نسمات ربانية في ظلال سورة النور( 1 )

نسمات ربانية

في ظلال سورة النور (1)

عزة مختار

[email protected]

ولا يزال حديثي عن الحرية قائما ، وفي خضم الحرية المنشودة رصدت مشكلات عميقة تكبل مجتمعاتنا العربية المسلمة التي عمها الفساد فيها وتجذر حتى صار لها سمة ، والفساد الذي أقصده اليوم هو فساد أخلاقي ينتمي لفصيلة المروءة والطهر والعفاف

مشكلة تعانيها بلادنا وتبعت فيها الغرب الذي صدر لنا أسوأ ما فيه وحجب عنا ما يدعو إليه ديننا من علم وبحث وحرية .

تلك المشكلة الأزلية وهي العلاقة بين الرجل والمرأة ، ما هي حدودها ؟ كيف هو نهجها ؟ ما المراد منها ؟

كثيرون هاجموا الإسلام من هذه النقطة ادعاءا منهم أنهم يدافعون عن الحرية وما يدرون أنهم إنما يكبلون الإنسان داخل شهوته دون أدني محاولة للارتقاء بها فوق درجة البهيمية

والحرية التي يقصدونها ، هي حرية الانحلال ، والخروج من منظومة القيم المتوافقة مع الفطرة الإنسانية السوية

فأنت كإنسان ترفض أن يتعامل أحد مع أهل بيتك بتلك البهيمية التي ربما قد تميل نفسك إليها

إذن فقد خلقك الله عز وجل بفطرة ترفض تلك الدنايا غير أن النفس أحيانا تتوق إلي ما لا يحملها بتكليفات حتى لو كانت أخلاقية تحافظ علي المجتمع وفي ذات الوقت لا تخرجك من إنسانيتك التي تشتهي ما أحله الله عز وجل من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ، أي كل ما يمت لمتاع الدنيا بصلة شرط أن يكون داخل ذلك الإطار الرباني الذي حماك الله به وحفظ عليك به حريتك وحرية الآخرين من حولك ضمانا لسلامة وصون الجميع .

إذن فدعاة الحرية الأخلاقية والانحلالية ما هم إلا دعاة للتوتر والقلق والعبودية للجسد ورغباته الدنية دون رقيب من شرع أو رب أو مجتمع

وأقوي القوانين الأرضية التي تحدثت عن حرية الإنسان لم تخرج في إطارها عن خمس كليات اهتم بها الشرع وجعلها حق للإنسان في ظل الحكم الإسلامي وهي :

حفظ النفس ، حفظ العقل، حفظ المال، حفظ العرض، حفظ الدين.

وسورة النور تناولت جانبا مهما يهم المرأة بالمقام الأول ، والمجتمع المسلم الطاهر العفيف في المقام الثاني ، وهو حفظ العرض

يقول الله عز وجل في مطلع سورة النور " ﴿ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾

وفرضية كل آيات القرآن ليس مشكوك فيها ، ونزول كل آيات القرآن كذلك من عند الله أمر بديهي ، وقد قسم العلماء والفقهاء أحكام الإسلام لدرجات ابتداءا من الفرض وانتهاءا بالحرام وبينهما المستحب والمباح والمندوب والمكروه وهكذا .

وفي سورة النور لم يتركها الله عز وجل لاجتهادات أحد من البشر ، وإنما نبه تنبيها شديدة بلفظتين كريمتين من الله ، " أنزلناها " " وفرضناها "

 فالأخلاق والحفاظ علي المجتمع من الشبهات أو مجرد الاقتراب منها فريضة من الله بحيث جعل الخوض في الحديث عن العرض قريب من الوقوع في كبيرة الزنا ويقترب العقابان ، فيشهر بمن فعل ولا تقبل له شهادة إلا أن يتوب ويعترف علي نفسه بالكذب ويبرئ ساحة البرئ " الذي لم تقم عليه شهادة الأربع " .

وهنا ينزه الله عز وجل المجتمع المسلم ويحرره من الضغائن والتعديات وضمان حفظ العرض الذي هو من أهم الحقوق الإنسانية الأساسية

فالحرية أن يضمن المجتمع سلامته من إيذائك ، ويضمن لك سلامتك من المجتمع كله من أن يخوض في عرضك ، فهي ليست تقييدا لك ، بل حرية للمجتمع منك أنت ، وليست تقييدا للمجتمع ، بل حرية لك أنت منه .

الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾

بدأ الله عز وجل حديثه هنا عن الزانية الأنثى ، بينما حين تحدث عن " السارق والسارقة فاقطعوا أيهما نكالا بما فعلا " بدأ بالسارق  المذكر

فالأنثى دائما عندها تكون البداية ولا يقلل ذلك من شأنها عند الرجل وإنما يبدأ بترتيب الفعل لأنه لن يستطيع ذكر أن يغوي أنثي دون أن تفتح هي الباب أولا .

