نموذج فذ فريد رائع للقرن الواحد والعشرين
د. محمد الرمادي
فينا - النمسا
بحث الشريفة، ابنة ملك مصر " مَارِيَة بِنْت شَمْعُونَ " رضي الله عنها وارضاها
خطاب ملكي وهدايا ملكية
خطاب ملك من بطارقة الروم { الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ } إلى نبي الإسلام محمد بن عبدالله :
دَعَا ملك مصر و الأسكندرية كَاتِبًا لَهُ يَكْتُبُ بِالْعَرَبِيّةِ فَكَتَبَ إلَى رَسُولِ اللّهِ هذا الخطاب الملكي:
{ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ.
لِمُحَمّدِ بْنِ عَبْدِاللّهِ، مِنْ الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ، سَلَامٌ عَلَيْك.
أَمّا بَعْدُ:
فَقَدْ قَرَأْتُ كِتَابَك وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ فِيهِ وَمَا تَدْعُو إلَيْهِ وَقَدْ عَلِمْتُ أَنّ نَبِيّا بَقِيَ وَكُنْتُ أَظُنّ أَنّهُ يَخْرُجُ بِالشّامِ وَقَدْ أَكْرَمْتُ رَسُولَك وَبَعَثْتُ إلَيْك بِجَارِيَتَيْنِ لَهُمَا مَكَانٌ فِي الْقِبْطِ عَظِيمٌ } .
هدية ملكية كريمة أهداها ملك مصر و الأسكندرية إلى نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكانت إحدى هاتين الجاريتين فتاة قصتنا هذه " مَارِيَة بِنْت شَمْعُونَ " ابنة أحد ملوك مصر - رضي الله عنها وارضاها -.
وهدايا الملوك سجية محمودة منذ القدم وعلى مر الزمان، وتقدير قيمة الهدية يرجع لصفة المهدي إليه وعلو مقام الهادي, مع مراعاة الفترة الزمنية التي أهديت فيها مثل هذه الهدايا، فهذه الهدايا الملكية أرسلت تقريبا منذ أكثر من 1425 عاما ولحرص ملك الأسكندرية أن تصل هداياه وحتى يطمئن بنفسه بأن الركب بالهدايا سيصل إلى نبي الإسلام "أرسل معهم ببَذْرَقَة يبذرقونهم الى مأمنهم" .
ولكن ما الدافع الذي دفع ملك مصر والأسكندرية لهذا التصرف الكريم منه؟
يذكر ابن خلدون في تاريخه :" أن ابن اسحاق قال: بعثَ رسول الله فيما بين الحُدَيْبيًةِ ووفاته رجالاً من أصحابه – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - إلى ملوك العرب والعجم دعاةً إلى الله عز وجلّ. فبعث سَلِيطَ بن عمرو بن عبد شمس بن عَبْدِ وِدّ أخا بني عامر بن لُؤَي إلى هَوْذَةَ بن عليٍّ صاحب اليمامة. وبعث العلاء ابن الحَضْرَمِيّ إلى المنذر بن ساوى أخي بني عبد القَيْس صاحب البحرين وعمرو بن العاص إلى جيفر بن جَلَنْدَى بن عامر بن جلندى صاحب عُمان. وبعث حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إلَى الْمُقَوْقِسِ صاحب الإسكندرية فأدىّ إليه كتاب رسول اللّه ".
ويظهر المشهد واضحا في زاد المعاد حين يقول :" لَمّا رَجَعَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ إلَى مُلُوكِ الْأَرْضِ وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ رُسُلَهُ فَكَتَبَ إلَى مَلِكِ الرّومِ فَقِيلَ لَهُ إنّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إلّا إذَا كَانَ مَخْتُومًا فَاِتّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضّةٍ وَنَقَشَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ مُحَمّدٌ سَطْرٌ وَرَسُولُ سَطْرٌ وَاَللّهِ سَطْرٌ وَخَتَمَ بِهِ الْكُتُبَ إلَى الْمُلُوكِ وَبَعَثَ سِتّةَ نَفَرٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فِي الْمُحَرّمِ سَنَةَ سَبْعٍ من الهجرة .
