قصائد في حصار غزة
د. نعيم محمد عبد الغني
مع حلول الذكرى الستين للنكبة الفلسطينية وما يرافقها من شدة الحصار الجائر على الشعب الفلسطيني بصفة عامة، وتضييق الخناق على أهل غزة بصفة خاصة؛ حتى احترق الزرع وجف الضرع، وأصبحت الحياة جحيما لا يطاق، نرى الشعراء العرب يستنهضون الأمة العربية بقصائد تعبر عن أفئدة تحترق ودموع تذرف من رؤية مشاهد الصور التي غدت مألوفة في وسائل الإعلام من شهداء يموتون، ومرضى يئنون، وأطفال يبكون؛ بسبب حصار خرج في قسوته على المألوف من المتعارف عليه من حروب الحصار التي سجلها التاريخ؛ فهو حصار من ست جهات وليس من أربع كما هو مألوف، فهو حصار تجويع من الشمال والجنوب والشرق والغرب، وحصار قتل بضربات جوية تتساقط فوق الجياع وألغام أرضية تبتلع الناس في باطنها.
وفي قراءة لما دون في هذا الحصار من شعر ونشر عبر وسائط الإعلام من إذاعات وتلفيزيون وإنترنت؛ وجدنا تعبير الشعراء عن هذا الحصار ما بين وصف للصور التي بها أحاسيس تعجز العبارات عن وصفها، ومقارنة بين أولئك الصامدين خلف قضبان الحصار، وأولئك المترفين المنعمين في رغد من العيش خاصة من حكام الأمة العربية وأغنيائها، وهم في خضم ذلك التعبير يظهرون الألم وينشدون الأمل، ويدعون لكسر الحصار والثورة عليه، مع ذكر كثير من الحوادث العربية التي رافقت هذا الحصار كفوز المنتخب المصري بكأس إفريقيا عام 2008 ورفع اللاعب محمد أبو تريكة قميصه ليظهر عبارة (تعاطفا مع غزة) مظهرا تضامنه بما يملكه من موهبة رياضية. ولم يترك الشاعر الفلسطيني محمد أبو دية تلك اللفتة حتى كتب قصيدة يشكر فيها الشعب المصري ويخص بالذكر ذلك الفتى محمد أبو تريكة في قصيدة رائعة، ومنها يقول:
ارفع لواء المنتخب
واحصد سنابل من ذهب
سدد وقارب يا فتى
حتى نرى منك العجب
واكتب على القمصان ما
تهوى وسجل ما تحب
وإذا كان هذا التضامن في خضم فرحة بحدث رياضي؛ حيث وجد العرب فيه متنفسا عن مرارة الهزيمة في ميادين كثيرة والانكسار أمام الحصار، فإن الشاعر عبد الرحمن العشماوي يبدي ألمه بآهة يجعلها مفتتحا لأبيات عديدة، فيذكر أن أحلامنا بتحرير الأقصى سارت سرابا، وأن صرح المروءة العربية الذي كان ممردا من قوارير العزة والكرامة قد تهدم، ويتفجع بآلاف القتلى في هذا الوطن السليب، ويصور جنود الاحتلال وهم يدنسون المسجد الأقصى مهشمين العظام في إشارة إلى توجيه إسحق شامير لجنوده بأن يهشموا عظام الفلسطينيين، وفي إشارة لزعماء الصهاينة الذين يضرمون النار ليلقوا فيها هذا الشعب، وهو يصور هذه المشاهد بخلفياتها المعروفة لدى الناس في لغة مكثفة يقول فيها:
آه من أحلامنا صارت سرابا
آه من صرح المروءات تهدم
آه من ألف قتيل وقتيل من
عظام في ربى الأقصى تهشم
آه من دبابة تقتل طفلا
آه من نار على الأحباب تضرم.
أما الدكتور جابر قميحة فيصور صرخة طفل رضيع تحت الحصار بشكل درامي في قصيدة بعنوان (رضيع جائع تحت الحصار) فيصور مشهد الرضيع مع أبويه في خيم الإيواء وقد أخذت الظروف القاسية منهم فأحالتهم أشباحا، ليستغيث من ذل الجوع والفقر، مصورا قسوة قلوب هذا الجيش الذي يستعرض عضلاته على هؤلاء الضعفاء، حارما إياهم من جرعة ماء حتى وهم يحتضرون ويعانون سكرات الموت فيقول:
واكرباه!!!
