بيوت الاستبداد
ابتهال قدور
عبثية هي محاولات الحصول على فرد حر التفكير، حر التطلعات، حر العواطف، حر الرؤى، حر الأقوال، في بيئة قمع واستبداد..
دعونا ننطلق من بيت الفرد، ومحضنه الأول الذي نشأ فيه، إذا لم تكن الأجواء هناك أجواء حرية، فما من أمل يرتجى في تخريج دفعات حرة محرِّرة..
وإذا لم تكن الأجواء تعلي من شأن الكرامة وترسخ الإحساس بها، فما من رجاء في تخريج أجيال رافضة للذل والإذلال..
البيوت المستبدة برأي واحد، ورؤية واحدة، تُخرِّج أفراداً لديها الاستعداد والقابلية لتلَقي الظلم من أي كان، والتعاطي معه على أنه امتداد للنمط الأسري الذي عاشته.
والبيوت القامعة لأنفاس أبنائها تمارس مهمة خطيرة تتمثل في إرباك مجتمعاتنا بأكداس من أفراد بلا أرواح، ولا تطلعات تغييرية!
فالإنسان صياغة بيئته، وابن عالمه الذي أحاط به، ومن يعش في أجواء حرة، ستتفتح براعم الحرية داخل نفسه، وتجعله ينبذ كل أشكال الاستضعاف والظلم والقهر، وستدفعه للعمل، وتحثه على العطاء والتحرك في اتجاهات تغييرية قد تكون نهضوية.
ونحن اليوم أمة كبيرة عريقة ضَعُفت، وهوت من أعالي القمم، فانهارت لديها الكثير من الدفاعات، وإعداد الإنسان هو أهم هذه الدفاعات التي انهارت فتعطل بذلك الحراك الفاعل الموصل إلى قيام ونهوض..
و نحن اليوم أمة تمارس قوى الظلم في حقنا مظالم معلنة بوقاحة، ومقننة بابتذال، فتخص نفسها بما ترفضه لغيرها من عوامل قوة، وتبيح لنفسها ولمن تريد، أن يعطل القوانين الدولية، ويمارس الجرائم الإنسانية، في مراهنة صارخة على ضعفنا...
و ليس ضعفنا "ضعف إمكانات" إنما هو "ضعف استخدام"...
وحين نتحدث عن ضعف استخدام، يكون المتهم الأول هو الإنسان، فهو الفاعل وهو المستخدِم وهو الذي يعطل، يقوم بذلك لأن قيوداً داخلية تمنعه، قيوداً داخلية تصنع حواجز عالية بينه وبين التنفيذ، هذه القيود تلعب معه لعبة تخويفية، ترهيبية، تجمد فعالياته وتعطلها...
وهذا الذي في نفس إنساننا العربي المسلم اليوم، يعود في الدرجة الأولى إلى محضنه الأول، هناك حيث تم تشكيل الغول الكبير بداخله، ذاك الذي يمنعه من التحرك والتحرر والعلم والعمل...
والغول الوهمي هذا، يكبر مع الوقت، إن لم يعمل الفرد بجدية على تدميره، ويصبح هو الأكثر خطراً من قوى الاستبداد الخارجية...ويصبح كل تطلُّع إلى التحرر بلا جدوى مادام هذا الغول موجوداً..
ولكن ما أن يسقط هذا الغول بداخلنا، حتى يتغير كل شيء، تماماً كما تغير سلوك السحرة تجاه فرعون في لحظة التحول التي حطمت ذلك "الوهم" الذي بداخلهم ليحل محله "الحق"...فكانت النقلة، وكان التحول...فرعون ظل هو، وموسى كان هو، والسحرة كانوا هم، الوحيد الذي انهار هو ذلك الغول الداخلي في أنفس السحرة...وتبعاً لانهياره تغيرت الأفعال والأقوال وأصبحت العيون ترى، والقلوب تبصر، والعقل يحاكم، ثم توالت التغيرات، لكي يولد مجتمع جديد...
