نبي الرحمة.. وزبانية الموت والتعذيب
بمناسبة المولد النبوي الشريف
أ.د/
جابر قميحةفي عهد الظلم والظلمات.. عهد الاختلال والكروب والنكبات أراني أفزع ـ بعد الله سبحانه وتعالى ـ إلى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد قال سبحانه وتعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)) (سورة الأحزاب).
وللأسوة معنيان: الأول القدوة. والثاني هو العلاج والشفاء (من أسا) الطبيب المريض، أي: عالجه.
ففي منهج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسنته نورٌ يسري في القلب طمأنينة وسلامًا.
وقال العلماء: ومن فضل الله على محمد أن أعطاه اسمين من أسمائه وهما: رءوف، ورحيم. وذلك في قوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 128).
وبالرحمة استطاع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يكبح جماح النفوس، وأن يلين جامد القلوب. فتحقق فيه قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159).
فأحب أصحابه، وأحبه أصحابه حبًا لم يحبوه آباءهم وأبناءهم وإخوانهم.
ولم تكن رحمته تقف عند حد، فهي متسعة الأرجاء، ممتدة المناحي، فكان رحيمًا بالأطفال.
محبًا لهم: قال أبو هريرة: قبل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا (وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد استدعاه ليوليه مهمة كبيرة لبني تميم). فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: "لا تلي لنا أمرًا"، "من لا يَرحم لا يُرحم".
ويروي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ صلي بأمامة ابنة ابنته زينب يحملها على عاتقه، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها.
وكان رحيمًا حتى مع المخطئين، يدل على ذلك موقفه من ماعز، وموقفه من الغامدية، فإذا ما كان الخطأ ناتجًا عن جهل بقواعد الدين، أو قواعد التعامل والعلاقات الاجتماعية لم يقسُ على المخطئ بل أخذه بالرأفة، ووجه نظره في هوادة، فحينما رأى المسلمون أعرابيًا يبول في المسجد.. حاولوا أن يمنعوه ويؤذوه، فأمرهم النبي أن يتركوه، ولا يقطعوا عليه بوله؛ لأن ذلك يحزنه ويؤذيه، ثم يدعو بدلو من ماء يصب على مكان التبول، ويرشد الأعرابي في رافه وهوادة إلى ما يجب عليه عمله في مثل هذه الحالة.
ولم يُحْرم الحيوان حظه الأوفى من رحمة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد نهى أن يتخذ الناس الحي ـ أي الطير والحيوان ـ غرضًا توجه إليه السهام. وحرم المُثلة (أي تشويه الجسد) ولو كان ذلك بكلبٍ عقور.
وهو ـ عليه السلام ـ القائل: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته".
ومن أعجب ما يروي في باب رحمته بالحيوان، أنه ـ عليه السلام ـ حينما زحف بالألوف ذات العدد إلى مكة لفتحها رأىكلبة تهر على أولادها، وهن حولها ترضعهن. فخشي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يسحقها الزاحفون هي وأولادها دون أن يشعروا، فأمر جعيل بن سراقة أن يقوم حذاءها حتى لا يعرض لها أحد من الجيش ولا لأولادها.
وأنذر ـ عليه السلام ـ بعذاب الله من يعذب حيوانًا: أليس هو القائل: "عُذبت امرأة في هرةٍ أوثقتها، فلم تطُعمها، ولم تسقها ولم تَدَعْها تأكلُ من خَشَاشِ الأرض".
حتى في الخلاف والقتال.. حتى حينما تتشابك الرماح بلا هوادة، وتتعانق السيوف في وحشية.. حتى حينما تتهاوى كثير من القيم، ويستبد بالمتلاحمين الغضب والكراهية، والبغضاء والنقمة، حتى في هذه الحال: شجارًا أو قتالاً: ليبق هناك الحد الأدنى من الإنسانية، وهو كماذكر الرسول عليه السلام: "تجنبْ الوجهَ فإن الله خَلَقَ آدمَ على صورته".
وضرب الوجه بسيف أو نحوه إن ترك تشويهًا فيه عاش صاحبه طيلةحياته منغص النفس، معذب القلب، ناقمًا على الحياة والأحياء، بعد أن فقد جمال صورته ورواءها. وإن كانت الضربة لطمة أو نحوها فهي الإهانة التي لا تغتفر، وقد تجر إلى القتل وسفك الدماء.
نعم.. في منطق الإسلام..الرحمة مطلوبة .. والإنسانية لازمة.. حتى في مقام درج الناس فيه على إسقاط الرحمة والإنسانية من قائمة حسابهم.
وإذا كان هذا هو مكان الرحمة في قائمة القيم المحمدية، فلا عجب أن يربطها النبي بالخير، بل يجعل الخير بأوسع معانيه متوقفًا عليها "من يحرم الرفق يحرم الخير" إنه يحرم خير الدنيا حين يفقد ـ بفظاعته وقسوته ـ حب الآخرين، فهم منه نافرون، وهم له كارهون..وكذلك يحرم خير الآخرة؛ لأنه حصاد العمل الصالح في الدنيا، والقلب الذي يفقد الرحمة لا يعرف الطريق إلى العمل الصالح، وكم من لمسة حانية فتحت مغالق القلوب، وألانت شِماس الأخلاق، وكم من كلمة طيبة فرجت أزمات، وحلت مشكلات معضلات.
