراق، فلما
انتهى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله، فصلّى
في قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم عرج إلى السماء، فصعد إلى السماء الدنيا، ثم إلى
بقية السماوات السبع، فتلقاه في كل سماء مقربوها، وسلّم على الأنبياء الذين في
السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مرّ بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل
في السابعة، ثم جاوز منـزلتهما حتى انتهى إلى سدرة المنتهى حيث رأى جبريل على صورته
الملائكية، كما رأى البيت المعمور، ورأى في رحلته هذه الجنة والنار، ثم كلّم الله
سبحانه و تعالى، وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين ثم خففها إلى خمس رحمة منه
ولطفاً بعباده. وقد تحدّث القرآن عن رحلة المعراج وعن وصوله إلى سدرة المنتهى
ورؤيته لجبريل عليه السلام فقال سبحانه و تعالى:
]والنجمِ
إذا هَوَى . ما ضَلَّ صاحِبُكم وما غَوَى . وما ينطقُ عن الهَوَى . إنْ هو إلا وحيٌ
يوحَى . علَّمَه شديدُ القُوَى . ذو مِرَّةٍ فاسْتَوَى . وهو بالأُفُقِ الأعلى . ثم
دَنَى فتَدَلَّى . فكان قابَ قَوْسَيْنِ أو أَدْنَى . فأوْحَى إلى عبدِهِ ما
أَوْحَى . ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَأَى . أَفَتُمارونَهُ على ما يَرَى . ولقد رآهُ
نَزْلَةً أُخْرَى . عند سِدْرَةِ المُنْتَهَى . عندها جنَّةُ المَأْوَى . إذ يغْشَى
السِّدْرَةَ ما يغْشَى . ما زاغَ البصرُ وما طَغَى . لقد رأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ
الكُبْرَى[
(النجم،1-18).
وصلّى الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى إماماً بالأنبياء وذلك بإشارة من
جبريل عليه السلام، وفي ذلك إظهار لشرفه وفضله عليهم جميعاً، وقد قُدِّم إليه صلى
الله عليه وسلم في هذه الرحلة إناءان فيهما: الخمر واللبن، فاختار اللبن فقيل له:
هُديت إلى الفطرة. والآن لم كانت رحلة الإسراء والمعراج تتويجاً للمرحلة المكية؟
بدأت المرحلة المكية من غار حراء حيث تنـزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره الله أن يدعو إلى وحدانيته سبحانه و تعالى، وأمره أن ينذر قومه بأنّ هناك بعثة وحساباً، وجنة وناراً، وأمره أن يدعو إلى قيم جديدة تقوم على أخوة الإيمان وليس على أخوة القبلية، وأنّ المال لله وأنّ البشر مستخلفون فيه وأنّ فيه حقاً للسائل والمحروم، دعاهم إلى كل هذا وإلى غيره من القيم والحقائق الجديدة، لكن المجتمع المكي لم يتقبل دعوة الرسول الكريم، بل بدأ ينافح عن قيمه وأفكاره في وجه القيم الجديدة، وشرع في اتهام الرسول مرة بأنه ساحر ومرة بأنه كاهن ومرة بأنه يتلقى أقواله من الأعاجم . . . ثم انتقل إلى إيذاء الضعفاء من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم مما حدا به صلى الله عليه وسلم إلى أمرهم بالهجرة إلى الحبشة مرتين، ثم جاءت وفاة أبي طالب عمّ الرسول وخديجة زوجه مما أفقده سندين في عام واحد، الأول: كان يدفع عنه إيذاء قريش خارج بيته، والثاني: كان يخفف عنه آلام المواجهة مع قريش داخل بيته، وفي هذه اللحظة الحاسمة التي اشتد فيها