فالقصة من بدايتها أنه بَعَثَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إلَى الْمُقَوْقِسِ صاحب مدينة الاسكندرية فلمّا َقَدِمَ حَاطِبٌ عَلَى الْمُقَوْقِسِ، قَالَ لَهُ " إنّهُ قَدْ كَانَ رَجُلٌ قَبْلَك يَزْعُمُ أَنّهُ الرّبّ الْأَعْلَى ، فَأَخَذَهُ اللّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، فَانْتَقَمَ بِهِ ثُمّ انْتَقَمَ مِنْهُ فَاعْتَبِرْ بِغَيْرِك، وَلَا يَعْتَبِرْ بِك غَيْرُك". قَالَ:" هَاتِ ". قَالَ:" إنّ ذَلِكَ دِينٌ لَنْ تَدَعَهُ إلّا لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْكَافِي بِهِ اللّهُ فَقْدَ مَا سِوَاهُ. إنّ هَذَا النّبِيّ دَعَا النّاسَ فَكَانَ أَشَدّهُمْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ، وَأَعْدَاهُمْ لَهُ يَهُودُ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ النّصَارَى، وَلَعَمْرِي مَا بِشَارَةُ مُوسَى بِعِيسَى إلّا كَبِشَارَةِ عِيسَى بِمُحَمّدٍ وَمَا دُعَاؤُنَا إيّاكَ إلَى الْقُرْآنِ إلّا كَدُعَائِك أَهْلَ التّوْرَاةِ إلَى الْإِنْجِيلِ، وَكُلّ نَبِيّ أَدْرَكَ قَوْمًا فَهُمْ مِنْ أُمّتِهِ فَالْحَقّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فَأَنْتَ مِمّنْ أَدْرَكَهُ هَذَا النّبِيّ، وَلَسْنَا نَنْهَاك عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ وَلَكِنْ نَأْمُرُك بِهِ". قَالَ الْمُقَوْقِسُ: " إنّي قَدْ نَظَرْت فِي أَمْرِ هَذَا النّبِيّ فَوَجَدْته لَا يَأْمُرُ بِمَزْهُودٍ فِيهِ، وَلَا يَنْهَى إلّا عَنْ مَرْغُوبٍ عَنْهُ، وَلَمْ أَجِدْهُ بِالسّاحِرِ الضّالّ، وَلَا الْكَاهِنِ الْكَاذِبِ، وَوَجَدْت مَعَهُ آلَةَ النّبُوّةِ بِإِخْرَاجِ الْخَبْءِ وَالْإِخْبَارِ بِالنّجْوَى، وَسَأَنْظُرُ. فَأَهْدَى لِلنّبِيّ أُمّ إبْرَاهِيمَ الْقِبْطِيّةَ وَاسْمُهَا: مَارِيَةُ بِنْتُ شَمْعُونَ" {من بنات الملوك}.
قال يونس بن بكير عن ابن اسحاق حدثني الزهري عن عبدالله بن عبد القاري ان المقوقس صاحب الاسكندرية قَبَلَ كتابَ { نبي الإسلام } واكرم حاطباً ( رسول رسول الله ) رضي الله عنه وأحسن نزله وسرحه الى النبي صلوات الله وسلامه عليه وأهدى له جاريتين، احدهما أم ابراهيم .
ثم روي من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن ابيه حدثنا يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب عن أبيه عن جده حاطب بن أبي بلتعة قال:" فأنزلني المقوقس ملك الاسكندرية في منزله واقمتُ عنده ثم بعثَ الي وقد جمعَ بطارقتَه، وقال:" إني سائلك عن كلام فأحب أن تفهم عني". قلت:" هلم". قال:" اخبرني عن صاحبك أليس هو نبي؟!". قلت:" بل هو رسول الله". قال:" فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده الى غيرها". فقلت:" عيسى ابن مريم - عليه السلام -, أليس تشهد انه رسول الله". قال:" بلى". قلت:" فما له حيث اخذوه قومه فأرادوا أن يصلبوه ألا يكون دعا عليهم بان يهلكهم الله حيث رفعه الله الى السماء الدنيا!!". فقال لي: " أنت حكيم قد جاء من عند حكيم. هذه هدايا أبعث بها معك الى محمد وارسل معك ببذرقة يبذرقونك الى مامنك".
هدايا صاحب الأسكندرية
كتبَ السهيلي في روضه الأنف يبين لنا تحت عنوان هدايا المقوقس فقال :" وكان رسول الله قد أرسل إليه – المقوقس ملك الأسكندرية - حاطب بن أبي بلتعة وجبرا مولى أبي رهم الغفاري فقارب الإسلام، وأهدى معهما إلى النبي بغلته التي يقال لها دلدل، وأهدى إليه مارية بنت شمعون، وأهدى إليه أيضا قدحا من قوارير فكان رسول الله يشرب فيه. رواه ابن عباس .