والشعور بالطمأنينة، والأمان والسلام النفسي يمنح الإنسان طاقة قوية للعمل والإنتاج، والتقدم. وفي هذا المعنى يقول ديورانت: .. في كتابه (قصة الحضارة): والحضارة تبدأ حيث ينتهي الاضطراب، والقلق؛ لأنه إذا أمن الإنسان من الخوف تحررت في نفسه دوافع التطلع، وعوامل الإبداع، وبعدئذ لا تنفك الحوافزالطبيعية تستنهض للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها.
وجعل الله سبحانه وتعالى إشعار الآخرين بالآمن والطمأنينة، وتأمين سلامتهم فرضًا على المسلمين، حتى لو كان الآخرون مشركين، ما لم يتعرضوا للمسلمين بحرب أو إيذاء. يقول تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ
) (التوبة: 6).وزبانية الموت والتعذيب:
وقد شدني إلى هذه القيم ما نراه في عهد مبارك، ذلك العهد الذي يعيش فيه المواطن مهدر الدم، ضائع الكرامة في نظر رجاله، وأحط في نظرهم مرتبة من الحيوان، فالمواطن يدخل المعتقل حيًّا سويًّا، كامل الأعضاء، ويعاقب بتعذيب رهيب، فإذا فاضت روحه "يفرج عنه"، وبيان الإفراج أنه انتحر... انتحر؟! نعم. انتحر بفوطة أو ملاية سرير.
وتكرر هذا السيناريو المأساوي الأسود.
ووسيلة الانتحار لا يصدقها عقل. وحتى لو صح ذلك لوقعت المسئولية على رجال الأمن؛ لأنه كان من المفروض - بعد واقعة انتحار السنانيري بشنق نفسه بفوطة - (هذا على فرض صحة هذا الزعم) ألا يسمح للسجين إلا بفوطة لا يزيد طولها على شبرين، وتمنع ملايات السرير تمامًا؛ لأنها ليست من الضرورات.
وأصبح ضابط الأمن يبسط سلطانه وظلمه حتى امتد إلى خارج السجن، في الشوارع والأسواق، فيصنع بالمواطنين ما يشاء، وأنقل الواقعة التالية من مواقع النت بحذافيرها :
كشفت لجنة مصريين ضد التعذيب عن ضحية جديدة في المنصورة على يد محمد قنديل رئيس مباحث مركز المنصورة السابق، وذلك أثناء تحقيق اللجنة في واقعة تعذيب ناهد السيد وبناتها القصر، واحتجازهم 26 يوما في مركز المنصورة.
حيث اكتشفت وجود عامل يدعى تامر يعمل بمصنع التريكو الذي يعمل به أبناء ناهد مصاب بطلق ناري في مفصل الكوع، أدى إلى حدوث عجز تام باليد، نتج عن إصابته بأحد الأعيرة النارية، والتي أطلقها محمد قنديل أثناء قبضه على أبناء ناهد عبد الله أحمد رزوقة وشقيقه علي "ليقوم بتلفيق تعاطي مخدرات لهما . وحكم عليهما فيها بالسجن 3 سنوات ويقضيانها الآن في سجن المنصورة المركزي.
وفي تعليق تامر الضحية الجديدة على الحادث قال: كنت في المصنع عندما جاء محمد قنديل، وقبض على عبد الله وعليّ وعندما تجمع الناس قام بإطلاق الرصاص مباشرة على الواقفين فأصابتني الرصاصة دخلت من جهة وخرجت من الأخرى، وعلمنا من مصدر داخل لجنة التعذيب أن اللجنة أضافت حالة تامر إلى القائمة السوداء للتعذيب في المنصورة والتي يسيطر على بطولتها بدون منازع محمد قنديل رئيس مركز المنصورة السابق قبل نقله لرئاسة مركز بلقاس.
وفي تعليق ناهد السيد على حبس ولديها قالت: "منه لله ضيع مستقبل الولاد، وما فيش واحد فيهم بيشرب سجاير، وعبد الله بطل في كمال الأجسام، وفاز ببطولات كتيرة، إزاي لو كان بيشرب مخدرات".
ومن مظاهر التعذيب داخل السجون، هتك أعراض الرجال. والشعب لا ينسى يوم الأربعاء السابع من ديسمبر سنة 2005 ميلادية، وهو يعد نقطة عار وخزي في تاريخ الحكم المباركي.
مما يطول شرحه. ومن المخازي ما رأيناه ونراه من تزوير وتزييف، ونهبٍ وسلب، ورشوة، ونفاق، وفساد واستسلام للأعداء... حتى أصبح المواطن المصري يعيش مفرغًا من الداخل، يعيش كأنه غريبًا في وطنه. ولا حول قوة إلا بالله العلي العظيم.