مبادئ العملية الإعلامية في خطاب الهدهد
د. محمد رفعت زنجير
الأستاذ المشارك بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا
مقدمة:
كنت أَحضر مؤتمرًا دوليًّا حول الإعلام، وخلال إحدى المداخلات قال أحد المتحدثين الإعلاميين: الإعلام صناعة أوروربية.
فاستغربت كلامه هذا، ولو أنه قال: إن تطور وسائل الإعلام صناعة أوروبية لكان في هذا كلام، أما أنْ يجعل الإعلام كلَّه صناعةً أوروبيةً، كصناعة الطائرات مثلاً، فهذا موضع نقاش، وقد تذكرت قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ ﴾ [الرحمن: 1 - 3]، فالله - سبحانه - الذي منحَنا القرآن منهجًا لحياتنا، كان قد منحنا البيان مِن قَبل، وذلك بعد عملية الخلق، ﴿ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾.
وعليه؛ فالبيان هو سبيلنا لفهم كتب الله ومراده من خلقه، والتعرف عليه سبحانه، والقيام بحقوقه، ثم هو وسيلتنا للتعايش مع الآخر، وقد قدم الله - تعالى - تعليم القرآن على خلق الإنسان؛ لأن الغايات والكمالات - وإن تأخَّرت وُجودًا - فهي متقدمةٌ رتبةً.
فالبيان وُجِد مع الإنسان مُذْ وجد، وليس كما يزعم أصحاب النظرية التطورية، بأنه كان أبكمَ وتعلَّم الأصوات من مظاهر الطبيعيَّة، كالرياح والرعد، أو من محاكاة أصوات الحيوانات.
والعرب - أُمَّة الكلام الرائع - تُمجِّد الإعلام، وتحتفي بالشعراء والخطباء والبلغاء في جاهليتها وإسلامها، فكيف لنا أن نقول: إن صناعة الإعلام وُجدت في العصر الحديث؟! وكم تحدثَّتِ العربُ عن حسن اختيار الرسل في آدابها وفن الخطاب، وكانوا يراعون أحوال الأقوام الذين يخاطبونهم، وقد اختار الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - دِحْيَةَ الكَلْبِيَّ - وكان مِن أجمل الصحابة - ليحمل رسالته إلى هرقل عظيم الروم، وقد كان الروم يهتمون بالجمال!
ثم عُدْتُ أتأمَّل: كم في القرآن مِن مواقف إعلامية وقواعد تخاطبية غفل عنها كثير من الباحثين، فهنالك حوار الرسل مع أقوامهم، وهنالك الإعلام الفرعوني، والإعلام الملكي، والإعلام الإنساني، والإعلام الإيماني، وغير ذلك.
وقد استوقفني من ذلك كلِّه مواقفُ عدَّةٌ، منها قصة الهدهد مع سيدنا سليمان - عليه السلام - فوجدت في خطاب الهدهد قواعدَ هامَّةً للعملية الإعلامية، وعليه كان هذا المقال للتنويه بها:
القصة كما وردت في سورة النمل:
﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [النمل : 20 – 35].
تأملات عامة في هذا المقطع:
1- المسؤولية: ينبغي على كل ملك أو قائد تفقُّدُ أحوال رعيته، وهو مسؤول عن كل ما استرعاه الله تعالى من إنسان أو حيوان أو طبيعة أو بيئة ونحو ذلك، فالسلطان هو المسؤول الأعلى للسلطات كلها: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، والإعلامية.
2- الشفافية: عندما لم ير سليمان الهدهد، اتَّهم نفسه أولاً، فقال: ﴿ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ ﴾ وهذا مبدأٌ في إحسان الظن بالرعية، فقد يكون المتهَمُ بريئًا، وقد يزوغ بصر الإنسان فلا يرى الحقائق أمامه.
3- المراجعة والتحقُّق: بعد ذلك يكون الاحتمال الثاني: ﴿ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾، وذلك إذا تحقَّق أنَّ تخلُّفَ الطرف الآخر عن الحضور قد تم.
4- العقوبة العادلة وإمكانية العفو: التخلف عن المهامِّ والحضور في المملكة السليمانية، لا بد من تحمل تَبِعاته ﴿ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ﴾ والتعذيب له صور عدة، أو يكون الحكم بالإعدام ﴿ أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ ﴾، وهنا يقول السامع: لعل للهدهد عذرًا، أليس ثمة رحمةٌ، فيأتي قول سليمان - عليه السلام -: ﴿ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾؛ ليؤكِّدَ قبول الأعذار الشرعية، واستثناء أصحابها من العقوبات.
وهذا يعني أن المملكة السليمانية قائمة على الحق والعدل والرحمة، فهو بعدما هدد وتوعد بالعذاب، ثم بالذبح في حالة التخلف بلا عذر، عاد وذكَر إمكانية العفو والرحمة عند مجيء البرهان.
5- الرُّقيُّ في قواعد الاقتراب مِن الملوك: عاد الهدهد فلم يقِفْ قُرب سليمان؛ لأنه شِبْه مُذْنِب، والاقتراب قد يُشعر بنوع مِن التحدي، ولم يقف بعيدًا لأنه لم يذنب، فكان أولى شيء أن يقف على مسافة ما من سليمان ليست ببعيدة ولا قريبة جدًّا منه.