الإيذاء على الرسول صلى الله عليه وسلم، وزادت الأحزان عليه، جاءت رحلة الإسراء والمعراج لتكون تكريماً له على صدقه في الدعوة، وتقديراً له على صبره في تحمل الأمانة، وتثبيتاً له على إحسانه في تمثل حقائق الإسلام، وتثميناً لحسن أخلاقه وشمائله، وجاءت رحلة الإسراء والمعراج أيضاً لتكون له زاداً في المرحلة القادمة من خلال إراءته رؤى جديدة في عالم السماء: رؤية الجنة والنار، ورؤية جبريل عليه السلام، وتكليمه لله سبحانه و تعالى إلخ . . . لقد أشرنا في بداية المقال إلى أنّ رحلة الإسراء والمعراج كانت ترسيخاً لبعض القيم والمبادئ وتنبيهاً إلى أمور مستقبلية، فما القيم والمبادئ التي رسختها؟ وما الأمور المستقبلية التي نبهت عليها؟
لقد ورث الإسلام الديانات السابقة لذلك قال سبحانه و تعالى: ]إنّ الدينَ عند اللهِ الإسلامُ[ (آل عمران،19)، ]ومَن يَبْتَغِ غيرَ الإسلامِ ديناً فلن يُقْبَلَ منهُ وهو في الآخرةِ مِنَ الخاسرينَ[ (آل عمران، 85)، وقد ادعى كل من النصارى واليهود والمشركين أحقيته بإبراهيم عليه السلام، ولكن ردّ القرآن عليهم جميعاً بأنّ محمّداً وأتباعه هم أولى الناس بإبراهيم، قال سبحانه و تعالى: ]إنَّ أَوْلَى الناسِ بإبراهيمَ لَلَّذينَ اتَّبَعوهُ وهذا النبِيُّ والذينَ آمَنوا[ (آل عمران،68)، وذلك لأنّ إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا مشركاً ولكن كان حنيفاً مسلماً، قال سبحانه و تعالى: ]ما كان إبراهيمُ يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حَنيفاً مسلماً وما كان مِنَ المشركينَ[ (آل عمران،67)، وقد جاءت بعض وقائع الإسراء والمعراج لتترجم هذه الوراثة عملياً وذلك من خلال صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم بالأنبياء جميعهم في القدس، واقتضت هذه الوراثة الربط بين المسجد الحرام وأبرز المقدسات الأخرى وهو المسجد الأقصى، فكان الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وقد اقتضت هذه الوراثة تنبيه المسلمين إلى أهمية أرض النبوات، فجاء الحديث عن علو بني إسرائيل وإفسادهم وسيطرتهم على المسجد الأقصى مرتين ثم انتزاعه منهم، فقال سبحانه و تعالى: ]وقَضَيْنا إلى بَني إسرائيلَ في الكتابِ لتُفْسِدُنَّ في الأرضِ مرّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كبيراً . فإذا جاءَ وعدُ أُولاهُما بَعَثْنا عليكم عِباداً لنا أُولي بَأْسٍ شديدٍ فجاسوا خِلالَ الدِّيارِ وكان وعداً مفعولاً . ثُمَّ رَدَدْنا لكم الكَرَّةَ عليهِم وأَمْدَدْناكُم بأموالٍ وبَنينَ وجعلناكم أكثرَ نفيراً . إنْ أَحْسَنْتُم أَحْسَنْتُم لأنْفُسِكم وإنْ أَسَأْتُم فلها فإذا جاءَ وعدُ الآخرةِ ليَسوؤوا وُجوهَكُم ولِيَدْخُلوا المسجدَ كما دخلوهُ أوَّلَ مرّةٍ ولِيُتَبِّروا ما عَلَوْ تَتْبيراً[ (الإسراء،4-7). والسؤال الآن: متى حدثت هاتان الواقعتان؟ معظم المفسرين أو كلهم على أنّ تلكما الواقعتين حدثتا في الماضي قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن الأرجح أنّ أولى الواقعتين هو ما شاهدناه من دخول اليهود إلى المسجد الأقصى عام 1967م، وهذا ما سنوضحه في السطور التالية.