أما السرقة فالأقدر عليها الذكور أكثر من النساء ، وهي حين تحدث تكون غالبا مرتبطة بالذكورة .

والزانية والزاني حتى يطلق عليهما هذا اللفظ البشع المهين إنسانيا حين يلصق بأحدهم له شروط مشددة ، لم يتركها المشرع مباحا لأصحاب الضغائن أو المصالح للعب وتشويه الأبرياء دون رادع أو تكبيل ، فحرية الإنسان مكفولة طالما أنه يحافظ علي مظهر المجتمع الطاهر النظيف ، فمن يفعل كبيرة كهذه ويشهدها أربعة شهود يلزم أن تكون علي قارعة الطريق ، أو في مكان عام ، أي أنهما جاهرا بالكبيرة فأفسدا الذوق العام والأخلاق العامة والمظهر العام لمجتمع إسلامي طاهر ، وظني أن العقاب الدنيوي سواء بالرجم للمتزوج كما وضحته السنة أو الجلد لمن لم يتزوج بعد هو جزاءا للجهر بالفعل  بدليل حي جاء ماعز رضي الله عنه يعترف بفعل الفاحشة أعرض عه النبي صلي الله عليه وسلم ثم سأل الصحابة أبه خبل ؟

وحي أصر ماعز علي الاعتراف كرر عليه السؤال ، لعلك قبلت ، لعلك فخذت   ، فيصر ماعز علي ما لديه ، فلا يكون لولي الأمر هنا إلا أن يقيم الحد عليه ، الأمر ليس إقامة الحدود بقدر ما هو حماية المجتمع من الوقوع في الكبائر والحيلولة دون استحقاق إقامة تلك الحدود

إذن فصفة الزانية أو الزاني يجب أن تكون بشروط وهي الرؤية المباشرة اليقينية وليست الاحتمالية ، بمعني أنك حين تري رجل وامرأة دخلا بيتا مثلا وأغلق الباب فليس من حقك أن تجزم أن هناك كبيرة ترتكب في ذلك الوقت ، وليس عليك أن تتجسس أو تتثبت مما يحدث " ولا تجسسوا " ما عليك إلا أن تصمت وإلا تستحق الحد أنت أن خضت في أعراض المسلمين ، وعلي الجانب الآخر وجب علي كل مسلم أن يتقي الشبهات حتى لا يكون عونا للشيطان علي صاحبه .

فالزانية بهذا الوصف ، والزاني بهذا الشرط مجاهرين لا يهمهما لا مجتمع مسلم ولا أخلاق ، فوجب علي المجتمع أن يعتزلهما فلا يزوجهما أو يتزوج منهما ، وأن يشهد العذاب طائفة من المؤمنين هو مواجهة رادعة لمن ثبت باليقين والمشاهدة الجماعية " أربعة شهداء " ليكونا عبرة لغيرهما ممن يحدثون أنفسهم بسهولة الأمر وهوانه علي المتجمع 

ونلاحظ هنا أن العقود ومنها الزواج شرع الله عز وجل أن يتوفر شاهدين " اثنين " ممن " ترضون من رجالكم " ، أي شاهدي عدل ، بمعني أن المشرع يسر الحلال  للناس لكنه في ذات الوقت شدد علي حرية الإنسان بالحفاظ علي عرضه وعدم الخوض فيه باشتراط أربعة من الشهداء العدول .

، فالجزاء من جنس العمل ، والمجاهرة في الفعل تستوجب ردعا لها عقابا في الجهر حتى لا تسري كالسرطان في المجتمعات المسلمة .

" ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله " الرأفة لمن استتر عن الناس فنكف ألسنتنا وأعيننا عنه وندع له مساحته من الحرية التي نص عليها الشرع طالما أنه لا يؤذي المجتمع بفعل ينافي الخلق ويهدد سلامته .

ليس من حقك أن تسأل أحدهم من أين أتيت ، أو إلي أين أنت ذاهب ، دعونا نتعلم حرية الحركة داخل مجتمعنا دون أن تدفع محدثك للكذب .

ليس من حقك أن تسأل من التي تسير معه في قارعة الطريق فربما هي حليلة له ، طالما انه يراعي الأخلاق المتفق عليها .

ليس من حقك أن تتهم أحدا بفسق وكذب ، وطالما لا تملك الأربعة شهود أنت أحدهم فأنت في نظر المجتمع كاذب وتستحق حد القذف الثمانين جلدة .

ليس من حقك أن تتوهم أو تتخيل ، أو تتجسس ، أو تبحث عن فعل أحد وتكبله بأن يشعر أنه متهم دائما فيحاول أن يثبت دوما براءته ، أنت بذلك قد وضعت عليه حدا ليس من شأنك أن تفعله طالما أنه يراعي مجموعة الأخلاق الإسلامية في العلن . 

تلك هي الخاطرة الأولي من سورة النور ، وفي انتظار خاطرة أخري .