يقولون الصدق منجاة

رغداء زيدان/سوريا

[email protected]

في المنهاج الذي أدرّسه للطلاب درس عن الصدق وأهميته, وفي مثل هذه الدروس أشعر أن الطلاب يتوقعون ما يمكن أن يُقال, وهم اعتادوا على ترديد عبارات معروفة من مثل (إن كان الكذب ينجي فإن الصدق أنجى) أو (حبل الكذب قصير) أو (قالوا للكذاب إحلف قال إيجاني الفرج!) ......إلخ

هذه المرة بدأت الدرس بسؤال الطلاب: من فيكم لا يكذب أبداً؟! رفع الجميع أيديهم طبعاً!! ولكنهم بدؤوا بسرد وقائع كذب كثيرة عندما غيّرت صيغة السؤال وقلت لهم: هل صادفتم أحداً لا يكذب؟ فكان الجواب : لا!!

لقد حكى الطلاب عن أشياء كثيرة, فقالوا إن الناس يكذبون في كل شيء, فهم يكذبون في مزاحهم, ويكذبون ليهربوا من العقاب, أو ليخلّصوا أنفسهم من مأزق ما, أو ليتباهوا بمراكز لا يشغلونها وأموال لا يملكونها...........

ومن خلال المناقشة اتفقت آراء الطلاب على أن العادات التي تحكمنا هي السبب الرئيسي الذي يدفعنا للكذب.

قال لي أحد الطلاب : أبي يضربني إذا أخبرته عن حقيقة علاماتي مثلاً, لذلك فأنا أكذب عليه وأزيد فيها, وإذا اكتشف أنني كذبت يضربني مرة أخرى, وبالرغم من أنه يكذب هو نفسه, فإذا جاء ضيف لعنده لا يريده يقول لي أخبره أنني لست موجوداً!

وقال آخر: عندما يتحدث أصدقائي عن ألعابهم وما يملكونه يسألونني هل عندي مثلها فأقول لهم نعم عندي, وأنا لا أملكها حتى لا يسخرون مني أو يعيرونني, وكذلك تفعل أمي, فهي تخبر جاراتها أننا اشترينا كذا وكذا بسعر كذا وكذا وأنا أعرف أن كل هذا الذي تقوله بعيد عن الحقيقة فقط حتى لا تترك مجالاً للجارات لمضايقتها أو (مجاكرتها)!

أما الطالبة الأخرى فقالت: نحن نكذب على المدرسين حتى لا يضربوننا ونتهم غيرنا مثلاً بفعل أذى ما حتى ننجو من العقاب, وبنفس الوقت فإن المعلم الذي يعاقبنا على الكذب يكذب, ألا ترين أن المدرسين يغيرون طريقة إعطائهم للدرس عندما يدخل موجه أو مفتش؟!

لم أستغرب ما سمعته من طلابي, ذلك أننا نعيش في مجتمع تحكمه عادات انحطاطية, فالمباهاة أو ما يسمى (البرستيج) يفرض علينا أن نكذب حتى لا يُقال عنا أننا أقل منزلة أو مكانة.

والعلاقات الاجتماعية التي لا ترحم تجعل من الإنسان مضطراً في أحيان كثيرة أن (يتملص) من زيارة غير متوقعة مثلاً ويكذب!

أما البيروقراطية وتعقد التعاملات والمعاملات فهي الملهم الأكبر للناس حتى يكذبوا ويزوّروا ليتخلصوا من تبعات كثيرة يرون أنها فوق طاقتهم!

حاولت أن أجرب تجربة فقلت للطلاب من منكم مستعد لترك الكذب لمدة أسبوع واحد؟

صدقوني لم يرفع أي طالب يده إلا طالب واحد فقط قال أنا أقبل التحدي!

بعد أسبوع وقبل أن أدخل الصف وجدت الطالب بانتظاري, قال لي آنسة خلصيني وادخلي حتى ينتهي أسبوع الصدق لقد ضُربت في هذا الأسبوع أكثر من أي وقت آخر!

سألته لماذا؟

قال كنت إذا تأخرت قليلاً عن العودة إلى البيت أخترع أي سبب لأنجو من العقاب, أما الآن فأنا أقول الصدق وأُعاقب, وبعد أن تعاقبت أكثر من مرة استغرب أهلي ذلك بسبب وعدي لك, واكتشفوا أنني أقول الصدق فاستغلوا ذلك, وفتح معي أبي تحقيقاً فأخبرته عن أمور لم أكن أتصور أنني من الممكن أن أخبره عنها وكانت ردة فعله مفاجأة لي, أول مرة يا آنسة أشعر أنني كبير وأن أبي صديقي, ولكن للأسف فإن هذه الصداقة لا تستمر, فعند أول تصرف لا يعجبه يضربني!

سألته ما هو الشيء الذي اختلف معك خلال هذا الأسبوع؟

قال الصدق يدفع الإنسان إلى تغيير بعض عاداته, لقد وصلت إلى مرحلة امتنعت فيها عن فعل أمور أعرف أنني سأتعاقب عليها إذا عرف أهلي أنني قمت بها.

الصدق قد يغير السلوك فعلاً.

نعم إن الصدق هو الوسيلة الأكيدة لتغيير السلوك الانحطاطي, فدوافع الكذب ما هي إلا صورة لسلوكيات انحطاطية نتعامل بها مع بعضنا البعض.

تجرأتْ طالبة وسألتني: آنسة أنت ألا تكذبين؟!

قلت لها: لن أكذب عليك يا ابنتي, أنا أحاول أن لا أكذب, أحياناً أنجح, وأحياناً أضطر للتمويه أو لإخفاء نصف الحقيقة.

فردت علي بخبث لطيف: آنسة, أليس إخفاء نصف الحقيقة كذباً؟

قلت لها: نعم إنه كذلك!