ذكر الطبري في تفسيره عدة روايات عن إفساد بني إسرائيل وعن المسلَّطين عليهم، فقال في رواية أن أول الفسادين: قتل زكريا فبعث الله عليهم ملك النبط ويدعى صحابين، وقال في رواية أخرى: كان إفسادهم الذي يفسدون في الأرض مرتين: قتل زكريا ويحيى بن زكريا، سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف ملكاً من ملوك فارس من قتل زكريا، وسلط عليهم بختنصّر من قتل يحيى، وقال في رواية ثالثة: أنّ إفسادهم الأول كان قتل أشعيا نبي الله لأنّ زكريا مات موتاً ولم يقتل، أما إفسادهم الثاني فلا خلاف عليه فقد كان قتل يحيى بن زكريا عليهما السلام، وقال في رواية رابعة: كان الذي سلّط عليهم في المرة الأولى جالوت وهو من أهل الجزيرة، حتى بعث الله طالوت ومعه داوود فقتله داوود عليه السلام، وقال في رواية خامسة: بعث الله عليهم في المرة الأولى سنحاريب من أهل أثور ونينوى وقيل إنها الموصل. وقد ذكر القرطبي وابن كثير في تفسيريهما عن إفساد بني إسرائيل قريباً مما ذكره الطبري مع تفصيل أقل في الحديث عن الإفسادين وعن المسلّطين عليهم ، لكننا حتى ندرك بُعدْ المفسرين القدماء عن الصواب نقارنه بما ورد في سورة الإسراء فنجد أن القرآن الكريم قد وصف بني إسرائيل بصفتين متلازمتين هما: الإفساد والعلوّ، وهو ما لم يحدث في كل الوقائع التي أشار إليها المفسرون القدماء ، فهم قد تحدثوا عن إفساد ولم يتحدثوا عن علوّ، وهذه أولى المفارقات ، أما المفارقة الثانية فإن القرآن قد وصف الناس الذي سيدخلون المسجد وسيدمرون ما بناه بنو إسرائيل بأنهم "عباد لنا"، والأرجح أنهم عباد مؤمنون خالصون لله وهو ما لم يتحقق في جالوت أو سنحاريب أو بختنصّر إلخ...، إنّ عدم تطابق المواصفات التي طرحها المفسرون القدماء لدخول بني إسرائيل المسجد الأقصى مع المواصفات التي طرحها القرآن الكريم تجعلنا نرجّح أنّ المرة الأولى تنطبق على احتلالهم الحالي للأقصى الذي وقع في حرب حزيران عام 1967م وذلك لأنّ العلو اليهودي الذي قالت عنه الآية "ولتعلنّ علوّاً كبيراً" فأكدته بالمفعول المطلق "علوّاً" ثم وصفته بالصفة "كبيراً" نجد مصداقيته في العصر الحالي، فدولة بني إسرائيل كلمتها عالية ، وأوامرها مستجابة ، ووُدّها مطلوب ، وجانبها مهاب ، وانتصاراتها متتالية، وقوّتها أكبر من حجمها فهي الدولة النووية السادسة في العالم إلخ . . . وقد ميّز القرآن العلوّ الثاني بأنّ بني إسرائيل سيصبحون فيه أكثر نفيراً، أي أكثر "عدداً" وهو لم يتحقق في كل مرات الإفساد الثاني التي تحدث عنها المفسرون فهم لم يصبحوا أكثر عدداً من الأقوام التي قاتلوها ، وإنما سيتحقق في العلو الثاني الذي سيأتي في قادم الأيام بعد أن يدخل المؤمنون المسجد الأقصى ويستعيدوه من أيدي بني إسرائيل وينهوا إفسادهم الأول المتلازم مع علوّهم والذي وقع في إثر نكسة حزيران .
والسؤال الآن: لماذا تحدث القرآن الكريم عما كتبه على بني إسرائيل في معرض واقعة الإسراء والمعراج وفي سورة الإسراء؟ الحكمة من ذلك تنبيه حاملي ميراث النبوات إلى أهمية أرض النبوات في حياتهم القادمة، لذلك كانت الحروب مع إسرائيل في الحاضر وكانت الحروب الصليبية في الماضي أخطر ما واجه الأمة الإسلامية في حاضرها وماضيها وكان مدار الحربين المسجد الأقصى في الحاضر أو الأرض المقدسة المحيطة بالمسجد الأقصى في الماضي.