ومرت السخرية العربية من كولورادو

فؤاد وجاني

كثيرون هم الأدباء والعلماء والمفكرون والمثقفون العرب الذين توقفوا لبرهة من الزمن الأمريكي في ولاية كولورادو إما للسياحة أو الدراسة  أو العيش أو لممارسة أنشطتهم ، فنحتوا بصماتهم في جبالها الشاهقة وخلدوا أصواتهم في أصدائها الخافقة ، لكن القليل من الساخرين توقفوا عند سحر صيفها وعبق ربيعها الممزوجين بقساوة شتائها وبياض كسائها .

ومن بين هؤلاء أمير السخرية العربية الراحل محمود السعدني ، ذلك الصحافي الأديب الفطن الذي سخر من الدنيا ومما فيها وممن عليها ، وكم رائعة هي سخريته في ثقافة عربية تشبعت بالمحن ، وكم ضرورية هي للنقاهة من العجز والنهوض من أسرَّة الوعكة . لم يكُ شقيا كما وصف نفسه أو كما نعتوه ، بل واقعيا يصوغ الشقاء في حلة مبهجة كي يستسيغه الأشقياء ، بل أديبا كيميائيا يعد الفكاهة ترياقا لمعضلات العصر ، يضحك على نفسه وعلى الآخرين ومع القدر ، يفضح ويدنس تارة ، وأخرى يهون ويخفف ، وكأنه فقيه في شرع تناقضات لاتتم حياة بدونها .

لم تفته فرصة زيارته لأمريكا من شرقها إلى غربها ليحقن وريد المأساة العربية بإبرة الفكاهة . فأتى إلى قمم كولورادو متسلحا بقلم ضاحك ، يرتاد فنادقها ، ويناقش بغاياها ، ويسامر مشرديها ، ويدخل مساجدها ، ويتسرب الى كنائسها ، ويتغلغل وسط كهوفها ، ويكسر قضبان سجونها ، ويحاور سياسييها ، ويجالس سكانها الأصليين هنودها الحمر ،  ويجادل من أجدادهم أتوا إليها فارين على ظهر قارب من مشردي أوروبا ، ويستمع إلى أحفاد المستعبدين من الأفارقة والآسيويين واللاتينيين بنائي بلاد العم سام ، ويصل الرحم مع من تجري في عروقهم دماء ابن بطوطة والإدريسي مِن أبناء العرب .

هنا احتفل السعدني بعيد الديك الرومي الأمريكي ، واكتشف في لذة بطيخ نيومسيكو وعنب كاليفورنيا مرارة الوحدة العربية الممزقة ، وهنا عرف قوتي النفط والنفوذ ، وهنا أدرك أن هذي البلاد  بلاد الله لخلق الله ، لاجوازات ولاجمارك فيها بين ولايات حجمها كدويلات العرب المترامية الأطراف . ومن هنا تنبأ السعدني بأن يحكم رجل إفريقي دولة بدايتها حمراء ثم بيضاء ونهايتها سوداء .

شكرا لك أيها السعدني على إسعاد قلوبنا بإكسير السخرية ، فلا شيء في الكون أكثر جدية من المزاح ، والدنيا أموال وبنون ولعب ولهو ثم رحيل بعدها وحيدا عاريا صفر اليدين حافي القدمين إلا من اعتلى عرش التاريخ وخلدته أعمال، وشكرا لك على ابتسامتك التي ستشرق علينا في صفحاتك أبدا ماوُجد الغباء والشقاء الإنسانيين .