6- الإيجابية: نلاحظ الثقة السليمانية بجنوده، حيث قَبِل بأن يرسل الهدهد في مَهَمَّةٍ خاصة بعد غيابه في المرة الأولى.
7- الواقعية: وعلى الرغم مِن ثقة سليمان بالهدهد، فقد أراد أن يتحقَّق مِن كلامه: ﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾، فاقتحام الدول وشَنُّ الحروب لا يكون بدون أدلة دامغة، وبراهين ساطعة، وأما التقارير السرية فغير معترَفٍ بها، أو غير كافية للإدانة في الدولة السليمانية.
8- الجندية: نلاحظ الجنديَّةَ التامة، والطاعة الكاملة من الهدهد نحو سليمان، حيث حَمل الخطاب السليماني إلى ملكة سبأ مرَّةً أخرى.
9- حسن البداية وبراعة الاستهلال: نلاحظ أنَّ خطاب سليمان ابتدأ بالبسملة، وهي عنوان كل أمر نجيح.
10- الإيجاز: نُلاحظ أن الإيجاز كان سِمَةَ الرسالة السليمانية، وهي أشبه بالبرقية في زماننا، وهكذا ينبغي أن يكون خطاب الملوك فيما بينهم.
11- الإيحائية: وتتجلَّى في خلُوِّ الخطاب السليماني من التهديد والوعيد بشكل صريح، وهكذا ينبغي أن تكون اللغة الديبلوماسية العالية؛ إنها لغة نبي ملك!
10- العقلانية: وتتجلَّى بلجوء الملكة إلى مشاورة أهل الحَلِّ والعَقْد عندها في اتخاذ القرار، فالعقل يفرض الشورى.
11- اللغة الدبلوماسية الناعمة في إرسال الهدية، والاعتذار للحضرة السليمانية.
تأملات في المبادئ الإعلامية في كلام الهدهد:
1- دقة التعبير في اللغة الرسمية ﴿ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ﴾، يلاحَظُ أنه لم يقل له: أنا أعلم منك؛ لأن العلم غير الإحاطة، فقد يحيط سليمان بالأرض كلها ما عدا شيئًا صغيرًا منها - جزيرة في البحر مثلاً - ولكن يحيط غيره بهذا الشيء الصغير، دون أن يحيط علمه بما في الأرض كلها.
بمعنًى آخر قد يحيط سليمان بالأكثر، ويحيط غيره بالأقل، فسليمان يكون أعلم ممن أحاط بالأقل، وإن كان من أحاط بالأقل قد عرف شيئا لم يعرفه سليمانُ - عليه السلام.
2- الاستطلاع والانتشار في الأرض، نَلحظه في قوله: ﴿ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ ﴾ فمِن واجب الإعلامي أن يكون مراسلاً، وعينًا لقيادته الأمينة حيثما حل وارتحل.
3- نقل الحدث: نلحظه في قوله: ﴿ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ ﴾، فحين رأى حدثًا هامًّا قام بنقله، ولم يكتُمْه، وهذه مهمة الإعلامي الأولى، وهي نقل الحدث الذي يراه.
4- المصداقية: المهم من النبأ هو الصِّدْق الذي يُطابِق الواقع: ﴿ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، ﴾ وإذا نقلَتْ وكالات الأنباء أخبارًا كاذبةً تفقد مصداقيتها.
5- الإيقاعية: ونعني بها هنا: الجناس في قوله ﴿ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ ﴾، ومراعاة الإيقاع هو أحد العوامل المؤثرة في الخطاب الإعلامي، سواء كان خطبةً أو قصيدةً أو نحو ذلك.
6- التوكيد: كما في قوله: ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ ﴾ واستخدام: (إن) يغني عن تكرار الجملة مرتين، كما أن الفعل وَجَد يفيد اليقين؛ فيجب أن يكون الخطاب الإعلاميُّ قويًّا متناسقًا، وصاحبه يقف على أرضيَّة صلبة.
7- الوصفية الاجتماعية: كما في قوله: ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ فقد أفاد أربعة أشياء: أن الحاكم امرأة، والحكم ملَكي، وهنالك ازدهار حضاري في كافة نواحي الحياة ﴿ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾، وللملكة عرش عظيم هائل.
وواجب الإعلامي أن يعطي صورةً متكاملةً للحالة الاجتماعية في موقع الحدث، وأن لا يبتر الخبر عن ملابساته الاجتماعية والحضارية.
8- الوصفية العقدية: ﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ فهم قوم وثَنيُّون مشركون يعبدون الشمس من دون الله (صابئة)، وفي قوله: ﴿ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ إشعار بأن العبادة الحَقَّةَ تكون لله وحده، دون غيره من مظاهر الطبيعة الخارقة، أو الأوثان الحجرية، أو البشرية، أو الجنية، ونحو ذلك..