من ينقذني..
من صرخة هذا الطفل الموجوعْ
من نار الجوع المفجوعْ
وذووه بقايا أشباح ذابلةٍ
قد شاء لهم جيش الخصيانْ
أن يحصرهم
في خيمة ذلّ منتهكةْ
حرموهم حتى كسرة خبزٍ
غمست في ذلِّ الطينْ
حتى لو كانت من غسلينْ
حرموهم جرعة ماءٍ
يرجوها مُحتضرٌ
في لحظةِ غرغرةٍ
تسبح في سكراتِ الموتْ
ثم بعد ذلك يسخر من أولئك الصهاينة الذين يذكرون بعادة الجاهليين في وأد البنات، دون ذنب، غير أنهم فاقوا الجاهليين في وأد الأطفال جميعا ذكورا وإناثا؛ لأن هؤلاء الرضع مجرمون حيث إنهم ولدوا من أبوين فلسطينيين!!، فيقول:
واكرباهُ
لنبض الجوع القاتلِِ
في أحشاء رضيعٍ مجرمْ
إي والله
قالوا "مجرمْ"
يتحمل وزرَ البشريةْ
فأبوه...
فلسطيني لاجئْ
والأم- لسوء الحظِّ-
فلسطينيةْ
عفوًا- يا ولدي-
إذ ذابت فوق شفاك الطفليَّةْ
صرخات الجوع الملتاعةْ
لكن هؤلاء الأطفال في نظر الشاعر أحمد مطر رمز العزة، فهم الرجال الذين يطلب منهم أن يعلموا الرجال معنى الرجولة؛ حيث تحولت مظاهر ضعفهم إلى قوة يكسرون بها إرادة المحتل في إذلالهم فيقول:
يا تلاميذ غزة
علمونا
بعض ما عندكم
فنحن
نسينا
علمونا
بأن نكون رجالا
فلدينا الرجال
صاروا عجينا
علمونا ..
كيف الحجارة تغدو
بين أيدي الأطفال
ماسا ثمينا
كيف تغدو
دراجة الطفل لغما
وشريط الحرير
يغدو كمينا
كيف مصاصة الحليب ..
إذا ما اعتقلوها
تتحول سكينا
والشعراء عامة في نقمة على الأنظمة الحاكمة ؛ فهم في نظرهم قد تخاذلوا؛ ومن ثم نرى هجاء متفاوتا في الحكام جميعا، متخذا وسائل مختلفة، فأحمد مطر يقرن ذكر حصار غزة بهؤلاء الحكام الذين انشغلوا بجمع الأموال والانغماس في الملذات على حساب أولئك الجائعين الذين هم في نظر الشاعر رمز البطولة والشرف؛ فيقول:
بهروا الدنيا
وما في يدهم إلا
الحجارة
وأضاءوا كالقناديل
وجاءوا
كالبشارة
قاوموا
وانفجروا
واستشهدوا
وبقينا دببا قطبية
صفحت أجسادها
ضد الحرارة
قاتلوا عنا
إلى أن قتلوا
وبقينا في مقاهينا
كبصاق
المحارة
واحد
يبحث منا عن تجارة
واحد
يطلب مليارا جديدا
وزواجا
رابعا
ونهودا صقلتهن الحضارة
واحد
يبحث في لندن عن قصر
منيف
واحد
يعمل سمسار سلاح
واحد
يطلب في البارات ثاره
واحد
يبحث
عن عرش وجيش
وإمارة
آه يا جيل الخيانات
ويا جيل العمولات
ويا جيل
النفايات
ويا جيل الدعارة
سوف يجتاحك مهما أبطأ التاريخ
أطفال
الحجارة
ويتعجب عبد الرحمن العشماوي من أولئك الحكام الذين يطلبون العدل من الذين ظلموهم
كاشارون وبوش فيكونون جناة وقضاة في الوقت نفسه فيقول:
تطلب العدل من الباغي عليها
وتنادي من إذا جاوب تمتم
أي عدل يرتجى ممن تغابى
ولما يصنع شارون تفهم
لم يزل يعلن ليلا ونهارا
أن شارون من الأطفال يظلم
آه من باء وواو ثم شين
رسمت صورة وجه يتجهم
يعلن العطف على الباغي ويأبى
أن يرى المأساة في أطفال يتم
والدكتور جابر قميحة يصب جام غضبه على أولئك الحكام فيقول:
أحكَّامَنا
يا كبار المقام خسئتم وهنتم وصرتم سُدى
ألم تشهدوا غزةً في الحصارِ وظلمُ
الظلامِ بها عربدا؟!
