سلسلة تأملات من قلب مسرح العملية التعليمية 1
سلسلة تأملات من قلب مسرح العملية التعليمية
الحلقة الأولى:
جدران المؤسسات التعليمية مرآة ناطقة بما في نفوس التلاميذ
د. إيمان سلاوي
باحثة في القضايا النسائية
إذا كنت مدرسا فأنت قد تتفق معي تماما أن الوصول إلى أعماق التلميذ ومكنونات نفسه أصبح صعب المنال، إن الإقبال على الأستاذ، بما في ذلك المشاركة في القسم، وإعداد الأعمال والأنشطة، و بما في ذلك ما قد يظهر من تأثر أثناء الحديث عن القناعات والقيم، و بما في ذلك النقط المحصل عليها في الفروض والامتحانات....كل ذلك لا يخول لك أن تقول " مرت الحصة رائعة وصلت إلى القلوب وتزعزعت القناعات " كل ذلك يبدو متفهما لأنك لست وحدك كمدرس من يهمك أن تصل إلى القلوب والعقول في إطار صلب العملية التعليمية وهي التربية، و الواقع كفيل ببيان أن التلميذ تتجاذبه مؤثرات جمة ترغب في الوصول إلى قلبه وعقله، ولنا أن نقول أنه أمام هذا التجاذب الحاد قد اختار تلميذنا – في غالب الأحيان – طريقا آخر هو الاستقالة الصامتة واختيار قناعات مؤطرة راسخة ومتغلغلة تكاد تكون قاموس قيم جديد يؤطر أبناءنا ويحكم سلوكاتهم ، من بين الوسائل التي يمكن أن تكشف بعض معالم هذا القاموس ما يكتب على جدران المؤسسات، والغريب أنك تجد لبعض المقولات انتشارا غريبا في معظم الأقسام حتى أنك تتساءل عن سر هذا الاتفاق التلقائي حول بعض العبارات وما تحمله من دلالات .
في إحدى الثانويات التي اشتغلت بها أثارني لفظ/اسم: "كالا" الذي تكررت كتابته في معظم الأقسام التي كنت أعمل بها، والحق أن اللفظ ورد بصيغ متعددة وتوظيفات كثيرة؛ أذكر منها " هل تعلم أن كالا هو من اخترع التلفون " ، " هل تعلم أن كالا هو مكتشف الجينز "، " هل تعلم أن كالا ولد قبل طاليس المالطي وتوفي طاليس سنة 1990" ، وقد تجد الكثير من الأوامر صادرة من هذه الشخصية المجهولة في العديد من الأقسام، كأن تجد " كالا يقول لكم التظاهرة التضامنية مع فلسطين ستكون على الساعة العاشرة "، أو " يقول لكم كالا نقلوا( غشوا في الامتحان) بلا ماتعيقوا( أي دون أن يكون ما تفعلون واضحا باديا للعيان )".......هكذا أثارني هذا الحضور لهذا الاسم، وأثارتني الوظائف الملتصقة باسمه ؛ آمرا، وموجها، ومبدعا ومخترعا، حتى كتبوا في إحدى هذه العبارات " هل تعلم أن كالا هو رئيس الأمم المتحدة" ، أثار انتباهي ماذكرت، فاستفضت في السؤال عن حقيقة هذه الشخصية، فتعددت الإجابات بين من قال: كالا نوع من انواع المخدرات، وبين من ذكر أنه تلميذ شديد السمرة كان يتعاطى المخدرات وفي حالة فقدانه لوعيه كان يذكر اشياء كثيرة، فاستوحى التلاميذ من حاله أن يكتبوا ماشاؤوا باسمه تخليدا لحاله المضحك وهو يقول " أي شيء "....
لقد أصبح كالا رمزا يعكس جرأة في إخراج مكنونات التلاميذ، فصرفوا من خلاله مايشغل بالهم، وما يملأ مساحة اهتمامهم كاللباس، والانتصار للقيم الجديدة المنتشرة في صفوفهم كالقبول بالغش، والاستخفاف بالمعلومة المدرسة .....
ولكن أهم ما أثارني هو دور البطولة التي أنيطت بهذه الشخصية الخيالية، كأن تجد " كالا يقول لكم ستتوقف الدراسة يوم كذا"؛ إن بطولة كالا في مسرح العملية التعليمية تنم عن فراغ شديد يعاني منه التلميذ، يتمثل في حاجته إلى مؤطر يفهم حاجاته، ويعبر عنه كما هو الآن، هي بطولة تنم عن افتقار شديد إلى بطل حقيقي يمكن ان يحمل التلميذ من واقع الضبابية والأفق المسدود إلى حيث تعانق التربية العلم والمعرفة، فتصنع إنسانا صالحا بصلاح قدواته، محبا للدرس محترما له، سعيدا بالمعلومة التي يتلقاها في المدرسة موظفا لها توظيفا نافعا، مستثمرا لما أخذه وتعلمه طيلة مدة دراسته فيما ينفع الأمة والمجتمع.
والحق أننا إذا استثنينا العبارات المكتوبة على جدران الأقسام المتعلقة بالجانب العاطفي والغراميات – وهي قضية تحتاج إلى بحث مستقل – فإن مايكتب فيه الكثير من الاستخفاف بقيمة التعلم نفسه، وبأدواته، وبرموزه....كأن نجد " العلم نور والنور من الكهرباء والكهرباء تحرق فلماذا ندرس" أو أن نجد " اللي لقى(وجد)راحتو فالحماق العقل ماعندو مايديربيه (لاحاجة له به)"......إن هذه العبارات المشكلة في مجموعها لنفس جديد مؤطر بشكل له الكثير من التجليات لسلوك التلميذ ؛ تستنهض هممنا لنشتغل على هذا المنطلق: أي إعادة الاعتبار لقيمة التعلم نفسها عند التلميذ، ثم الاهتمام بما يؤطره وعدم التغاضي عن مايجول بداخله بقصد تصحيح قناعاته وتوجيه مبادئه،
ومن سبل ذلك الحرص على فتح أوراش التواصل من خلال الاهتمام بالفعل الثقافي الذي يكون التلميذ محورا له، لما لذلك من أثر في إخراج ما يدور بخلد التلاميذ، ثم جعل جدران المؤسسات منابر إعلامية وتوجيهية بحيث يعلو صوت القيم التي تستحق أن يجعلها تلميذنا نصب عينيه، فنلصق الملصقات، ونكتب الحكم والأقوال الخالدة، ونعرف بالرموز الحضارية والإنسانية الرائدة ....فننخرط بذلك في اعتماد وسيلة قد لا يقل تأثيرها عن كلمات الأستاذ التي قد يحملها الأثير بعيدا بينما العيون منشغلة بقراءة ما كتب على الجدران.
وإلى حلقة قادمة.