وذكر ابن كثير في بدايته ما كتبه ملك الأسكندرية في الخطاب الملكي الذي حمله حاطب بن أبي بلتعة: "هذه هدايا أبعث بها معك الى محمد وارسل معك ببذرقة يبذرقونك الى مامنك : ثلاث جوار منهم أم ابراهيم ابن رسول الله وواحدة وهبها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحسان بن ثابت الانصاري وأرسل اليه بطرف من طرفهم.
وقد ذكر ابن اسحاق أنه أهدى الى رسول الله أربع جوار احداهن مارية أم ابراهيم والاخرى سيرين التي وهبها لحسان بن ثابت فولدت له عبدالرحمن بن حسان, مع تحف, ثم يكمل ابن كثير وكان في جملة الهدية غلام أسود خصي اسمه مابور, وخفين ساذجين أسودين، وبغلة بيضاء اسمها الدلدل
فتكون هدايا ملك مصر والأسكندرية إلى نبي الإسلام محمد صلوات الله وسلامه عليه :
1 . جاء في رسالة الملك الْمُقَوْقِسِ أحد الملوك من بطارقة الروم إلى نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما نصه :"وَقَدْ أَكْرَمْتُ رَسُولَك وَبَعَثْتُ إلَيْك بِجَارِيَتَيْنِ لَهُمَا مَكَانٌ فِي الْقِبْطِ عَظِيمٌ" . وهذا النص يحتاج منا لتفصيل ومراجعة إذ أن الروايات ذكرت مرة جاريتين ومرة ثانية ثلاث جوار منهم أم ابراهيم ابن رسول الله وواحدة وهبها رسول الله لحسان بن ثابت الانصاري، ومرة ثالثة اربع جوار، وابن خلدون في تاريخه أجملهن بأربع دون تفصيل وكأنه رجح هذه الرواية. ثم يتضح الأمر بأنهما :" خادمتين لمارية وأختها شيرين " ويغلّب ابن كثير في بدايته الجزء السابع الرأي هذا حين كتب:" ويقال اهدى المقوقس معهما جاريتين اخرتين فيحتمل انهما كانتا خادمتين لمارية وشيرين . ولهذا يكون المجموع أربع, وذكر أبو نعيم أنه أهداها - أي مارية - في أربع جواري، وقد ذكر ابن اسحاق أنه أهدى الى رسول الله أربع جوار احداهن مارية أم ابراهيم والاخرى سيرين والله أعلم،
2 . وَغُلَامًا خَصِيّا يُقَالُ لَهُ مأبور , وَقِيلَ هُوَ ابْنُ عَمّ مَارِيَةَ .
3 . وَأَلْفَ مِثْقَالٍ ذَهَبًا"
4 . وَبَغْلَةً شَهْبَاءَ بسرجها بيضاء تُسَمّى: دُلْدُلَ
5 . وَحِمَاراً أَشْهَب وَهُوَ عُفَيْرٌ
6 . وَكُسْوَةً (ملابس) وتفصيل هذه الكسوة: كما جاء عند ابن كثير:" واهدى حلة حرير من عمل الاسكندرية" . " وَعِشْرِينَ ثَوْبًا مِنْ قَبَاطِيّ مِصْرَ "
7 . وَفَرَسًا وَهُوَ اللّزَازُ
8 . وَقَدَحًا مِنْ زُجَاجٍ { قَوَارِيرَ } كَانَ رَسُولُ اللّهِ يَشْرَبُ فِيهِ
9 . وَعَسَلًا استظرفه له من بنها إحدى قرى مصر معروفة بالعسل الطيب .
10 . وخفين ساذجين أسودين
وكان قدوم هذه الهدايا الملكية في سنة ثمان من الهجرة
قبول نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم هدايا صاحب الأسكندرية :
ذكرت الروايات ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل هدية حاكم الأسكندرية فتقول هذه المصادر :" فقبل هديته "
هذه جملة هدايا صاحب الأسكندرية، ولاقت هذه الهدايا قبولا عند نبي الإسلام فقبلها بقبول حسن، فمن يكون هذا الرجل الذي قبلت هديته ؟
هذا ما سنذكره في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى
كُتبَ هذا البحث في مدينة فيينا على الدانوب الأزرق, بقلم د. محمد الرمادي في يوم الأحد 7 جمادى الثاني 1431هـ الموافق 22 ماي 2010.