الجريمة من منظور تاريخي

حزيران النكسة وحزيران المجزرة

زهير سالم*

[email protected]

عندما يرتكب الطغاة جرائرهم وهم في أوج القوة أو السطوة لا يتصورون مكانة هذه الجرائر في قوس التاريخ. لا يرون الصيرورة التي سترمي بهم في بحار الجريمة فلا يجدون إلى خروج من سبيل.

كثيرا ما استطاع الطغاة والجبارون من موقع القوة والسطوة أن يموهوا جرائمهم أو يسوغوها أو يدافعوا عنها أو على الأقل أن يتكتموا عليها حتى حين. وكثيرا ما أفلت الطغاة من عقاب العاجلة ، ولكنهم ما أن انقشع ضباب السلطان حتى أفضوا إلى ما قدموا في الدنيا والآخرة.

نؤمن أن الله ، جل جلاله ، لا يظلم أحدا (وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ). ولكن للتاريخ البشري شأنا آخر.فهو لا يحفظ لصاحب الجناية إلا جنايته، ولصاحب الغدرة إلا غدرته. فما عسانا نذكر عن أبي رغال اليوم؟!، وماذا نعرف عن الحبشي أبرهة؟! أو ما ذا تبقى من صفقة الأحمق أبي غبشان الذي تضرب العرب بصفقته المثل فتقول: أخسر من صفقة أبي غبشان. وكان من أمره أنه باع مفاتيح الكعبة لقصي بن كعب بزق خمر!!

يدور التاريخ دورته، و تدول دولة الأيام (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)؛ فإذا الجريمة كرة ثلج. تحاصر المجرم الرجيم. فتستغرق شخصيته وتاريخه وكل ما صنعت يداه. فيصبح "مَثَلَ السوء" في تاريخ الإنسانية والإنسان.

ولو أردنا نماذج تاريخية سريعة لا بد أن نبدأ بقابيل القاتل الأول لأخيه، وبنمرود الذي قال في ساعة كبر: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)!!، وذي نواس صاحب الأخدود (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)، وقتلة أنبياء الله زكريا ويحيى، يذكر التاريخ من جميع عواهر بني إسرائيل (سالومي) التي أرادت رأس نبي الله يحيى على طبق. ويذكر المجترئين على روح الله المسيح بن مريم عليه السلام. لابد ونحن نلتقط صورا لقتلة على ظهر أسطول الحرية أن نتذكر الوجوه التي وقفت أمام الحاكم الروماني، وقد حمل الشبيه الصليب، وهي تقول: "وزر دمه علينا وعلى أبنائنا إلى يوم الدين!!" الوجوه هي الوجوه حذو الوجه بالوجه.

ويذكر التاريخ هولاكو وجينكيز خان، الذين بنوا أبراجا من جماجم الرجال. كما يذكر ريتشارد قلب الأسد وصحبه الذين خاضت خيولهم في دماء المسلمين في شوارع القدس حتى الركب ؛ أولئك رجال أحاطت بهم خطيئتهم عبر التاريخ فما عاد بأيديهم قدرة على الخروج منها.

أي شعور بالقوة والسطوة وحب الانتقام كان يلامس قلب هتلر وهو ينفذ جرائمه البشعة بحق ملايين البشر، من يهود وغير يهود. ولو امتلك هتلر في لحظات سطوته تلك الرؤية التاريخية التي ستحاصره في رمزيته الشيطانية التي آل إليها بسبب جرائره تلك؛ فهل كان سيقدم على ما أقدم عليه؟!

هل سيستطيع الرئيس بوش تاريخيا أن يُخرج نفسه مع بطانته من كل ما سيُلحقه به أيتام أفغانستان والعراق من عار. هل سيخرجه شفيع من عار سجن باغرام وأبي غريب وغوانتنامو..؟!.

ويبقى السؤال مشروعا بحق جميع مرتكبي الجرائم وصناع المخازي التاريخية. تتساءل اليوم ومن حقك: كيف سيسطر التاريخ الإنساني، الذي لن يموت ضميره، جريمة اغتصاب فلسطين، وتشريد شعب من دياره، وإحلال آخر مكانه؟! أي لعنة سينزلها التاريخ على المخططين والمنفذين والمتآمرين، وعلى الذين رفعوا أيديهم في مجلس الشعب، عفوا أقصد في مجلس الأمن ليعلنوا موافقتهم على التقسيم؟! بعد أن تأفل الشمس الصهيونية، وشمس الظالمين حتماً إلى أفول قريب؟!

لا تبرح مخيلة التاريخ الإسلامي صورة المستعصم آخر خلفاء بني العباس في بغداد، الخليفة الواهن الذي استسلم لإرادة أعدائه فوضعوه في كيس وداسوه بالأقدام. أعجب لمؤرخ مثل الحافظ ابن كثير يختم ترجمته لمثله بقوله: رحمه الله.

وبعد هذا وذاك وذلك وذيّاك أعود لأتساءل كيف سينظر التاريخ إلى جريمة مثل جريمة تدمر في صبيحة السابع والعشرين من حزيران؟! كيف سيتوقف التاريخ عند الحدث المحرقة بكل الأبعاد في حماة وحلب وجسر الشغور..؟! كيف سيقوّم التاريخ القانون 49 الذي يحكم بالموت على الأبرياء الصابرين ؟! كيف سيرسم صور الذين اقترحوه والذين صوتوا له والذين صدقوه..؟! وكيف سيؤرخ إلى أولئك الذين وقعوا قوائم الإعدام: على رجال يستضيء بوجوههم القمر!!

كانت تلك جرائم بعضها من بعض . ودائما تبقى للتاريخ طريقته في الحكم. ودائما يظن أصحاب السطوة والسلطة أن التاريخ سيظل طيعا بأيديهم؟ وأن بإمكان دخان المجامر أن يحجب إلى الأبد الحقائق.

للتاريخ رؤيته الماضية مهما تكاثر على صفحاته المزيفون، و فوق التاريخ الحكمُ العدل الذي يقول: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ).

آخر كلمة قالها سعيد بن جبير للحجاج: وسترد غدا فتعلم.

والكلمة الأخيرة اليوم من قتل من؟ الشهيد السعيد سعيد أم الطاغية الجبار الحجاج. هذا قتل في اللحظة وذاك قتل في التاريخ.

              

* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية