كتب، وحرب، وحب

فاديا سعد

كان لدينا مدرسة لمادة التاريخ تجعل من الحصة الدراسية ممتعة إلى حدّ أننا لم نكن ننشر الفوضى في حصتها كما نفعل بالحصص الأخرى، ولم يكن سلاحها لسان سليط، أو ساخر، أو كلمات بذيئة، وإنما سعة اطلاع تخفف وطأة حفظنا لعدد لا متناهي من أسماء الخلفاء وتعاقب الأحداث والمعارك وحضارات القوة والأفول.. وهي تلقي علينا دروس التاريخ بمهابة الوقوف أمام ماضي يحفل بليال مشابهة لليالي كتاب "ألف ليلة وليلة"، بنفس المتعة والانسجام مع قصص التاريخ.

كانت تنقلنا للتفاعل مع أحدثه بمهارة لا يستطيع امتلاكها إلا من أحب وأجلّ التاريخ، وكنا ننتقل معها إلى تلك الصور ونُدهش به كأنما نحن أمام فيلم قادر على استلابنا، فلا يترككنا إلا ونحن بداخله ومع أبطاله وضعفائه.

تلك المدرسة لم تكن تلتزم بما هو مقرر بل كانت تقوم بحركات مسرحية قرب السبورة، تجعلنا منبهرات، و تدخلنا عنوة  في "تفاصيل حادث مقتل شجرة الدرّ بقباقيب النسوة آنذاك"  وتسرد قصص المماليك، والملكة زنوبيا، من موسوعتها الذاتية.

معها لم تكن  كلمة "مغول" لتمر مرورا عابرا، و ننساها بعد الامتحان، بل كان مصطلح "المغول" ترسيخا لكل سلوك همجي تجاه الكتب أولا، وتجاه الحياة ثانيا، وأن رمي الكتب، وجهد مؤلفيها: "هو الناقصة الوحيدة في العالم" وكنا نأخذ موقفا منهم حقا، حين كانت تسرد علينا وقائع حروب قبائل المغول على الوطن العربي، و تصف كيف عوملت: "نفائس الكتب التي أنتجتها نوابغ الفكر العربي"

و كيف رموا الكتب في نهر دجلة حتى تلوّن ماءه بلون الحبر، وأذكرها الآن وهي متحمسة. مشدّدة، على كلمة "نفائس" ناقلة لنا إحساس واحد وحيد: "الهمجية"

كنا وقتها ننظر إليها وفي عيوننا نظرة تشبه إلى حد بعيد تلك النظرة الآسرة لعيون الممثلة غادة رزق بدورها المبدع:

 "في شقة مصر الجديدة" بنفس الوجل لعالم موجود في الكتب، وكانت تصور لنا مسجلي التاريخ كأشخاص متميزين، ليسوا كالبشر يكتبون ليل نهار: "هكذا كنت أعتقد أن الكتاب يفعلون" يسطرون وقائع التاريخ والحب والحرب، لأننا كأحفاد لهم أحباء لهم، يريدون لنا سعة الأفق. 

وقد حضرت أستاذة التاريخ في ذاكرتي بقوة حين قرأت هذا الخبر في موقع "دار الكتب الالكتروني" : "أغلق نادي النصر "الرياضي في مصر" باب مكتبة دار الكتب والوثائق الموجودة بداخله وألقى بحوالي 11 ألف كتاب خارجها على الأرض وأرج التراكيب والمكاتب والكمبيوتر والكراسي وكل أدوات الأنشطة الثقافية من المكتبة.. بعد 30 سنة.. من القيام بدورها الثقافي داخل النادي.. ولكن مديرة المكتبة أصرت على عدم إهانة الكتب بهذا الشكل فطلبت منهم إمهال الموظفين لتربيط الكتب لتحتفظ بشكلها خوفا عليها من الدمار الكامل.. وتشبث الموظفون بمكانهم .. وجلسوا أمام المكتبة تحت السلم .. خوفا على مقتنيات المكتبة... السيد مدير عام المكتبات توجه في الحال الى المكان.. وحاول تصوير الحادث.. لكن أمن النادي تهجم عليه وأخذوا منه الكاميرا وفرغوها تماما.. فأسرع إلى قسم الشرطة وقدم بلاغا وحضر الضباط لإثبات الحالة بالفعل.."

مستعيدة هذا الشعور باقشعرار البدن، لحدث غير عادي أو باختصار: "همجي"

معلمتنا لم تكن تدري أن المغول لا دخل لهم برمي "إحدى عشر ألف كتاب" على أرضية نادي رياضي، ونحن أيضا لم نكن لنستوعب أننا سيأتي يوما ونقول: "نفائس سفحت على الأرض"!،  فقد كان هناك جيل يؤمن أن الكتاب لؤلؤة، وجوهرة نفيسة تطل بك على عالم من المعرفة، وكانت معلمتنا من ضمن جيل حين ينطقون بكلمة "كتاب" يحملون معها  مشاعرهم التّواقة لعالم غير عادي.. عالم من الأحاسيس تنقله ملمس الصفحة.

مسكينة مديرة المكتبة لأني أعتقدها من ذلك الجيل الذي آمن أن "المغول" فقط يمكنهم أن يفعلوا ذلك بالكتب، ومسكينات موظفات المكتبة، وموظفوها، اللواتي جلسن يجمعن الكتب ويحرسنها من عبث أرجل أمن النادي الرياضي، لأني أتصورهن كغادة رزق في شخصية الفتاة، التي أرادت البحث عن مدرستها، لتسألها سؤال واحد ألا وهو: " الحب الذي كنت تتحدثين عنه إلينا موجود؟" مع فارق واحد أن الموظفات سيتساءلن: "هل هناك نسخة جديدة عن المغول لم تحدثينا عنها؟"

لكني أذكر أيضا أن أحد نتائج الحروب الصليبية كما ذكرتها كتب التاريخ المدرسي: "انتقال مظاهر الحضارة العربية إلى الغرب عن طريق ترجمة الكتب، وخلاصة الفكر العربي إلى لغاتهم، فكانت سببا من اسباب النهضة الأوربية"

وأنا أستغرب الآن كيف سنسجل الأحداث لأحفادنا، هل نكتب لهم مثلا: الرياضيون على زماننا تمتعوا بأقدام ذهبية وعقول مغولية؟