العثمانيون يواجهون الحركة الصهيونية

والأتراك على الدرب سائرون

د. محمد ياسر عمرو

[email protected]

لقد  انتهجت الدولة العثمانية منهجية علمية رائدة بالتوثيق، حتى غدا أرشيفها من أعظم  مراكز التوثيق في العالم، وتبدي الحكومة التركية سلاسة وسهولة في اطلاع الباحثين والمختصين على أرشيفها، ولكن التحدي الأكبر أمام الدراسات ندرة العرب الذين يتقنون قراءة اللغة العثمانية، كما أن الأتراك الذين يتقنون هذه اللغة في تضاؤل، وإن أبدت بعض الجهات في تركيا اهتماما في تعليم هذه اللغة، فعقدت البرامج والندوات حول ذلك، وإذا فُعّلت في يوم من الأيام المعركة القانونية بين الفلسطينيين والعدو الصهيوني فسيكون الأرشيف العثماني أكبر شاهد على حقوق الفلسطينيين المغتصبة من خلال آلاف الوثائق والسجلات التي ترد الحقوق لأصحابها وتثبت ملكيتها وتفضح الزيف والكذب والتزوير الصهيوني .

   في إحدى جولاتي اطلعت على عشرات  الوثائق العثمانية التي ترصد تحركات الحركة الصهيونية في فلسطين وفي العالم أجمع، وترصد  حركات أثرياء الصهاينة في العمل الدؤؤب لعمل أي كيان للصهاينة في فلسطين ولو على شكل جمعية، كما تشير هذه الوثائق بمجموعها للدور المشبوه الذي لعبته بعض السفارات الأوروبية المشبوهة في القدس، واليوم لنا هذه الوقفة مع بعض هذه الوثائق...

1-   الوثيقة الأولى والمحفوظة في الأرشيف العثماني برقم DH.ŞFR.72.147  وتاريخ 10/R /1335 وجاء فيها :

" برقية إلى متصرفية القدس بطلب إرسال معلومات عن أفراد عائلة المواطن العثماني (أســيرا) المقيمين في القدس, لكونه يقوم في أوروبـا بالعمل لصالح الإنكليز والحركة الصهيونية, واتخاذ التدابير اللازمة بحقهم "

    تشير الوثيقة إلى تنبه صنّاع القرار العثماني لأي دور يخدم الصهيونية حتى ولو كان من بني جلدتهم، كما أن لديهم إمكانيات رصد هائلة، فقد تم تحديد الشخص وجنسيته ومكان إقامته ومكان إقامة عائلته والدور الذي يقوم به، رغم عدم وجود إمكانات الحوسبة قواعد البيانات، وهذا يدل على الحجم الهائل من المتابعة والرصد للحركة الصهيونية، ولعل هذا الذي زاد حنق الصهاينة وعظم حقدهم على الدولة الإسلامية وجعلهم يعملون بكل قوة على إسقاطها .

2-   الوثيقة الثانية والمحفوظة في الأرشيف العثماني برقم DH.EUM.7.Şb.3.68 والمؤرخة ب 10/N /1334 وجاء فيها :

"عدم إبداء أي تسهيلات للصهاينة المنفيين من فلسطين إلى سيواس والمنقولين الى (بورصة)الذين قدمو طلبـات لإرجاعهم إلى فلسطين, وذلك لكونهم يشكلون خطورة جسيمة للبلاد مما يستدعي التشـدد معهم وعدم القيام بأية تنازلات تجاههم"

    انتهجت الدولة سياسة الإبعاد عن فلسطين لكل صهيوني أو متصهين يعمل في فلسطين أوحولها، مع مراعاة أن الرعايا اليهود في الدولة يتمتعون بكل الحقوق والامتيازات الممنوحة للمواطنين، وكانوا يتميزون بحقوقهم الدينية والمدنية وحق الحماية، وهنا يتنبه صانع القرار للدور القذر الذي يقوم به الصهاينة في فلسطين، ورغم نفي اليهود واتخاذ التدابير بحقهم إلا أنهم يعاودون الاتصال والاسترحام  مراراً وتكراراً وكانوا يحاولون شراء ذمم بعض الموظفين للرجوع إلى فلسطين ونجحوا في حالات عديدة، كما أن صانع القرار تنبه للخطر الصهيوني فحاول محاصرته والتشدد في تقييضه.

3-   الوثيقة الثالثة والمحفوظة بالأرشيف برقم DH.ŞFR.68.60 والمؤرخة ب 21/Za/1334 والتي تنص على :

" برقية مديرية الأمن العامة إلى متصرفية القدس طلب معلومات عن كونه د.هـ. سوسكوفيج من زعماء الحركة الصهيونية كما يفهم من وسائل الإعلام الرومانية، التحقيق مع عائلته المقيمة في يـافـا وعن قيامهم بنشاطات صهيونية"

 رصد آخر يسجل للدولة العثمانية من خلال متابعة وسائل الإعلام ليست الانجليزية والروسية فقط بل تعدى ذلك للرومانية، كما أن البرقية لم تصدر حكماً بقدر ما طلبت التحقيق والتحقق من الأمر، ولدى اطلاعي على عشرات الوثائق حول هذه القضية خرجت باستنتاج مفاده أن كبار الصهاينة  العاملين للمشروع الصهيوني كانوا يرسلوا عائلاتهم للإقامة في فلسطين، وقد تكون هذه سياسة للتمويه على نشاطاتهم.

4-   الوثيقة الثالثة والمحفوظة بالأرشيف  العثماني برقم   DH.EUM.7.Şb.3.62/A والمؤرخة ب 26/N /1333 ونصها :

"إبعاد كل من(هانجـين وشوهات) من أركان الجمعية الصهيونية إلى سيواس لتأمين عدم رجوعهم إلى فلسطـين,وتعميم أسمائهم وصورهم وأوصافهم على الجهات المعنية"

مع ما ذكر سابقاً من الرصد والمتابعة للدور الصهيوني يظهر في هذه الوثيقة  البعد الإداري والإجرائي والذي يكمن في  تعميم الأسماء والصور والأوصاف على الجهات المعنية، وعمر الوثيقة مائة سنة تقريباً، والصور كانت منتشرة في محيط ضيق رغم ذلك نجد الدولة العثمانية تستخدمها بفاعلية في هذه الحادثة وفي عشرات  المواقف المشابهة، كما وتظهر لغة التشدد مع الصهاينة من خلال هذه الوثيقة وما سبقها .

بعد هذه الجولة السريعة في طريقة تفكير الدولة العثمانية وموقف صناع القرار في التعامل مع الصهاينة، وما يشاهده العالم اليوم من الموقف البطولي للعثمانيين الجدد يرى أن هذه الوقفة المشرفة ليست وليدة اللحظة أو موجة عاطفية مؤقتة، بل هي توجه أمة منذ أكثر من مائة سنة، وسيبقى الجهد التركي  الشعبي والرسمي متناغما ومنسجما مع قضية القدس وفلسطين، وننتظر بلهفة  سريان الروح العثمانية للجسد الإسلامي والعربي .