في هذا السياق ندرك لماذا انتشل الله جل وعلا، سيدنا موسى من بيئة المستضعفين، عندما أراد أن يعده إعداداً يتناسب مع مهمة تغييرية عظيمة وحاسمة وقوية، إعداداً يؤهله لمواجهة فرعون يدعي أنه رب الكون، وينعم بتصديق الناس له، لتستمر أخطر أكذوبة كونية على مدى أجيال، انتقل سيدنا موسى من بيئة المستضعفين، وتم وضعه في بيئة الأقوياء والمتحكمين، لكي تصبغه بصبغتها، وتغرس فيه من خصائصها، وتؤسسه على أسسها، وإلا فقد كان الله جل وعلا، قادراً على أن يحمي موسى عليه السلام بنفس الطريقة التي حمى بها سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام حين كان في الغار برفقة صاحبه!!
لكن هاهنا إشارة وتوجيه إلهي إلى البيئة المحيطة والبيت الحاضن، بهدف استخراج العبر، واستكشاف القوانين والسنن المؤثرة في تشكيل الفرد وإكسابه الصفات المأمولة.
فهل يستطيع إنسان نشأ في بيئة تمارس القمع والإذلال، والترهيب والتخويف وتصر عليه، أن يتحرر من حالة تلبسته، وتضخمت وتوحشت حتى صارت هي الآمر وهي الناهي وهي المحرك...هل سيستطيع هذا الإنسان أن يبدأ بأداء مهام نهضوية، بكل سلاسة ويسر؟ لا تدل تجارب البشر على إمكانية حدوث ذلك.
إن هذا النوع من البيئات يقوم بخدمة جليلة لأعدائنا، فبيئة الاستذلال، هي بيئة غير صالحة لصياغة الإنسان العزيز القوي الفاعل، القادر على التفكير، أو التغيير، أو القادر على المواجهة، أو القادر على الإصلاح...
وهذا النوع من البيئات يعمل على تقزيم الإنسان العملاق، وعملقة غول قزم، يتحكم فيه ويحجب عنه البصر والبصيرة.
وستساهم هذه البيئات في صياغة فرد مستسلم، مستكين، راض بأن يكون "لاشيء" في المعادلة الحضارية، قابل لأن يُعتدى على حرماته، ولأن تحتل أراضيه، و تسرق ثرواته، وتهدر كرامته.
ولن يكون بإمكان هذا الفرد أن يتطلع إلى بدء مواجهة العدو، مواجهة حضارية مدروسة حاسمة لا رجعة فيها، إذ لا يمكن لمن اعتادت نفسه على القهر أن تهتز جوارحه وتحلق بأجنحة والعزة والإباء... إنها متناقضات لا تنسجم ولا تتناغم مع منطقية الأمور.
فمن يعش في مجتمع الظلم ثم يعتاد رؤية المظالم، قد يستنكرها بداية، ولكنه مع تقدم الوقت سيعتاد عليها، ويروح يتعامل معها كأمر واقع لا مفر منه، ولا سبيل إلى تغييره، ولا تعود تٌحدِث لديه أي استنكار، فتموت عنده أهمية القضايا الحاسمة، وتغيب عنه ضرورات إحداث التغيير، ويبتعد عن مجرد التفكير بأهمية دوره في الإصلاح، ويفقد إحساسه بقضاياه المركزية، ويعلن استسلامه أمام كل ما يشاهد، ويكثر من الحوقلة هروباً واستسلاماً ثم - ولا غرابة في ذلك - قد يتحول إلى مدافع عن ذلك الواقع، وحام له...وهنا تكون الطامة الكبرى، وهنا الخوف من الإعلان عن موت أمة...
إلى كل المحاضن الإنسانية...لا تؤسسوا لغول في أنفس أبنائكم، حرروهم، وعمقوا لديهم إحساسهم بالكرامة، ساعدوهم على الإحساس الجميل بإنسانيتهم، اجعلوهم يبصرون كم هم عظماء، اجعلوهم يستشعرون معنى أنهم روح الله على الأرض، لكي ترتسم أمامهم جمالية الأحلام الكبيرة، وتنطلق لديهم كل الإمكانات، وتتفجر كل الطاقات، لعل العدل والسلام يسود يوماً...