فواجب الإعلامي أن يهتم بكافة نواحي الحياة، وصلب الحياة هو العقيدة، لا أن يهتم فقط بأسعار السلع الغذائية والقضايا المالية، أو الأنشطة الاجتماعية والسياسية، دون العقائد التي هي جوهر الناس في حياتهم؛ وذلك لأنها تشكل عماد حياتهم الروحية التي تنبع منها كافة وجوه الأنشطة الأخرى في جميع مجالات الحياة.
9- تأكيد نظرية التابع والمتبوع، أو: الناس على دين ملوكهم، وذلك في قوله: ﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾، فالقوم تَبَعٌ لها في دينها، وهذه النظرية كانت سائدةً في العالم القديم؛ حيث لا حرية في الاعتقاد لدى الأفراد، قال تعالى حكاية عن فرعون الذي قاد قومه إلى الهلاك: ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ﴾ [هود: 98]، وقال تعالى حكايةً عن أهل الكهف الذين فروا بدينهم إلى الجبال: ﴿ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ﴾ [الكهف: 20].
10- صناعة الحدث: ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾، بيَّن سبب ضلالهم وهو ما سولته لهم نفوسهم، وتزيين الشيطان لهم، ثم بيَّن أنه يجب تقويمهم ودعوتهم إلى عبادة الله وحده؛ لأن الله وحده هو العالِمُ المالك، القادر المتصرف في السماوات والأرض، وكأنه في هذا يستحث سليمان - عليه السلام - أن يفعل شيئًا ما بقصد تقويمهم وهدايتهم، فمِثل هؤلاء لا ينبغي أن يُتركوا وشأنهم، بل يجب مساعدتهم للوصول للطريق المستقيم، وهذه رسالة الإعلام الحقيقية؛ فهي ليست في نقل الخبر أو الصورة وحسب، وإنما في التعليق عليها أيضًا؛ وذلك لكي نحدد مواقفنا تجاه ما نسمعه وما نراه، فلله در هذا الهدهد! كيف عرف مبادئ علم الإعلام قبل أهل زماننا بآلاف السنين؟! ولقد قلتُ فيه:
لِلَّهِ قِصَّةُ هُدْهُدٍ نَتْلُوهَا جَاءَتْ بِهَا آيَاتُنَا تَرْوِيهَا جُنْدِيُّ صِدْقٍ قَدْ رَوَى مَا قَدْ رَأَى وَلَقَدْ دَعَا أَنْ يَعْبُدُوا بَارِيهَا هَذَا هُوَ الْإِعْلاَمُ مَنْهْجُ دَعْوَةٍ وَإِضَاءَةٍ عِنْدَ الدُّجَى تَهْدِيهَا فَلِمَنْ يُتَاجِرُ بِالْكَلاَمِ نَصِيحَةً قُولُوا الْحَقِيقَةَ فَالْوَرَى تَبْغِيهَا وَلْتَحْذَرُوا التَّخْدِيرَ فِي إِعْلاَمِكُمْ إِنَّ الضَّلاَلَةَ طَيْفُكُمْ يَحْكِيهَا |
11- الحصافة الذهنية في التمييز بين حقائق الأشياء: لاحِظْ قوله عن عرش بلقيس: ﴿ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ والتنكير للتعظيم، ولاحظ قوله عن عرش الله تعالى؛ كيف جاء معرَّفًا وموصوفًا، مما يوحي بأنه هو العرش الحقيقي الذي ليس كمثله عرش، وأن صاحبه هو الرب الذي ليس كمثله شيء؛ ﴿ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾.
ولاحظ أيضًا: ﴿ يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ والخبء: المخبوء في العالم العلوي أو العالم السفلي، فالسماوات غيب بالنسبة لنا، والأرض شهادة، ولكنَّ باطنَها غيب، والخبء شيء مَغِيب؛ ولذلك يلاحظ الدقة في ذكر السماوات أوَّلاً، لأن الخبء فيها هو غيب في غيب، وأما الأرض فهو غيب في شهادة، فابتدأ بغيب الغيب وهو الأعم، ثم ذكر غيب الشهادة وهو دون الأول، فلله ما أعذبه من كلام! وما أجمل حسنه مِن نظام!
خاتمة:
والخلاصة: لقد تجلَّى في خطاب هذا الهدهد من الآيات البينات ما فيه عبرة، فمَن أراد أن يبحث عن الخطاب الإعلامي فليبدأ مِن القرآن، فإنه كتاب جامع لعلوم الدنيا والآخرة، ولا يقولن مُلْحِد أو مرتاب: كيف يعرف الهدهد فنون الكلام والإعلام وفصل الخطاب؟ فقد قال رب الأرباب: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنعام : 38]، وقال أيضًا: ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [الجمعة : 1].
ولقد كتبتُ هذا المقال على عجالة، ولو أردنا استنباط ما في القرآن من كلام عن الإعلام فهو يحتاج رسائل علميةً عدَّةً، فلْتَشْرَعْ أقلامُ الباحثين مِن المؤمنين في هذا الميدان، والله ولي الأمر كله، وهو عليه التكلان.
آمنتُ بالله العظيم، وبنبيِّه الكريم، وسجَد وجهي للذي خلقه، وشقَّ سمعَه وبصره، وآخِر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.