وأبناؤها في العراءِ الوبيلِ يهيمون في بردها
شُرَّدا؟!
جياعًا عطاشى ومرضاهمو - ولا رحمةً- يطعمون الردى؟!
هو
الليلُ يغمرهم بالسهادِ وفجرُهمو قد غدا أسـودا
ينادونكم في أسًى مستجيرٍ
ولم يجدوا فيكمو مُنجِدًا
فكيف تنامون يا ويلكم بأحضانِ دفءٍ وحلمٍ
شَدا؟!
وكيف يطيبُ لكم مطعمٌ وكأس تفوق رحيقَ الندى؟!
وهذي حياة نرى
عن قريبٍ تقـودكـمو للـردى أنكـدا
سنترككم لانتقامِ الشعوبِ وما هو إلا
اللظى المُوقَدا
وفي قصيدة طويلة لفاروق جويدة بعنوان (اغضب) ينادي بالغضب من الذين باعوا القضية ولهثوا وراء مصالحهم وتناول أزمات الأمة كلها ليوصي الناس بأن يموتوا في تراب أوطانهم مدافعين عنها فللأوطان سر ليس يعرفه أحد فيقول:
اغضب
ولا تُسمع أحد
أسمع أنين الأرض حين تضم في أحشائها عطر الجسد
أسمع ضميرك حين يطويك الظلام .. وكل شيء في الجوانح قد همد
والنائمون على العروش فحيح طاغوت تجبّر .. واستبد
لم يبق غير الموت
إما أن تموت فداء أرضك
أو تـُباع لأي وغد
مت في ثراها
إن للأوطان سراً ليس يعرفه أحد
لكن الشاعر محمد أبو دية يجعل صواريخ غزة التي يتذرع الاحتلال بأنها سبب الحصار هي شرف ينبغي أن يفخر به فيقول:
صاروخنا من صميم الأرض نصنعه
أحبب بصاعقة من صنع أيدينا
ويذكر بأن أهل غزة أهل جهاد ونضال والمجاهدون يذهبون إلى ساحات الجهاد والكل يدعو لهم بالنصر ويطلب من الله أن يفرج كرباتهم فيقول:
تاريخ غزة موال يردده
جيل جديد على أعدائه فلجا
لم يرض دون نجوم الليل منزلة
يهوي إلى القدس إن لم يتخذ درجا
يجتاح سور العدا صحت عزيمته
بالمصطفى يقتدي من يقتديه نجا
الأم تدعو له والله يسمعه
والطفل يدعو وشيخ بالدعا لهجا
إني رأيت دعاء القوم مرتفعا فوق السحاب
ومن باب السما ولجا
إنا دعونا وللخنساء دعوتها
أبناؤها زلزلوا من يبتغي عوجا
أنجيت ذا النون يا رحمن حين دعا
من بعد يأس رأى الأنوار فابتهجا
فامنن على أهلنا وانصر قضيتنا
إياك ندعو نسأل الفرجا
ويذكرهم الشاعر بأنهم ليسوا بدعا في ما أصابهم من جوع ومسغبة فالنبي قد شد على بطنه أحجارا من شدة الجوع ولهم في النبي –صلى الله عليه وسلم- اسوة حسنة فيقول:
شد النبي على أحشائه حجرا
يوم الحصار وقد عانى من السغب
جدد حياتك في الميدان يا ابن أخي
وانظر إلى القدس عن بعد وعن كثب
وهكذا نرى أن محنة غزة فجرت هذه العواطف لدى الشعراء؛ مما يجعل الشعر بحق ديوان العرب، الذي يسجل أيامهم بأفراحها وأتراحها؛ لتكون وثيقة تاريخية شاهدة على من أحسن وأساء، وعند الله تجتمع الخصوم.